في «دار الحرب» وفي «دار السلم»… محنة شجرة الميلاد باقية

حجم الخط
1

انتشر على مواقع الأخبار وشبكات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر فيه عدد من المسلحين وهم يضرمون النار بشجرة عيد الميلاد في مدينة «السقيلبية»، ذات الاغلبية السكانية المسيحية الأرثوذكسية، في محافظة حلب السورية. أدّت هذه الحادثة إلى خروج المواطنين السوريين المسيحيين في دمشق وفي مناطق أخرى، في تظاهرات احتجاجية، مندّدين بالاعتداء ومطالبين بحماية حقوقهم وطقوسهم الدينية.
يأتي هذا الاعتداء وسوريا تواجه مخاضات مرحلة انتقالية حرجة؛ تبذل فيها «هيئة تحرير الشام»، كونها الفصيل الأبرز في تبوّء مشهد الإطاحة بنظام بشار الأسد، جهودا كبيرة لاسترضاء دول العالم، خاصة أمريكا والمجموعة الأوروبية، على أمل أن يتم الاعتراف بها كبديل «شرعي» مقبول للغرب وحلفائه، وقادر على تسلّم الحكم في سوريا. وكي يتم لها، ولزعيمها الجولاني، أو أحمد الشرع، ذلك، كان عليه أن يبدأ إجراء التعديلات الضرورية لمحو مستحقات ومخلّفات السنين الماضية، بهدف إخراجه وتنظيمه، من قائمة «الإرهابيين» المطلوبين، وفق إعلان سابق للإدارة الأمريكية.

ما يجري في سوريا يعلمنا أننا في الشرق نعيش زمن المحن الكبرى، والرهان على مستقبل المنطقة أمر مستحيل؛ أمّا الرهان على مستقبل المسيحيين العرب فواضح، ولنا في تبخر أعدادهم المؤلم الجواب

