« وجعي على وطني… قديم كالزمان»
مظفر
مرت الذكرى السنوية الثانية لرحيل الشاعر العراقي مظفر النواب، وسط صمت رسمي، ليس سوى منشورات محبيه من عراقيين وعرب جلهم من شبان مأخوذين بإنشاده المحرض الغاضب والمؤجج، لاسيما وأنها تزامنت مع مجريات الوضع المأساوي الذي تشهده غزة والخذلان العربي المستمر تجاه قضية فلسطين، التي أنشدها «البدوي الممعن بالهجرات» في قصيدة النواب الشهيرة «وتريات ليلية» الضاجة بأسئلة الاحتجاج والإدانة والفضح المعلن لمن سمّاهم بـ»أولاد القحبة».
وقائع
ولد النواب في جانب الكرخ بمحلة بغدادية عام 1934 وغادرها على كراهة عام 1969متنقلا في العديد من بلدان عربية وعالمية، إلا أنه أقام في سنواته الأخيرة في العاصمة السورية دمشق التي أحبها وأحبه شعبها .
عاد إلى العراق في مايو/أيار 2011 في زيارة سريعة كأنها الوداع، إذ رحل عن الدنيا في مايو 2022 في المشفى الشارقي لينقل إلى بغداد ويحمل على أكتاف ورؤوس العراقيين في موكب تشييع كبير، لم يحصل لأي من مثقفي وشعراء العراق من قبل، ومن ثم يوارى في تربة النجف بناءً على وصيته. كان الشبان المشاركون في تشييعه يهتفون بأبيات من قصيدة عامية له رثى خلالها الشهيد الشيوعي (صويحب) صاحب ملا خصاف، الذي اغتيل على يد الإقطاع العراقي قرب نهر الكحلاء، جنوبي العراق في عام 1959 بعد مرور عام على ثورة 14 يوليو/تموز 1958 التي أسقطت النظام الملكي لتؤسس نظاما جمهوريا .
المفارقة في الأمر أن هذه الثورة (العيد الوطني العراقي) ألغيت مناسبتها كعطلة رسمية بموجب قرار اتخذه البرلمان العراقي هذه الأيام.
مظفر النواب رحل في عمر يناهز الـ( 88) عاما قضى معظمه (53) عاما في المنفى، تبغضه الحكومات ويبغضها بقصائده، وتحبه الشعوب المسحوقة ويكاد يكون الشاعر المحظور رقم (1) عربيا وعراقيا، ولذا كان صاحب القصيدة المهربة بامتياز. المرة الوحيدة التي دخل العراق سرا لشماله (كردستان) كانت في نهاية عام 1973 لحضور مؤتمر حزبي انعقد في واحد من جبالها، حسبما يذكر رفيقه حسين الهنداوي في كتابه «في أعالي الشجن» الصادر عن دار المدى قبل سنوات، كان مؤتمرا للقيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وهو جناح انبثق عام 1964 تبنى شعار الكفاح المسلح كسبيل أوحد لإسقاط النظام العراقي. تعرض المؤتمر لقصف مروحيات النظام ونجا المؤتمرون بأعجوبة، إذ أعانتهم طبيعة المنطقة الجبلية. أمضى العمر مغامرا، شاعرا تتلاقفه المنافي، حمل السلاح في البؤر الثورية في مناطقها الملتهبة كأهوار الجنوب العراقي، غور الأردن، ظفار، إرتيريا. تضيّق الحكومات خناقها على قصائده، بل تطارد وتعتقل متداوليها فيطاردها بالشعر حتى يجد فيها (سجون متلاصقة.. سجان يمسك سجان).
كيف لا وهو الذي أقام في سجون العراق (نقرة السلمان) المنفى الصحراوي الشهير، وسجن الحلة الذي شهد عملية حفر نفق كان هو أبرز مهندسيها أواسط الستينيات، تلك العملية التي هزت عرش الحكومة بعنف. لم تنته ملاحقات نظام البعث له إذ حاولت أجهزته المخابراتية مطلع التسعينيات اختطافه في أثينا ونجا كالعادة بأعجوبة .
مكتشف كنز العامية
«اكتشاف ما لا يعرف يفترض أشكالا جديدة»
(رامبو)
لم يتبن النواب حركة تجديد لشعر العامية العراقية فقد كان هذا اللون يغط في نوم عميق، يحتضر، ليس سوى ردات دينية، وخطابات تقريرية تتسم بالسذاجة، لا حياة تماما باستثناء ما قاله الشاعر العفوي الموهوب الحاج زاير، من موالات غنى بعض أبياتها مظفر بنجاح يضاهي أصوات مغنين عراقيين شعبيين إضافة إلى رياض احمد.
كانت صادمة مفاجئة تلك اللحظة التي تفتقت بها عبقرية النواب البغدادي العريق ابن الأسرة الارستقراطية، التي اكتشف بها كنزا لمفردات العامية المخبأة بكنز سومري راكس في أعماق مياه مسطحات الجنوب المائية (الأهوار) فنفض عنها ما علق بها ليكتب أولى قصائده «للريل وحمد» 1956 ـ 1958 وما أن نشرت وانتشرت حتى سارع سعدي يوسف ليضع جبينه على عتباتها ومن ثم تصبح أغنية شائعة ليومنا هذا. والعديد من قصائده غدت أغنيات كبيرة أدتها أصوات رائدة في الغناء العراقي مثل ياس خضر، فاضل عواد، رياض أحمد، سامي كمال. ولربما كانت لعبقرية في اللحنية العراقية، دور في ذلك ممثلا بطالب القرغولي .وبذا فقد كان خلقا وليس تجديدا كما في شعر الفصحى، الذي كانت له فعالياته ودواوينه قبيل حركة التجديد التي أحدثها السياب، نازك الملائكة، بلند الحيدري. لم يسكن النواب تلك البيئة إنما كانت له زيارات تستغرق بضعة أيام قبض خلالها على منجم لهجة تلك البيئة العجيبة، مسطحات مائية مسكونة بأسرار غامضة، منظومة علاقات غريبة تجمع الإنسان بالحيوان، إشارات وغناء ومن ثم الشعر .
أزاح مظفر كل ما علق بتلك المفردات، وأبقى الجمالي وحده ليوظفه حتى في قصائد كتبها أثناء انتفاضات الفلاحين في وجه السلطة، إذ تجيء بعضها على لسان المرأة التي تنشد الثوار وهي تضع الخلخال «الحجل» كقمر يضيء ليل السفن الصغيرة المحاطة بالماء:
« أحط الحجل للثوار،
كمره ازغيره ع المعبر
واشيم اترف النجمات
فوق شراعكم تسهر».
أسس مظفر شعرا عاميا غدت له امتدادات مهمة على المستويين الفني والفكري عبر أصوات شعرية مثقفة ممثلة بعلي الشباني، كريم محمد حمزة، طارق ياسين، أبو سرحان. أبطال قصائد مظفر النواب تواروا جميعهم (صويحب، سعود، لعببي، حسن الشموس، حمد، حرز، حجام البريس). أما شعر العامية فيمر اليوم بأسوأ حال، رغم وجود أصوات شابة رائعة، بفعل التردي الثقافي الإعلامي الذي يشهده العراق، الذي يروج ويمول الفنون والثقافات الهابطة عبر سيرك من أشباه المتعلمين ومبتوري المواهب والاستعراضيات المجانية من بنات الهوى وبحكم هيمنة الثقافات الرائجة لاسيما الطائفية والعشائرية .
العراق بلد طارد للمواهب الكبيرة بدلالة رفات رموز مهمة دفنت في مقبرة (الغرباء) في ضاحية السيدة زينب كالجواهري، هادي العلوي، مصطفى جمال الدين، سيف الدين ولائي شاعر الألف أغنية وغيرهم..
كاتب عراقي
رحم الله مظفر النواب القاءل: اننا امة مهمها بدت بها النكبات الى الوراء ..هي الامة القادمة. ما حنى الدهر قاماتها ابدا .. ولكن تنحني لتعين المقادير..ان سقطت..واقفة. اننا امة لو جهنم ..صبت ( بضم الصاد) على راسها واقفة.