في ديوان «جواد ليس لأحد»… شعرية النص بين القراءة والتأويل

يأتي ديوان «جواد ليس لأحد» للشاعر المغربي إبراهيم ديب ــ الصادر عن دار ما بعد الحداثة/ فاس 2007 ــ ليضعنا أمام سؤال ملح: إلى أي حد يمكننا أن نتفاعل مع ديوان ليس لنا معرفة مسبقة بصاحبه، ذلك أن آليات الاشتغال على نص لتوقيع شعريته يكمن في تلك النقطة الفاصلة بين حدود القراءة وحدود التلقي، وتمنح القارئ حرية إنتاج المعنى في مغامرة تأويلية، كفيلة بخلق الاختلاف في الرأي وتفتح النص المقروء على قراءات محتملة، خاصة أن النص الشعري يتحصن بصَنَمِيَتِه، جعلت القراء/ النقاد يجتهدون في إنتاج المعنى، فتوالت النظريات النقدية المساعدة على هذا الأمر؛ البنيوية، ما بعدها، القراءة والتلقي، التفكيك، السيمولوجيا، وغيرها من النظريات الأدبية الحديثة.
لسنا هنا لنخوض في هذا الإشكال، ولكنني سأعود للسؤال الذي طرحته في البداية: إلى أي حد يمكنني أن أنفعل مع نص هو مجموعة نصوص من غير خلفية ولا مرجعية ولا معرفة سابقة؟ وهنا يمكننا أن نتسلح بالقول إن أي نص كان سرديا أو شعريا هو علاقة إعادة توزيع؛ هو ترحال للنصوص وتداخل نصي، وتقاطع ملفوظات عديدة تحيل إلى فضاء خارجي. فالقراءة في عمل يحتاج إلى عناصر تكميلية، إضافة إلى تلك الجوانب التي تحيط به، التي سماها جيرار جينيه (النص المصاحب)، مثل العنوان والعنوان الفرعي والعنوان الداخلي والتصدير والاستهلال، والغلاف والإهداء أو الإهداءات، وإمضاء المؤلف، والمؤلف نفسه.

لا يمكننا أن نفصل الشعر عن رسالته الإنسانية والتعبير عن الواقع الاجتماعي، والتصور التاريخي، والانفعال الواقعي، والصراعات اليومية.