لقد بدأت عملية التغيير لديه منذ الأيام الأولى لتصدر اسمه واسم تنظيمه مشاهد الأحداث السورية. عندها لاحظ العالم تغييرَ لباس المجاهد الشرعي واستبداله بالبدلات الغربية والكرافتات، وبتهذيبَ لحيته، وتبنيه لخطابات خالية من المضامين الجهادية، ولجوئه إلى لغة سياسية مهادنة للغرب، وتساهلَه مع إسرائيل، رغم قيام جيشها باحتلال مناطق سورية جديدة، واستمرار طيرانها بقصف عدة مواقع في العمق السوري وموانئه. كذلك لوحظ تبنيه للغة تؤكد احترامه للحريات عامة، ولحقوق غير المسلمين، المدنية والدينية، سواء كانوا مواطنين سوريين أم لم يكونوا. لم يتأخر رد ممثلي «هيئة تحرير الشام» على حادثة إحراق شجرة الميلاد؛ فقد أدان رجل دين يمثلها، الحدث معلنا أن من نفذوه ليسوا سوريين، وتعهد بمعاقبتهم. وأكّد، وهو يقف إلى جانب رجال دين مسيحيين، أن الشجرة سيتم نصبها وإنارتها بحلول الصباح، كما جاء في الأخبار. وقد نشرت لاحقا بعض الجهات على أن المسلحين الذين أحرقوا الشجرة كانوا مسلمين أجانب ينتمون إلى فصيل يدعى «أنصار التوحيد»؛ في حين أكدّت المصادر أن أولئك كانوا مسلحين من أوزبكستان، انخرطوا، إلى جانب مسلحين من طاجكستان وقرغيزستان، في صفوف تنظيم « «داعش»، ولعب بعضهم أدوارا قيادية ضمن فصائل مختلفة أبرزها «كتائب الإمام البخاري»، التي كانت لها ارتباطات بتنظيم «هيئة تحرير الشام»، كما كان نشر. لا يوجد سبب لعدم تصديق ما نشر باسم «هيئة تحرير الشام» وتأكيد ممثلهم أن حارقي الشجرة ليسوا مسلحين سوريين؛ بيد أن هذا التوضيح لا ولن يُطمئن المسيحيين السوريين ولا السوريين ممن ليسوا من أنصار تلك الفرق الإسلامية ومجاهديها. «فالسورية»، أي الانتماء للهوية السورية نفسها، لم تكن، لا في عهد نظام عائلة الأسد ولا قبله، ولن تكون، محركا للاعتداء المذهبي على مسيحيي سوريا وطقوسهم، بل كانت تاريخيا درعاً يحميهم ويحمي مقدساتهم. كان التطيّف مسؤولا، والأصوليات الدينية في جميع الديانات، هي المسؤولة عن استعداء الآخر المختلف عنهم؛ وفي حالتنا كانت الأصولية الإسلامية، محرّكاً للملاحقات وللاعتداءات على «الشجرة» وتكفير أصحابها المسيحيين، وعلى غيرها من «الشجرات» التي لم تُقبل «كزرع شرعي» في «بساتين» أولئك الأصوليين.
هبّ الجهاديون غير السوريين وتركوا أوطانهم والتحقوا كإخوة بأبي محمد الجولاني وبصحبه في العراق بداية، وفي سوريا لاحقا؛ وبقوا معه بهدف «إنقاذ» سوريا، وقبلها العراق، وتحريرها من حكم الكفرة وترسيخ حكم إسلامي أصولي سيتم «إقناع» من يبقى تحته بضرورة الالتزام بالشرائع والأنظمة، كما يفرضها إسلام تنظيم «داعش» ومثيلاتها من الفصائل، سواء كان مجاهدوها يحملون الجنسية السورية، أم الطاجيكية أم الشيشانية أم غيرها. لا أحد يستطيع أن يتكهن كيف ستنتهي الأزمة السورية، ومن سيرث نظام عائلة الأسد المخلوع، وكيف ستُحكم سوريا، إن بقيت موحّدة؛ بيد أن بوادر ترجيح تأسيس حكم يرأسه أحمد الشرع «المعدّل»، على الأقل في المرحلة الانتقالية، يبدو حلا ممكنا؛ خاصة بعد قيام الشرع بحل معظم الفصائل المسلحة التي نشطت على الساحة السورية خلال العهد السابق، في مسعى منه لتوحيدهم «بوزارة دفاع» أعلن أنه سيقيمها قريبا. ما يجري على الساحة السورية يبدو كمشروع تُرسم حدوده وتنفّذ بالتوافق مع عدة جهات مؤثرة وذات مصالح استراتيجية في المنطقة. هذا ما يمكن أن نستشفه من تلميحات ممثلي الإدارة الأمريكية ومن رد الفعل الإسرائيلي المتأني والحذر، رغم تقدم الجولاني الجهادي صفّ القيادي الأول. ونستشفه كذلك من مواقف مسؤولي بعض الدول الأوروبية والأنظمة العربية والإسلامية، خاصة موقف تركيا التي تتحرك دبلوماسيتها بنية وبشهية بارزتين للتدخل وحسم عدة مسائل تهمها ومن بينها: المسألة الكردية، وأزمة اللاجئين السوريين الموجودين على أراضيها، ومحاولة السيطرة على الأسواق السورية.
