في روايته «سبع حركات للقسوة» الصادرة عن دار سما للنشر والتوزيع في القاهرة، يهديها إلى أمه معلنا دَيْنه لها لأنه صنيعتها، مفتتحا إياها بمقولة أفلاطون: القتلى وحدهم هم مَن يرون نهاية الحرب، ويستهلها بمشهد يفوح تعاسة وأسى: رأيت تعاستي في اللحظة التي حلمت فيها أنني وجدت ثمرة تفاح، يصور الروائي المصري مصطفى البلكي تأثير الحرب على الإنسان، إذ تحوّل كل شيء إلى أنقاض وخرائب، إلى جانب ما تُحدثه من آثار سلبية في نفوس من يشاركون فيها، أو من تلحق بهم أضرارها وويلاتها.
الرواية التي تقول إن الإنسان، يمكنه أن يرحل في أي لحظة، وكأن شيئا لم يكن من قبل، إنني في أي لحظة يمكن أن أتبخر وأترك عباءتي فارغة كبصمة تثبت أني سكنت هذا العالم في يوم من الأيام، تشير كذلك إلى أن الإنسان يفتقد في أوقات الحرب للأمان، ويسكنه هاجس أن المقبل ربما يكون هو الأسوأ، مما يحول الحياة إلى جحيم لا يطاق: لا خير هناك، الجميع ينتظرون الشر.
سقوط الأقنعة
«سبع حركات للقسوة» التي ترى أنه أمام الجوع تسقط كل الأقنعة، وأن الموت هو الوطن، ترصد زيف السياسيين وكذبهم وكلامهم المعسول البعيد تماما عن الواقع، الذي لا يحرك ساكنا داخل أجساد المتعبين الذين يعانون من واقع بائس، بينما يتحدث السياسيون، كما لو أن كل الأشياء تسير على ما يرام، ترفض الحرب وتعلي من قيمة القراءة، واصفة إياها بأنها تزيد القارئ وسامة وجمالا، يمكننا أن نحصي فيها عدة أنواع من القسوة: قسوة الحرب وما تُحدثه من دمار: تبّا لكل حروب الدنيا، قسوة الاحتياج والفقر، قسوة الذل وسلب الكرامة، قسوة الفقد «مشاعر، أشخاص، أشياء» قسوة استلاب الحقوق، قسوة تكاتف الأحزان والأوجاع، قسوة قتل الرغبة لدى الأنثى: إلا أن الشغف عاد من زاوية أخرى، أخبرني أن القسوة كلها في تلك اللحظات التي أشتاق فيها لأنامل زوجي، ولا أجدها، ليكتب أبجدية مختلفة على أديمي. وكما نقلت براء الراوية، على لسان زوجها: لكل جسد رائحته الخاصة، ومهما بالغ المرء في التعطر أو الاستحمام، يظل الجسد ممسكا برائحته، فإن مصطفى البلكي يواصل مسيرته الإبداعية ممسكا ببصمته الخاصة، وهو يكتب رواياته التي يستقيها من عالمه الخاص، بمساعدة الحكايات التي كانت تحكيها له جدته وهو صغير، محاولا أن يبني له مكانا روائيا يخصه وحده، دون أن يقلد أحدا، أو حتى يتشابه مع أحد في ما يكتبه.
لقد كان مصطفى البلكي هنا في أقصى درجات القسوة، على قارئه ومتلقيه، وهو يصور مشاهد روايته هذه، ما جعل قارئها يشعر وكأنه هو بطل هذه المشاهد، خارجا منها بمشاعر يمتزج فيها الوجع مع الألم والحزن الشديد.
نكبات شتى
ما تريد أن تقوله الرواية كذلك إن كلا منا يمر، خلال حياته، بنكبات شتى، ويحتاج وقتذاك إلى من يقف بجواره ويسانده في تخطيها، جاعلا إياه يشعر بأنه ليس وحيدا أمامها، وإن الحب هو كل ثروتنا، علينا أن نحافظ عليه، حتى لا تكون حصيلة رحلتنا صفرا، وإن الحزن خسارة مهما جاء وتخفّى في أي شكل، وإنه ليس جيدا أن نبقى مع من يمر بشيء مؤلم ولا يبحث عن حلول، مثلما تريد أن تقول إن التفكير في الانتحار أو اللجوء إليه لن يخلص الإنسان مما يعانيه ويقاسيه، وإن الجميل في حياتنا هو أن نجد أنفسنا بعد الماضي، ونرى أحلامنا وكوابيسنا القديمة. كذلك ترى «سبع حركات للقسوة» أن الموت ليس أعظم مصيبة، وأن أعظم مصيبة يمكن أن يعيشها إنسان أن يموت في داخله أكثر من شيء، وأن أسوأ ما يمكن أن يحدث مع امرأة هو التعود على تقبّل الأمور السيئة، وأن الأقدار لا تُؤخذ عنوة. لقد تخيلت براء الراوية نفسها كما لو كانت مطفأة سجائر، تتقبل أعقاب السجائر الميتة، ورغم ذلك أصبحت سنبلة قمح متصالحة مع الحياة، هادئة، تسير للرحى، فلا الرحى ظالمة لها، ولا هي خائفة من الطحن.
«سبع حركات للقسوة» التي ينهيها مصطفى البلكي بهذه الكلمات: المرأة دائما ما تضيف جزءا من سرها في طعامها، ومن يتذوقه لا يمكنه أن ينساها، تصبح بالنسبة له نزهة لأرض يعرفها جيدا، تؤكد أن رغبة الإنسان في الحياة لا تنطفئ أبدا مهما تعرض لعوائق وكوارث، ومهما حدث له في طريقه، بل يظل إصراره على الحياة كلما حاولت ظروفه أن تسلبها منه، ونهاية، وبعد قراءة منجز مصطفى البلكي الروائي، يمكنني أن أقول إن هناك فرقا كبيرا بين من يولد مُشبّعا بموهبة الحكي بما تتطلبه من أدوات وإمكانيات، وخلْق العوالم الروائية باثّا فيها رؤيته وفكره وفلسفته الحياتية الخاصة به، وبين من يُقْدم على كتابة رواية لمجرد أنه حضر ورشة لكتابتها.
كاتب مصري