اسم المؤلف
هل يمكن ذلك أن يفيدنا في فك شيفرات هذا الديوان؟ نعم فعندما نجعل الاسم (ديب)، وهي تدريج للكلمة (ذئب)، هذا الحيوان الشرس القوي، إلى جانب بعض المفردات التي جاءت لتضيء جنبات الديوان، نجد أنفسنا أمام اسم ريفي أصيل، مخلص لريفيته، وهنا الريف لا بصفته مصطلحا دالا على البادية، المغايرة للدال المدينة، أو البداوة بمقابل الحضارة، لكننا أمام هوية خاصة تجعل الريف اسما علما لمنطقة تتموقع في أقصى شمال المغرب، والريفي هو ذاك الإنسان الذي ينتمي إلى هذه المنطقة، ويحمل هويتها معه؛ هل صدفة أن تأتي القصيدة الثالثة في الديوان حاملة لعنوان عميق الدلالة «قصائد ضد الزلزال»؟ ألا يمكن أن يكون هذا العنوان عنوانا للديوان؟ أوليس دالا على ما فيه من زلزال؟ قصائد ضد الزلزال أو قصائد تمنع الزلزال؟ أم أنها قصائد محدثة للزلزال، زلزال يعصف باستقرار المدينة الظالمة، العتية، المدينة المحاربة لك أيها الريفي، الذي هو أنا، أنا الشاعر الذي يبدو هادئا ومسالما، لكنه يحمل زلزالا قادرا على إنتاج القصائد..
المدينة تحاربك
أيها الريفي
والضرورات
حتى الحائط
لم يسعفك بشرفة أو باب
يا للصدفة العمياء
العنوان
يمثل العنوان عادة عصارة أفكار التجربة وجماليتها، هنا متلازمة بين العنوان والديوان، وصاحب الديوان. «جواد ليس لأحد» عنوان يحمل ثقلاً دلالياً، فهذا الجواد الكريم الجيد النبيل، ليس لأحد؛ فالمفتقد هنا هو الفارس لا الفرس، وربما تكون الفروسية بما تحمله من معاني الشجاعة والإقدام والفطنة والفراسة، هي المفتقدة هنا وبالتالي، فنحن مقبلون على تشخيص حالة أو حالات من الفقدان لكل معاني الفروسية، والشجاعة والنبل، ألا يحيلنا العنوان، بشيء من الغلو، إلى قصة « دون كيخوتة دي لامنشا» الفارس الذي استيقظ متأخرا، وركب فرسه ثم صار يحارب الطواحين؟ مع أننا إذا تجاوزنا هذه العتبة إلى القصيدة التي تحمل العنوان نفسه «جواد ليس لأحد» نجد إيحاء بهذا المعنى بشكل ما:
أيام تلو الأيام
ولا شيء سوى الأيام
أوتاد بلا ظل
وشمس غزيرة
شاعر طائش يسير سعيدا في الشارع
ويغني لعطش قديم
بشكل ما تجعلنا قصيدة «جواد ليس لأحد» إلى تهرؤ الأنظمة الحاكمة، التي كانت في فترة ما من التاريخ، وأعقاب الحرب العالمية الثانية، ترتمي في أحضان الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، جاء ليكتم أنفاس الشعوب العربية، ثم وبتوالي الهزائم باحتلال فلسطين، ليجعل الشعر مواكبا لهذا الانهزام، وينحو منحى ثوريا قائما على الهوية العربية، بينما قامت أنظمة قسمت الكون لمعسكرين، كان للماركسية فيه نصيب وافر، قبل أن تنقلب الموازين في الشرق؛ خاصة باتجاه اليمين. وهل يمكننا أن نلمس بدرجة ما، حنينا ما من الجواد/الشاعر، إلى تلك المرحلة التي كان فيها الدين مبعدا عن الحياة السياسية؟ مادام قد أقرَّ بمقطع بليغ:
البحر قرَّر مواجهة اليابسة
بمدينة تشرف على الانقراض
قرر أن يكون صديقا لأحفاد باكونين
المتأهبين لكل شيء
الأفيون
والدم
والسهرات الطويلة
وربما لسنا في حاجة إلى سرد ميخائيل باكونين للدين، الذي اتكأ في مؤلفه (الماركسية، الحرية، الدولة) على موقف ماركس في كون السعادة الحقيقية للشعب تستدعي حذف الدين، باعتبارها سعادة موهومة للشعوب، وقول: ماركس (إن الدين أفيون الشعوب).
الاجتماعي والسياسي
هناك وفي مجموع القصائد أجد الشاعر الذي لا أعرفه وكأنني أعرفه، ربما هي المجايلة تجعلني أضعه ضمن جيل الأزمة؛ أزمة الذين عايشوا المرحلة الجامعية في التسعينيات بكل اضطراباتها وانهزاماتها، وهي الفترة التي أتت بعد انحسار التيار اليساري لحساب اليمين داخل الجامعة، قبل أن يغزو العالم بشكل متصاعد. وهكذا تتراءى لنا صورة أخرى لهذا الجواد الذي يتخذ شكل القصيدة، ومفهوما يجعل من القصيدة جوادا، ومن الشاعر فارسا ليسطر ذكريات مجيدة.. ويبدو أن الجواد/ الفرس، وما يحيل من معاني متعلقة به من مثل: الصهيل ـ الحوافر ـ لا تقف عند هذه القصيدة التي أرى أنها مفتاح الديوان، بل تتجاوزه إلى قصائد أخرى.
في نص «صباح 2005»:
تنحى جانبا أيها العام الجديد
كيْ أمر
لي من الأسباب الوجيهة
ما يدفعني لتركك
عبير المستقبل
صهيل امرأة غارقة في القلب
اختزال الروح إلى قصائد جميلة
ورعاية ابني كيْ لا يخطأ موعده…
مع الحظ
لا يمكننا أن نفصل الشعر عن رسالته الإنسانية والتعبير عن الواقع الاجتماعي، والتصور التاريخي، والانفعال الواقعي، والصراعات اليومية. فالقصيدة العربية كانت دائما مليئة بالصخب السياسي، لكونها ولدت من رحم الأحداث في مرحلة ما، مثل ديوان «جواد ليس لأحد».

٭ كاتبة من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوتاج الحكمة/فرنسا:

    هذه المجاملات هي التي اوصلت اللغه العربيه في المغرب الى ما وصل اليه ما ورد في المقال ليس شعراهذا يصنف نثرا شهادة الحق وما دون ذلك فهو شهاده زور حاشاكم

  2. يقول أبو تاج الحكمة:

    شكرا جزيلا للمحرر جعلها الله في ميزان حسناته

اشترك في قائمتنا البريدية