لم يكن الاعتداء على شجرة الميلاد في مدينة «السقيلبية» وحيدا من نوعه ويتيما؛ فقد استنكرت بيانات أصدرتها منظمات لحقوق الإنسان سلسلة من الاعتداءات التي تعرّضت لها مزارات تابعة للطائفة العلوية، ومواقع دينية مسيحية في مدينة حماة وغيرها؛ ورُصدت كذلك مظاهر انفلاتات أمنيّة تمت على خلفيات طائفية واضحة. قد تكون بعض تلك الحوادث/الاعتداءات مفتعلة وتقف وراءها مجموعات مغرضة تهدف إلى زرع الفتنة والتشكيك بنوايا «هيئة تحرير الشام» وبقدراتها على ضبط الوضع؛ وقد تكون نية قادة «هيئة تحرير الشام» تعديل فكرهم الجهادي صادقة، وقرارهم الانتقال إلى مرحلة بناء دولة مختلفة، لا نعرف اليوم ما هي مؤسساتها ولا بأي شكل حكم ستحكم، حقيقيا؛ ولكن، لا ذاك التخمين ولا ذاك الافتراض قادران في الحالة التي تعيشها الشعوب العربية على إعادة مكانة العقل إلى وظيفته كعضو متمرد ومنتج فكريا؛ ولا على تغيير عقائد أبناء أمة تشكّلت قناعات معظمهم بتأثير مجموعة موروثات ثقافية ودينية واجتماعية تقليدية، استغلتها، في بعض المراحل، حركات سياسية متزمتة، حولتها إلى «تربة «ينبت عليها الجهل والتخلف وعقائد تدفع أصحابها إلى تقسيم أرض المعمورة بين «دار السلام» «ودار الحرب/ دار الكفر»، وتأمر أتباعها بالجهاد ضد أعدائهم وفق احكام القواعد الشرعية وما ينطبق منها على عامة المسلمين وعلى اهل الذمة ومعتقداتهم، خاصة.
محنة شجرة الميلاد في حلب مثل محنة تماثيل بوذا، التي فجرها الجهاديون في أفغانستان عام 2001، ومثل محنة نواقيس القبطي وكنائسه في مصر. كل المفجّرين يشربون من البئر نفسها، وهي البئر ذاتها التي شرب منها جهاديو «دولة العراق الإسلامية» عام 2010 وفجّروا كنيسة «سيدة النجاة» في بغداد وقتلوا العشرات من مسيحييها وهم يؤدون طقوس صلاتهم داخل الكنيسة. وهي المحنة التي دفعت بأكثر من مليون ونصف المليون مسيحي سوري للهجرة بعد اندلاع المواجهات مع نظام الأسد، وكان قد سبقهم ملايين من مسيحيي العراق إلى المهاجر. ما يجري في سوريا يعلمنا أننا في الشرق نعيش زمن المحن الكبرى والتشرذم، والرهان على مستقبل المنطقة هو أمر مستحيل؛ أمّا الرهان، في المقابل، على مستقبل المسيحيين العرب فهو أمر سهل وواضح، ولنا في تبخر اعدادهم المؤلم الجواب. جميع الذين عارضوا نظام الأسد فرحوا بسبب سقوطه، بعضهم ينتظرون متوجّسين غدهم الآتي؛ وبعضهم فرحوا وما زالوا على قناعة بأن «شباب الإسلام» هم أبطال هذا النصر، ولديهم الثقة حيال المستقبل وأنه سيكون كلّه حتما إسلاميا. جميع هؤلاء وبينهم بعض المسلمين والشيوخ المواطنين في إسرائيل يرون بشعار «الإسلام هو الحل» وبإقامة دولة الشريعة الإسلامية خلاصة أمانيهم؛ وهم على ثقة أن هذا الحل قريب ومقبل.
أما أنا فأقول إن كل الخيارات مازالت متاحة؛ أقول عن سوريا وأتذكر، بخوف وبأسى، كيف افترت أمريكا وحلفاؤها الغربيون والعرب والمسلمون على النظام العراقي وشنوا عليه حربا شارك فيها «جنود الفرنجة/ الصليبيون» إلى جانب جند المسلمين، فهدموا العراق وحوّلوه إلى «محظيات» ما زالت تتقاتل على لحمها القبائل والشرائع. وأتذكر ماذا حصل في ليبيا والسودان واليمن.. وفي أفغانستان ومن تآمر مع من، ومن وقف مع «طالبانها» ومن دعم «كرزايها»، وأيّ نظام حكم يسود فيها اليوم؟ هكذا تسأل الشجرة!
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. رامي:

    مسكينة تلك الديار كم باتت ليلها مخدوعة حتى إستيقظت مفجوعة باكية!!!… متاهة شرق المتوسط، الضحية واحدة والجلادون كثر!… لعبة الأمم…

اشترك في قائمتنا البريدية