في رواية «بنت من شاتيلا»… تروية المسرح لخلق رواية تجريبية ممسرحة

فراس حج محمد
حجم الخط
0

يفتتح الناقد الفلسطيني فيصل دراج كتابه «ذاكرة المغلوبين- الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي» بهذا المقطع من شهادة فلسطيني نجا صدفة من مجزرة صبرا وشاتيلا: «امرأة شابة مالت إلى جانبها الأيسر، وثديها الأيمن عارٍ، على فمها دم جاف يدل على أنها قتلت من ساعات. إلى جانبها طفل يصدر صوتا أقرب إلى الأنين، ويمد يده باتجاه ثدي أمه القتيلة. يقول مهاجم أول: هذا طفل حيّ، ويمد يده إلى مسدسه، يرد عليه مهاجم ثان: اتركه سيموت من الجفاف. بعد قليل يمر مهاجم ثالث يمسك بالطفل ويرميه عاليا في الهواء، يأتي صوت السقوط أصم، ويتدحرج شيء بلا صوت». (وزارة الثقافة الفلسطينية، ط 3، 2019)
يبدو المقطع حادا في بلاغته، يغني عن كثير من الشرح، مسرح الجريمة يخيم عليه السكون، وشبح الموت يتجول بسهولة ويسر كأنه امتلك الحياة والموت، والتأرجح بينهما، كما يبدو في هذا الجزء من الشهادة عمق الخلل الإنساني الكافي لإحداث مجزرة، تقتل النساء والأطفال، باعتبارهما حسب القانون الدولي الإنساني المعطل في الحالة الفلسطينية من أكثر الفئات الضعيفة، التي يجب ألا تقتل ويجب أن يحافظ على حياتها. تبدو المفارقة عارية كالحقيقة تماما، يقتل الأطفال والنساء والمدنيون بدم بارد، وهكذا اكتملت عناصر جريمة بشعة صورتها شهادة الناجين من المجزرة.
ويحيل هذا المقتبس إلى استحضار عناصر مسرحية فيه، بدون أن يقصد الشاهد الحيّ أن يقدم عرضا مسرحيا، لقد كانت شهادته تلك مشهدية مسرحية، كأنها جزء من مسرح تجريبي، خشبته أرض المجزرة، وينفذ الجنود أدوارهم بتصاعد الحركات الدرامية، وصولا إلى النتيجة، إن النتيجة بحد ذاتها مشهد مسرحي تراجيدي، خالٍ من الرحمة. ويقود إلى الحديث عن الكراهية المنفذة بسيناريو ممسرح جيدا، وتبدو مشهديته التي لا تحتاج إلى بلاغة إضافية ليدل على المجزرة، والبحث في ذاكرة المغلوبين الذين يتخذون صفة الضحايا، ومن بين الضحايا ثمة ناجون أيضا يوثقون الحدث، هذا الحدث الذي يتنمذج في صورة أخرى في رواية «بنت من شاتيلا» للكاتب أكرم مسلم، هذه النمذجة التي صارت دليلا وليس شاهدا على جريمة محكمة في مسرح جريمة امتدت إلى ثلاث وأربعين ساعة معبأة بمشاهد متصلة من القتل الوحشي العنيف. ما بين مسرح الجريمة الفعلي والرواية صلة كبيرة، وتتخذ الرواية من المسرح ومفرداته متكأ فنيا، فتتم «تروية المسرح»، جعله رواية، لتخلق الرواية شكلها الفني الذي يحمل المضمون، فثمة أبطال ومسرح ومشاهَد ومشاهدون، لتتبادل المسرحية والرواية حمل الرسالة وتكون بليغة في حمل هذا المضمون التراجيدي. لقد بنيت الرواية بناء مسرحيا، فتفتتح بمشهد افتتاحي: «مسرح معتم بدون جمهور أو ممثلين»، عدا صوت أنثوي ممزق يتحدث، هذا المشهد الافتتاحي يستمر ليظهر في نهاية الرواية بالمواصفات نفسها: «مسرح معتم بدون جمهور، تظهر على الخشبة أنثى». وما بين المشهدين ثمة أحداث ومشاهد أخرى مسرحية، تعتمد على المفارقة اعتمادا كليا.

تبدو المفارقة عارية كالحقيقة تماما، يقتل الأطفال والنساء والمدنيون بدم بارد، وهكذا اكتملت عناصر جريمة بشعة صورتها شهادة الناجين من المجزرة.

