في ديوان “سماء بضفيرتين”… محاولة ترتيب العالم

حجم الخط
0

عن «راية» للنشر/ بيروت، لسنة 2023 صدر للشاعر والمترجم المغربي عبد الجواد العوفير مجموعة شعريّة جديدة بعنوان: «سماء بضفيرتين» تتكون من 96 صفحة من القطع المتوسط، أغلب قصائدها تشتغل على فكرة «الاغتراب الوجودي» بلغة شعرية مكثفة ومختزلة في أحيان كثيرة، لا تبتعد أبدا عن ظواهر الحياة المرئيّة الواضحة وتجاربها، صوب الترميز والغموض والفنتازيا غير المفهومة، ففي كل قصيدة فكرة عميقة تكمّل بعضها في قصيدة أخرى وصولاً إلى المعنى الفلسفي الشامل، الذي يأتي عادة على شكل تساؤل معرفي، لكن بدلالات وإحالات مختلفة كتبها الشاعر بذكاء واضح. في قصيدة: «أطفال يركضون في الذاكرة» ينجح العوفير في استخدام الفعل «يركض» ليصنع منه أفعالا مختلفة بمعانيها، تتحوّل إلى صور شعريّة ذكية متداخلة، تنتهي بالقارئ إلى قفلة القصيدة التي تُطبق عليه بمكيدة الظلام الذي يشبه أرجوحة ما زالت تميل ذهابا ورجوعا في البال كما يصفها الشاعر. ولا أحد منا كما أظن يستطيع أن يُوقف الآن هذه الأرجوحة /المتحركة في الظلام/التي استقرت في البال منذ الصغر، تقول القصيدة:
«أذكر شجرة السرو ذاتها
امرأة بقفطان لا يوجد
وأطفالا كثرا يركضون
أسمع فقط ركضهم
ركضهم السام
الذي يزلزل الأذن
أذكر السروة والمرأة
دون أي علاقة تذكر
وأذكر الركض
ركضاً عالياً كصيحة لا تنتهي
هي الريبة لا تشبه أرجوحة في الظلام
الظلام بحد ذاته أرجوحة في ظلام

وفعل «الركض» لا يتوقّف في هذه القصيدة فقط، بل يستمر في قصائد أخرى، كما في قصيدة «نطل على العالم»:
«نعيد النظر في النوافد فنضحك،
وفي الناس فنتكور خائفين
وفي المطر فيصيبنا القرف
ننظر إلى العالم فنفكر لماذا لم نخلقه بيدينا
الغيوم التي تتكاثر حولنا هي لهاثنا ونحن نركض.»

ثمة تساؤل تطرحه هذه القصيدة التي تنتهي بفعل الركض أيضا، عن جدوى الخلق، إن مشهديّة الكون هنا تثير الضجر كما تصفها هذه الصور المختلفة، والتي جاءت على شكل انطباع سريع لشكل العالم بعين تستيقظ من جديد لتطلّ عليه كي ترى إذا كان قد تغيّر، لكنها تبتئس لرتابته وعدم جدواه لتعاود الركض من جديد،
أما في قصيدة «حلمنا بريشة» فيعود فعل كلمة الحلم هنا على «أنا» الشاعر المتكلم ظاهريا، لكنه في الحقيقة لسان حالنا، ما نسعى إليه من رؤية جمالية خاصة لتوصيف الأشياء الاستثنائية التي لا نحصل عليها كاملة، بل بقرائن تدّل عليها، وأيضا تنتهي باستمراريّة الركض الذي جاء هنا كفعل لا نهائي مع امتداد السماء التي تتوسّع بغيبها ولا تجيب على أسئلتنا المحددة. تقول القصيدة:
«حلمنا بامرأة
فوجدنا الوردة
حلما بريشة
فوجدنا الطائر
حلما بساقية
فوجدنا النبع
والآن أمامنا سماء
نحن نركض
وهي تركض»

وحينما يتوقّف فعل الركض عند الشاعر يسعى إلى الجلوس من أجل تفكيك وترتيب وإعادة بناء حكاية الخلق بشكل آخر، تكون فيه الصدفة/ متمثلة بالريح المتحركة/ هي المعادل الموضوعي لأصل الخروج من الجنة بالنسبة لآدم وزوجته حواء وليست الشجرة الثابتة/ المحرمة قصديا بفعل أوامر الرب، كما في هذه القصيدة القصيرة بعنوان: «إعادة خلق»
«لم يأكلا من الشجرة
خلقتهما ريح قوية
جاءت بغتة
ربما أدركا أخيرا
أن الحقيقة في الريح
يجلسان الآن في مكان من العالم
ويعيدان الخلق»

ولا يقتصر الأمر على إعادة الخلق، كما قرأنا في القصيدة أعلاه، بل إلى طبيعة الخالق المتبدّلة، ووجوده الذي لا يمكن له أن يكون متجسدا في ظاهرة واحدة، أو لغة لها شكلها المعلن ومعناها المحدّد المفهوم، كما في القصيدة التالية: «لغاتٌ لم تنطق»
اللغات تتزاحم على نافذتي كالغرقى
اللغات التي ينطقها قرويون
عمال مناجم
أغنياء
قطاع طرق
بائعو سمك…

في قصيدة: «طائر الغرفة» يحلق الشاعر بجناحين صغيرين مع المرأة/ الحبيبة / المعشوقة/ التي يملأ حضورها المكان بخفة غير عاديّة، حينما يكون الحب بوصلة التنقّل كما في هذه الصور الشعريّة الجميلة التي كُتبت بها القصيدة والتي تختزل وجودها وشكلها/ إلى فعلها العاطفي الذي يشبه فعل الطيران، كما يكتب الشاعر في هذه الأبيات:
في بيتنا طائر صغير
أتذكر لمساتك الصغيرة على كامل الجسد،
لمسات تحلّق سريعا وتحط في أي مكان.
بيتنا كله طائر صغير
يحلّق بنا بعيدا
أكاد ألمس صوت خطواتك
صوت صنبور الماء الذي تفتحينه بخفة»

ولا يقتصر حضور المرأة فقط في هذه القصيدة، بل في قصائد أخرى من المجموعة الشعريّة، كل قصيدة تحاول أن تستخدم رمز المرأة للتعبير عن حالة وجدانية أو إنسانيّة أو ربما عدمية ذاتية فيها من نمط كتابة الغياب، كما في هذه القصيدة بعنوان: «تكليم الجدار»
المرأة التي تكلم جدارها كل ليلة
هي ذاتها التي تعرف أسرار الغيمة وأحوال النجوم
لكن الجدار لا يعرف شيئا عن الحنين
الحنين الذي ينبت كعشب سيئ،
أو في هذه القصيدة بعنوان: «ربما تشابه»
المرأة التي تجلس وحيدة في البار
وترتدي شالا أحمر

كذلك في قصيدة «الغريقة» المهداة إلى فرجينيا وولف، والتي تتبدّل فيها دلالات فعل/ الغرق/ كحدث تاريخي معروف بواقعيته وحكايته إلى فعل شعري مختلف تماما، يسعى لصياغة الحدث بشكل آخر، حيث يكون مكان الحدث/ النهر/ هو الغريق المفترض وتكون (المنتحرة) هي الناجية التي تشبه زهرة القرنفل، كما في هذه الأبيات:
أرى النهر يحلم
أرى الصباح بضفيرتين
وبعينين تشبهان فتاة قروية
أرى اليد التي تصفع، تضمد
وطيرا صغيرا دون اسم ولا يريد اسما
يجلس بين يدي الآلهة
أرى النهر غريقا
زهرة القرنفل الصغيرة
تتفتح ببطء
ويبدع الشاعر في قصيدة: «الليل»
أتأمل الليل
كم هو حاد كشوكة
تنبت فيه عُشبة النسيان ببطء
الليل الذي نسمع فيه الموت وهو يركض على العشب
نسمع فيه امرأة ميتة تبكي
ونرى فيه أشباح خيالة

ولا تخلو المجموعة  من قصائد رمزيّة توظّف العرفاني الروحاني العميق للوصول إلى قول شعري يغلّف ذاته بلغة تهكمية اعتراضية لا تستعير أي مفردة خارج سياق المعنى الملتصق بالتأمل وحركته السارية المتحركة، رغم أنّها موجهة ضد تعبير كاذب يعيشه بعضنا يسعى للإعلان عن نفسه بالضجيج والادعاء، كما في قصيدة «جلبة باكرة»:
أيها المتصوّفة الصغار
لماذا تحدثون جلبة في الصباح الباكر؟
قرأت (السهروردي) حتى صارت عيناي أوسع من العالم
ألا يحق لهذا الإله أن يستريح،
الا يحق لهذه الشجرة أن تنام في ظلها؟
كذلك في قصيدة: «شرح الأبديّة»
«من الشرفة، أرى ملائكة يشرحون الأبدية لصديق
أفكر في ذات الوقت كم هي سعيدة حياة قصيرة في شرفة
أسقي الأزهار
وأضحك بلا سبب»

أو الذاتي الذي يتماهى مع الآخر المميّز، والذي يؤسس على المنجز الإبداعي العالمي، أو الروحاني الصوفي، من خلال استحضار شخصيّة كاتب أو كاتبة، عُرف عن حياتهما شكلاً من المأساة أو الاضطراب النفسي، كالوحدة هنا في هذه القصيدة المتعلقة بحياة الكاتب كافكا، الذي مات دون أن يتزوّج، والذي ارتبطت حياته بحادث مؤلم يتعلق بوالده القاسي الذي تركه ليلة كاملة داخل شرفة بيتهم في البرد عقابا له وهو الصغير لأمه، ما جعله يفقد الأمان في الحياة إلى يوم مماته، تقول قصيدة: «وحيدان في غابة»
« أنا وكافكا وحيدين في غابة
ندفع باب بيت قديم
نجد امرأة مخنوقة بالبكاء
نضاجعها الليل كله»

أو في قصيدة: «وجدنا الحقيقة» التي يشير فيها لشخصية المتصوّف السهروردي الذي عرف عنه الجمع بين الفلسفة والتصوّف تقول القصيدة:
«أتذكّر حين وجدنا الحقيقة
لم نعرف أين نخفيها
قلت: سنخفيها في ضحكاتنا
لكننا من فرط القلق تركناها تفر كطائر فزع
أتذكّر يا سهروردي
كيف لفنا الحزن كمطر لا ينقطع»!

أما الذاتي الذي يبتكر انزياحة في اللغة فنجده في هذه القصيدة المتكاملة: «وردة الفزع»
«أحب فزع النوافذ في البرد
فزع الأشجار في الريح
فزع خطواتي الصغيرة في الزقاق الفارغ
فزع الظلمة حينما نلمسها بخفة
أتأمل زهرة الفزع
التي تنمو ببطء في باحة البيت»

يكتب الشاعر عبد الجواد العوفير قصيدته بتأن وعفوية، ورشاقة لغويّة واضحة، حينما تقرأها لا تحتاج لمقص كي تشذّب صورها الشعريّة ولغتها الصافية، ونهايتها التي تأتي على شكل ومضة عميقة.
أحيانُا تشبه البرق المضيء
وأحيانا حافة السكين اللامع.

شاعر عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية