في رثاء المناضلة العراقية يسرى سعيد ثابت

حجم الخط
2

إلى رفيقة العمر الحبيبة الصديقة الزوجة يسرى…
لا أنت لم ترحلي أنت في كل نفس من أنفاسي ..

ارتبطت حياتنا معاً على مقاعد الدراسة في الجامعة في بغداد على ضربات التعذيب المشترك، وعلى بدايات الحياة العائلية وصعوباتها. طريق الحياة لأمثالنا صعب ووعر.. لكن كنا دائماً نتماسك ونتأبط ذراعي بعضنا ونمضي نتغلب على الصعاب، أو نوطد نفسينا على التعايش معها. لم تكوني زميلة دراسة، أو رفيقة درب أو صديقة عمر، أو زوجة لقد كنت لي كل ذلك. أتذكر وأعرف أنك تتذكرين عندما كنا نخرج من الصف إلى الساحة في الكلية، أسرع لأحمل لك الكرسي لأنني أعرف أنه يصعب عليك حمله، ويصعب عليك أكثر طلب المساعدة في حمله لك.
كان بيتكم في الأعظمية ملجأً للطلاب العرب غير العراقيين في كلية الآداب والعلوم، حيث كانت والدتك نبيهة مريود تصر على دعوتهم جميعاً على الغداء في كل يوم جمعة قائلةً، إنهم بعيدون عن أمهاتهم وعلينا أن نشعرهم بأنهم ليسوا وحيدين. والدتك نفسها التي أجبرها الاحتلال الفرنسي على ترك أرضها وبيتها في سوريا واللجوء إلى العراق.
يسرى هذه الفتاة النحيلة، الرقيقة بشعرها الأشقر وقامتها الممشوقة. الجميلة، قوية الشخصية، شديدة الاعتداد والاحترام لنفسها وللآخرين، المهتمة بدراستها اهتماماً شديداً، والتي تهتم بمن حولها، وتبذل جهدها لمشاركتهم همومهم، والتي لا تسمح للضعف أن يتحكم بها. تذكرين عندما حدث العدوان الثلاثي على مصر، وخرج بعض الطلاب والطالبات يتظاهرون من كلية الآداب والعلوم، التي كان مقرها وقتئذ في باب المعظم.
بعدما لوحقت بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع والهراوات من الشرطة، لم يثنك ذلك على الاستمرار في التظاهر، ثم لجأت مع بعض المتظاهرين إلى سوق الصفارين الواقع قرب جسر الكرخ من ناحية الرصافة؛ تفرقنا وأضعنا بعضنا وأخذت أجوب المكان أفتش عنك فلاحظني أحد أصحاب الدكاكين، وأخبرني أنك مع الفتيات في أمان وخرجت الفتيات وخرجت معهن وأصررت على أن لا تذهبي إلى بيتك إلا بعد تأمين كل الفتيات بوضعهن في تاكسيات إلى بيوتهن.
هذه الفتاة رقيقة البنية، قوية الإرادة، شديدة الاعتزاز بنفسها إنها ابنة سعيد الحاج ثابت، أبرز المدافعين عن عروبة الموصل اتجاه محاولة التتريك، وأبرز المعارضين لحكومة نوري السعيد في البرلمان العراقي، ورئيس ومؤسس لجنة إنقاذ فلسطين. خالها الشهيد أحمد مريود الثائر على الاحتلال الفرنسي لسوريا، الذي استشهد في القتال ضد هذا المحتل. لم تتبجح يسرى يوماً بموقف أبيها أو خالها، أو أخيها أو بموقفها، بل اعتبرت دائما ذلك موقفاً طبيعياً وواجباً. بعد حركة الشواف لوحقنا من قبل زملائنا الشيوعيين في الكلية نفسها، الذين كنا نعمل معهم في الجبهة الوطنية التقدمية ضد نظام نوري السعيد انقطعنا عن الدوام. ألقي عليّ القبض من قبل هؤلاء الزملاء أودعت في موقف السراي. وهؤلاء الزملاء أنفسهم ألقوا القبض عليك من بيتك وأودعت معي في الموقف نفسه. وبدأت حفلات التعذيب الرهيب لك ولي في المكان نفسه وأمام بعضنا لإضعافنا ليس فقط من قبل الشرطة، لكن من قبل القيادي الشيوعي يعرب البراك وزبانيته. تعرضنا معا للضرب ولتعذيب مبرح أمام وبجوار بعض، والتلويح بالمسدسات والتهديد بالقتل؛ وكان مؤلماً على كلينا أن من يشرفون على التعذيب ويوجهونه، كانوا زملاء لنا في الكلية نفسها، مع الشرطة؛ لكنك كنت صابرة صامدة على كل هذا التعذيب. بعد حركة الشواف انقطعنا عن الدوام، وكذلك فعل كل الطلبة العرب الذين تم تسفيرهم من بغداد إلى القاهرة.

وقفة الصمود التي وقفتها بثبات، ودون خوف بشجاعة نادرة، أرادت بها أيضاً أن تثبّت نفوسنا حتى نستطيع مواصلة التحمل؛ كان صوتها ثابتا ولم يشغلها الخوف من السحل والإعدام، رغم كونها في العشرينيات من عمرها، وخطر الموت الأكيد يحوم في قاعة المحكمة؛ ما شغلها هو إيمانها بنفسها أولاً، وإيمانها أن لا طريق أمامها إلا الثبات.

وبعد محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، وإلقاء القبض على المجموعة التي حاولت اغتياله وعلى عدد كبير من البعثيين، وذوي التوجه القومي، وتم تقديمهم للمحاكمة أمام محكمة المهداوي. تم اعتقالك من بيتك وتقديمك للمحاكمة؛ كنت تقفين معنا في قفص الاتهام في محكمة تحولت لمكان للتهريج، وبث الرعب وإرهاب المعتقلين، والحبال تتلوى في قاعة المحكمة والأصوات تتعإلى تطالب بإعدام المتهمين، وتقاطع أجوبتهم بأصوات، اعدم اعدم.
كانت المفاجأة التي أحرجتهم وجعلت المهداوي يفقد أعصابه، ويخور عندما وقفت هذه الفتاة الرقيقة كالطود تجاوب وترد بثقة وشجاعة، ودون تردد أو خوف، ولا تسمح للمهداوي بالتجاوز، ما جعله يفقد أعصابه وينهال بالشتائم والبذاءة، ويسرى تهزأ به وتحاصره بدل أن يحاصرها، تعلن إيمانها بالعروبة وبمستقبل هذه الأمة. كأنها بوقفتها هذه، استدعت مواقف أبيها وخالها وشهداء عائلتها، الذين استشهدوا تباعاً في الوقوف ضد نوري السعيد وحلف بغداد، وبعدها ضد المد الشعوبي الذي غزا العراق أيام عبد الكريم قاسم.
وقفة الصمود التي وقفتها بثبات، ودون خوف بشجاعة نادرة، أرادت بها أيضاً أن تثبّت نفوسنا حتى نستطيع مواصلة التحمل؛ كان صوتها ثابتا ولم يشغلها الخوف من السحل والإعدام، رغم كونها في العشرينيات من عمرها، وخطر الموت الأكيد يحوم في قاعة المحكمة؛ ما شغلها هو إيمانها بنفسها أولاً، وإيمانها أن لا طريق أمامها إلا الثبات.
أودعت يسرى في سجن النساء في بغداد، وعانت ما عانت من الأذية، ولم يزرها أحد ولم يعف عنها أحد، كما حاول البعض أن يشيع؛ ولما أكملت محكوميتها عادت إلى جامعتها برجل مكسورة، وقابلها طلاب الجامعة الشيوعيون بالتهديد والصراخ عليها على باب الجامعة، والهتافات ضدها والتحريض عليها، لم يثنها هذا عن إتمام دراستها، ونحن بقينا في السجن وكانت تتحمل عبء زيارتنا وإطعامنا، وكتابة الرسائل لنا ونقل الكتب والروايات العالمية على ورق السجائر، حتى تستطيع تمريرها بحيل كثيرة أحيانا لا تمر على السجانين.
بالنسبة لي ولبقية المحكومين بالإعدام، فقد صدر بعد حوالي ثلاث سنوات عفو عنا بسبب ضغط الشارع العراقي، والتعاطف الشديد من الشارع العربي، وساعد الانفصال بين سوريا ومصر، ومحاولة قاسم التقرب من التيار القومي، على اتخاذ مثل هذا القرار، وكذلك توتر علاقات قاسم مع الشيوعيين. اتخذت سلطات عبد الكريم قاسم قرارا بتسفيري خارج العراق وتم إرسالي إلى لبنان ومن لبنان ذهبت إلى دمشق. بعد بضعة أشهر أتت يسرى إلى سوريا وتحملنا معاً صعوبة بداية تأسيس بيت وحياة جديدة.
وبعد ثورة التيارات القومية في العراق والإطاحة بعبد الكريم قاسم، قررنا العودة للعراق وبشكل أساسي لإكمال دراستي في كلية الآداب فرع الاقتصاد، التي سبق أن فصلت منها. التحقت بالجامعة لبضعة أشهر، لكن زملاء الأمس لم يحتملوا بقاءنا، وتم إلقاء القبض عليّ وتوقيفي وتسفيري إلى سوريا من جديد. والتحقت يسرى بي في سوريا مرة أخرى؛ وعملت في الشركة السورية للنفط، ثم في المؤسسة العامة للسينما، ثم من جديد في الشركة السورية للنفط، حيث اصطدمت مع أحد الموظفين بسبب شماتته بأطفال ملجأ العامرية في بغداد، فأنهوا لها عقد عملها. اتخذت يسرى لاحقاُ قرار مرافقة ابنتنا هديل لدراسة الطب في فرنسا، فرفضت أن تتركها تذهب وحدها، فتخلت عن بيتها وجوها وحياتها وعاشت سنين الغربة مع هديل حتى أتمت اختصاصها في جراحة العيون ثم عادت لسوريا. أتيت أنا من بضعة سنين إلى الجزائر للعمل في شركة سورية هنا، ولما تعذر اللقاء مع ابنتنا قررنا أن نجتمع في الجزائر. رجوناها أن تلحق بنا لأننا اشتقنا لها أتت وتحملت مشقة العيش في هذا البلد الصعب.
هل قررت يا يسرى أن ترقدي رقدتك الأخيرة هنا. لا أبداً. كنت تحلمين أن يكون مثواك الأخير في بغداد على ضفاف دجلة، وفي الساعات الأخيرة في ليلة رأس السنة طلبت مني تعجيل عودتك لدمشق ووعدتك بذلك. ما زلت يا يسرى عند وعدي، وسأعيدك لبلادك وأتمنى وأعمل لتكون رقدتي الأخيرة إلى جانبك. أنا أعتب عليك. لماذا تركتني وهديل وحيدين وضائعين. لن أقول لك وداعاً، فمن يستطيع أن يودع روحه، بل أقول لك إلى اللقاء.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالوهاب القصاب:

    يسرى يعيد ثابت طود عروبي شامخ وقفت وقفة عز الهمتنا ونحن فتيان بالتمسك بعروبتنا ايما امساك و أنبت موقفها الشجاع فينا حب الوطن والامة من خليجها الى محيطها
    يرحم الله الراحلة الكبيرة و يكرم نزلها و ينير مثواها
    ويمد في عمر رفيق دربها الاستاذ حميد مرعي المناضل الشجاع و ليحفظ اولادها هديل و اخيها
    انه سميع مجيب
    عبدالوهاب القصاب
    عروبي عراقي

  2. يقول jean abdallah:

    حميد ويسرى ثنائي قومي عربي ناضلا ضد الديكتاتورية في العراق ثم في سوريا واستطيع القول ان المثل سيضرب بهما في تاريخنا الف رحمة عليك يا يسرى والعمر الطويل لك ايها الصديق حميد وللا خت هديل

اشترك في قائمتنا البريدية