ثمة وعي لدى الكاتب على توظيف الأدوات المسرحية في الرواية، عدا عن المشاهد واللقطات التي ترسمها الرواية، هناك إثبات لمفردات الفن المسرحي، وقد أشار الكاتب إلى ذلك في شهادته الإبداعية التي قدمها في «ملتقى فلسطين الثاني للرواية العربية» الذي انعقد في شهر يوليو/تموز 2019، فيعنون تلك الشهادة بهذا العنوان اللافت للانتباه «الرواية عندما تغري المَسرح»، وبعد أن تحدث عن تجربته مع المسرح من خلال روايته «التبس الأمر على اللقلق» التي تحولت إلى مسرحية تحت عنوان «رائحة حرب»، ختم أكرم شهادته تلك بقوله: «في بنت من شاتيلا صرت أكثر انتباها للمشهدية المسرحية، وفيها تستحدث الناجية «الوحيدة» خشبة مسرح في مخيلتها كفضاء مفترض ومفتوح لقول الإحداثيات الأبشع عن المجزرة البشعة، خشبة مؤهلة ليتناوب على صعودها ضحايا المجزرة الـ4 آلاف، واحداً بعد آخر». (نشرت في موقع منصة الاستقلال الثقافية الإلكتروني، بتاريخ: 17-7-2019). وهنا تبرز أسئلة مهمة تسائل البنية الروائية التي جاءت مزيجا من الرواية ومن المسرح، أخذت من المسرح عناصر وتخلت عن عناصر أخرى، كأن الكاتب في هذه النص عمل مزيجا عبر تروية المسرح، وإخضاعه لشروط السرد الروائي، بالقدر الذي جعله يقوم بمسرحة الأحداث الروائية.
يرسم أكرم في روايته مشاهد افتتاحية لفصول الرواية، وعند النظر إليها وتحليلها فإنها تشتمل على كثير من عناصر المسرح، المكان والضوء والستارة والعدسة والمصورين. (المشهد الأول)، وفي المشهد الثاني يبدو الصوت أوضح تلك العناصر، مع استحضار مشهد صلاة الجنازة، وينتقل في المشهد الثالث إلى رسم مشهديّ قائم على تمثيل مسرح الجريمة في الوقت والمكان، وفي المشهد الرابع «مشهد بالأبيض والأسود يتسيده فدائي جريح (1968)»، والمكان «الكرامة» والحدث يحيل إلى معركة الكرامة. ولهذا المشهد رؤيتان وليس رؤية واحدة، هنا تختلف طبيعة المشهد وتفسيره، وبالتالي ما تدل عليه. رؤيا يفصح عنها الفصل الخامس المخصص للحوار بين البنت والأب الفدائي، فثمة التباس في الفعل الروائي لذلك اقتضى تقديم مشهدين مسرحيين لشخصية واحدة.
ينتقل الروائي في مشاهده إلى عام 2000، والمشهد ملون والتغيرات الحادثة على المشهد المسرحي الأصلي «صار الباب الخشبي حديديا، وبدل الجثث، يلهو في الخلفية أطفال كثيرون أنجبهم من زواج مبكر»، يربط أكرم هذا المشهد بالمشاهد السابقة، ويلفت نظر المشاهد/ القارئ إلى هذا التحول الحادث. وقد سبق ذكره في المشهد الثالث. وفي المشهد السادس في هامبورغ، «مشهد قصير متكرر (يتغير فقط لون البلوزة)، ثمة عناصر مميزة في هذا المشهد، الكابوس المتكرر، وساعة المنبه، والشخصية التي تحاول أن توقف المشهد المتكرر بساعة المنبه المضبوطة على وقت محدد. (السادسة إلا أربع عشرة دقيقة).
وتعود الأحلام مرة أخرى في المشهد السابع ويستحضر الروائي شخصية الخطاط ابن مقلة من القرن التاسع الميلادي، وفي هذا المشهد العجيب ثمة غموض كثيف، يشبه غرابة الحلم نفسه، كما عبّر عن ذلك المؤلف نفسه في تذييل المشهد بعنوان فرعي «حيرة المؤلف»، وهو الفصل الذي يسرد فيه الروائي كيف حدث ما حدث بين الضابط وزوجة المقاتل، حيث رآها «خارجة من الحمام ملتفة بمنشفة برتقالية يانعة»، يلتحم الجسدان، ثم ينطفآن في دقائق. لقد استبق الروائي الحكم عليه وربما لومه وتعنيفه عندما بيّن في المشهد المسرحي الافتتاحي بطريقة الإيحاء والحلم: «أقسم المؤلف لابن مقلة أنه لم يدبر شيئا، وأن الأمر خرج عن سيطرته تماما. قال: لقد جمعهما الباب، كان من المفترض أن يعطيها مغلفا ويمضي، وفي رمشة عين التحما مثل جيشين، مثل جيشين كاملين يا رجل! أتريد مني أن أفصل بين جيشين ملتحمين؟». في هذا المشهد ربما يحاكم الروائي نفسه قبل أن يحاكمه القارئ والناقد، ففكرة سقوط الفدائي والمقاتل فكرة غريبة، ولكنه أراد أن يسير وراء السرد ومتعته المبررة، وصدفته المواتية، فكأنه يقول لم تطاوعني الشخصية وفرّت من السرد، فحدث ما حدث. إنها طريقة طريفة في تأمل العمل والمشهد ككل. ولكن يبقى السؤال: ما شأن خطاط ميت من القرن التاسع الميلادي ليحشر أنفه في تفصيل روائي في القرن الواحد والعشرين؟ ربما يجد القارئ إجابة لامنطقية في استحضار ابن مقلة، ولكن من قال إن حدوث مجزرة بهذه البشاعة هو أمر منطقي مبرر؟ رمى الروائي أكرم السؤال في المشهد وترك الإجابة على لسان التاريخ.

وهكذا يكون الروائي  قد أغلق الدائرة، يفتتح الرواية بمشهد مسرحي وينهيها بمشهد مسرحي. والملاحظ على كل تلك المشاهد المسرحية توظيفها لمفردات المسرح التجريبي، وكسر القواعد التقليدية للمسرح.

ينتقل العرض المسرحي مرة أخرى في المشهد الثامن إلى هامبورغ، وتحديدا في «قصر الثقافة»، حيث يقدّم الشاب الأنيق محاضرته، ثمة عناصر مسرحية بارزة كثيرة في الفصل التاسع من الرواية، العرض الذي تؤديه فرقة (فن- شرق) التي تعمل فيها حورية «بنت من شاتيلا»، عرض مسرحي رمزي يقوم على التراث الفلسطيني، ومن ثم محاضرة الشاب الأنيق أمام الجمهور، وتدخل السيدة ومحادثتها، وتدخل «الظلّ» المعترض على ما قال الشاب الأنيق، واللغة المتوترة التي رد بها الشاب الأنيق عليه. في هذا الفصل يندمج الروائي بالمسرحي، ويصبحا لحمة واحدة. وتختتم الرواية في المشهد التاسع بعرض مونودرامي للمرأة المغتصبة، وهي إحدى ضحايا المجزرة.
وهكذا يكون الروائي  قد أغلق الدائرة، يفتتح الرواية بمشهد مسرحي وينهيها بمشهد مسرحي. والملاحظ على كل تلك المشاهد المسرحية توظيفها لمفردات المسرح التجريبي، وكسر القواعد التقليدية للمسرح. فيظهر البطل الواحد الواقف على المنصة ليتحدث حديثا طويلا، كما أظهر في المشهد الخاص بابن مقلة أنه «لا سلطة للمؤلف على الشخصيات»، كما أن التداخل بين الجمهور والممثل المسرحي، وارتجال النص كما جاء في الفصل التاسع، كلها تحيل إلى مميزات المسرح التجريبي، وتعيد هذه الرواية التذكير بالجهود المسرحية العربية التجريبية، خاصة تجربة الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس في رائعتيه: «مغامرة رأس المملوك جابر» و»الفيل يا ملك الزمان». عدا هذه المشاهد المسرحية في مفتتح تسعة فصول من الرواية الاثني عشر فصلا، لم يتخلص المتن الروائي من المفردات المسرحية، فكانت حاضرة لفظا وسردا، وأحب أن أشير إلى ملمح ظاهر في لغة الرواية القائمة على المفارقة، هذه المفارقة التي أكسبت أيضا المتن الروائي بعدا مسرحيا لتتعمق الرواية في «تروية المسرح»، وإعطائه شهادة ميلاد نص مهجّن بكيمياء اللغة والعناصر الفنية المسرحية والروائية ليقف النص بين الرواية والمسرحية أو ربما يخلق اسما له وحده من بين كل تلك العناصر. ولعل الدارس يرضيه، إلى حين، أن الرواية فن يستطيع استيعاب كل الفنون الأخرى بما فيها المسرحية، ولكنني لست مطمئنا إلى هذا الاستسهال في الحكم.
ربما تؤكد تلك المشهدية التي افتتحت بها هذا الحديث والمنقولة من كتاب الدكتور فيصل دراج عظم الجريمة، أي جريمة، ليكون مجرّد حدوثها مسرحية كبيرة، تستدعي تخطيطا وتنفيذا لسيناريو محكم و»سينوغرافيا» كاملة العناصر، وتلتقي في ذلك المتون الإبداعية السردية مع الوثائقية في ملاحظة مثل هذا الربط ما بين الجرائم والمسرح التي قد تسللت إلى مفردات الجريمة، فصار «مسرح الجريمة» التعبير الحقيقي البعيد عن المجاز حاضر ورجال العدالة يعاينون مسارح الجرائم المختلفة، فما بالكم بجريمة بهذا الحجم ومسرحها الفضاء المتسع الممتد؟ فلا شك في أنها تحيل إلى المسرح العبثي الذي مهما تمادى في عبثيته لن يصل إلى بشاعة الحقيقة وعبثية وجودها كما هو في تلك الشهادة التي يفتتح بها الدكتور درّاج كتابه السالف الذكر.

٭ رواية للروائي الفلسطيني أكرم مسلم، صدرت مؤخرا عن دار الأهلية في عمان.
٭ كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية