في عنف القفز وخطورته!

ربما يكون العنوان مستفِزّاً، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين يعشقون رياضة القفز على اختلاف أنواعها، إما كمحض مشاهدين ومتابعين ومشجِّعين، أو كرياضيين ممارِسين، مشتغلين على الجسد، ليس بوصفه بيولوجيا و»طبيعة منفعلة» فحسب، بل أيضاً بوصفه «طبيعة فاعلة» لها قدرات يصعب حصرها. فالجسد إذ يصير حراً جرّاء الرياضة (مثلاً)؛ يصبح قادراً على تحدي كل ما يُعتقد أن تحديه غير ممكن، إن لم يكن ممنوعاً. وتحرُّر الجسد، يقود في معنى ما إلى التحرر من قيود عديدة: سياسية.. اقتصادية.. اجتماعية ثقافية.. دينيّة.. أيديولوجيّة. في ضوء هذا كله وأكثر، تُفهَم مقولة «العقل السليم في الجسم السليم» ويصير لها معنى حقيقياً وواضحاً.
وربما يُزعج العنوان أكثر، أولئك المغامرين، التائقين إلى القفز في المجهول، دونما حساب لعواقب وتبِعات، لسائد ومألوف، مشغوفين فقط بالرغبة العميقة الواسعة، متطلِّعين للكشف الأكبر، المتجاوِز للمعتاد المُملّ، لأن القفز في المجهول بالنسبة إليهم، هو بمثابة ومضة فارقة مبدعة ممهورة بالفردية الفريدة والمتفردة. ومضة حرة ومتحررة من الخوف بشكل أساسي، تقارع الممنوع القامع، وكل سلطة متسلطة. إنه قفز في المجهول وقد تشبَّع بالسؤال الفلسفي المشكِّك القلِق. فإن «يقفز» هؤلاء في المجهول، يعني ذلك «نقلة» نوعية قد تغير مسارات وأحداث وتوجهات وثوابت وركائز ومُسلَّمات ويقينيات وبدَهيات، وهكذا سوف يكون مع قافزٍ في المجهول من طراز (غاليلو) الحق كله، لو أنه حيٌّ يقرأ مثل عنوان كهذا باستياء ورفض. كيف لا يفعل، وهو الذي وقف في وجه «الثابت المتسلط» ليقفزَ في مجهولٍ «نقَلَ» العقل المسجون في عالم ثابت يؤمن إيماناً دوغمائياً، بأن الأرض مركز الكون وثابتة، إلى عالم يُعلي من شأن الحركة ويحترمها، عالَم «يفكّر» والتفكير حركة العقل المبارَكة خارج السرب، الحركة التي تتناغم ودوران الأرض المستمر حول نفسها وحول الشمس. لقد قفز غاليلو قفزته المغامِرة تلك، بعقل علميّ متحرر، فاحص، لا يصدِّق إلا بعد تجربة. وتصديقه هذا، مرِن غير متزمِّت، وقابل للتقويض إذا ما دَحَضَه كشفٌ آخر مبرهَن عليه ومُدَلَّل.
وقد يثير نعتُ القفز بالعنف والخطورة، استياءَ المشتغلين في علم النفس، أو علم الاجتماع. العِلمان اللذان تشكّل سعادة الإنسان مع نفسه ومع المحيط، واحدة من أبرز غاياتهما. ومن أجل تحقيق تلك السعادة، يجري الاهتمام الكبير بالتفكير الإيجابي على سبيل المثال. التفكير الذي من سماته التجاوز والتخطي. وفي معنى آخر، القفز فوق توافه الأمور وصغائرها، وعدم الوقوف طويلاً، عند التجارب السيئة والقاسية والسلبية، ونبْذ أو تجاهل كل ما يشدّ المرء إلى الوراء، أو يسمِّره في مكانه، من أجل تنمية القدرة على مواصلة التقدم في الحياة، عبر تجاوز العقَبات، أو القفز فوقها، سواء على الصعيد الشخصي أو على الصعيد الاجتماعي العام، حفاظاً على الصحة النفسية والاجتماعية، وانعكاس ذلك على الصحة البدنية.

إن إحدى الغايات المهمة لإعادة قراءة التاريخ أو إعادة كتابته، هي تعليمنا أن التاريخ استمرارٌ واتصال، لا فجوات ولا انفصال، ولا ثغرات ولا حُفَر تفصل بين مراحله وحقباته، وأن ما جرى تهميشه والقفز فوقه.

ـ لكن مهلاً! ليس هذا هو القفز العنيف الذي نقصده ههنا، ونهتم بضرورة الإشارة إلى خطورته إنما القفز العنيف الخطير، هو ذاك الذي غالباً ما يصل إلى نتائج، دونما اعتبار لمقدمات وإرهاصات وتوطئات، وهو يحكم ويقرِّر عبر الاجتزاء، والحذف، والقولَبة، والاقتطاع، والاختصار، والاختزال والتحجيم والقصّ. والقفز العنيف الخطير هو ذاك السيَّاف الذي لا يصغي إلى التفاصيل التي لا تهمه، فيفصلها عن سياقاتها، ويشرِّدها في المهَبّ، آخذاً من السياقات ما يريد، وما يخدم مصالحه وأهدافه، جارفاً كل ما يمكن أن يشي بزيف ما يريد فرْضه. والقفز العنيف الخطير، لا يتمتّع بأخلاق الصبر والرويّة والرحمة ونُبْل الإصغاء، كونه منشغلاً بمصالحه الضيقة، تلك التي تمنعه من رؤية الصورة الكاملة بوضوح، فما يجده خادماً لمصلحته، يأخذه، بعدما يكون قد قفز فوق كل ما لا يريده، إنه مزوِّر بامتياز!
إن «قفز» سفَّاح طاغية فوق كل أسباب ثورة «شعبه» عليه، وبترها من جذورها، وفصلها عن سياقاتها، واختزالها في مجرد «مؤامرة كونية» ضد بلاده، هو شكل من أشكال القفز العنيف الخطير، الذي عرفه التاريخ البشري مراراً وتكراراً، عبر العصور التي طالما شهدت ثورات شعبية ضد الاستبداد. وقد لا نجانب الصواب، حين نقول، إن كل الطغاة قافزون، قافزون فوق الحقائق، فوق الأسباب والمسبِّبات، إرضاءً لغريزة السلطة المطلقة لديهم. فهؤلاء، يجرِّدون السلطة من معناها السياسي المدينيّ الذي من شأنه إدارة شؤون البلاد والمواطنين، لتصيرَ على أيديهم محض غرائز «أبدية» فاسدة جشعة لا تشبع. وطاغية سوريا ونظامه الأسديّ، هو واحد من أولئك الطغاة «القافزين» المجرمين، إن لم يكن أشدّهم بشاعة في التاريخ.

إن إحدى الغايات المهمة لإعادة قراءة التاريخ أو إعادة كتابته، هي تعليمنا أن التاريخ استمرارٌ واتصال، لا فجوات ولا انفصال، ولا ثغرات ولا حُفَر تفصل بين مراحله وحقباته، وأن ما جرى تهميشه والقفز فوقه، ربما يكون أهم بما لا يُقاس من مراكز أُعطيَت أهمية كبرى لدرجة تحوُّلها إلى سلطات ممنوع مسّها. فنحن إذ نقرأ التاريخ قراءة ذكية، حكيمة، نقدية، بعقل تواصليّ لا يُقصي ولا يقفز؛ سندرك أنه ليس هناك هُوّة وفراغ يفصل بين عصور ما قبل التاريخ، والعصور التي طالما دخلت التاريخ عبر الكتابة وفيها وبها، ذلك أن الكتابة جرى اختراعها وتعلمها أصلاً من اللاكتابة، فالكلمة/الرمز المجرَّد، أصلها شيء متعيِّن موجود وملموس، إن أداةَ صيدٍ كالرمح، هي على اتصال وصلة وثيقة بالأحرف التي تشكل الكلمة (ر.م.ح). إذن، الذهنية التي تقرأ التاريخ من طريق «القفز» هي ذهنية قاصرة، غير قادرة على الرؤية الشاملة التي تصل السابق باللاحق دونما فجوات. ولم تكن الحداثة والأنوار «قفزة» فوق عصور الظلام، فهي كانت صيرورة تاريخية مكافِحة هادئة، مستمرة ومتواصلة ومتجددة وخصبة، لا تنفكّ تعيد قراءة نفسها وقراءة سابِقِها، لكي تتمكن من قراءة لاحِقِها، وهكذا، ندرك أن ذهنية القفز، هي ذهنية منفصلة عن التاريخ، مبتورة عن الواقع الحي النابض المتجدد المولود والمتوالد بلا انقطاع. فالقفز يعني، أن التاريخ قد توقف، قبل أن يتابع المسير من جديد، وهذا مجانب للحقيقة التاريخية وماهيتها في الاستمرار والحركة الدائمة.
وذهنية القفز خطيرة وعنيفة، إلى درجةٍ قد تُفضي إلى حروبِ كراهية بين الحضارات، فحين «يُقفَزُ» فوق حضارة ما، ساهمت في إغناء الحضارات الأخرى وإثرائها، وتُقطَع من سياق الحضارة الإنسانية بوصفها سلسلة، بينما يُعترَف بحضارة أخرى بوصفها حضارة مستقلة بذاتها، بل خلقت ذاتَها بذاتِها؛ فهذا ليس مغالطة منطقية وتاريخية فحسب، بل أخلاقية أيضاً، لأنه ما من حضارة لم تتأثر وتؤثر في غيرها من الحضارات، إذ التاريخ ليس فجوات ولا ثغرات، بل اتصال وامتداد واستمرار، تأثُّر وتأثير، أخذ وعطاء، وكل قول عن انفصال في التاريخ والحياة والواقع، هو قول ناجم عن ذهنية متعالية معزولة ومنفصلة. كون الفصل يكون فقط في الذهن، أو في التصوُّر، أما في الواقع الحي وفي التاريخ الذي لا ينفكّ يسير، فهو محض وهم.

يصعب بناء علاقات معشرية بنَّاءة، من خلال سواد ذهنية القفز في العلاقات بين الناس، وفي الحكم على الآخرين من خلالها.

وقد تطال هذه الذهنية القافزة، الكتابَ، أي كتاب، بوصفه نتاجاً فكرياً وأدبياً وفلسفياً وعلمياً، بحيث يتم التعاطي برعاعية وغوغائيّة مع هذا المؤَّلَف أو ذاك، وغالباً ما تكون تلك المؤَّلَفات، محطَّ جدل وإشكال وصدّ وردّ. أما الرعاعية في التعاطي مع الكتاب، أي كتاب، فتكون غالباً من طريق «القفز» فيجري (مثلاً) استلال جملة أو فقرة، من سياق متكامل وبناء منسجم، ثم يُرَكَّز عليها بوصفها «حقيقة» الكتاب أو المؤَّلف إما سلباً أو إيجاباً. وكم من «معارك» طاحنة دارت، في خصوص هذا المؤلَّف أو ذاك! وكم من اغتيالات أو محاولات اغتيال حصلت، بسببٍ من ذهنية القفز تلك! وهناك الكثير من المفكرين في الماضي والحاضر، تمَّت معاداتهم ولوحِقوا ممَّن لم يقرأوا مؤلَّفاتهم بالأساس، أو ربما فقط سمعوا بجملة مُجتَزَأة هنا، أو قرؤوا مقطعاً مختزَلاً هناك! هي ذهنية عمياء لا ترى، وفي كثير من الأحيان، لا تريد أن ترى، السياقَ ككل، فتعمَد إلى قطع جزء منه، وتسجن الكلَّ في الجزء، في حين أن الجزء مرتبط بالكل، وكل فصل عنه، يشوِّهه ويمسخه، ويشوِّه الكلَّ ويمسخه.
يصعب بناء علاقات معشرية بنَّاءة، من خلال سواد ذهنية القفز في العلاقات بين الناس، وفي الحكم على الآخرين من خلالها. ونحن قد نكون ضحايا أحكام قيمة صادرة في حقنا، مصدرها ذهنية القفز تلك. ذهنيةٌ تحاكمنا وتحكم علينا دونما أدنى اكتراث لمراحل، لصيرورات، لسياقات، لأسباب، لدوافع، لكينونات ومكنونات، لتفاصل، لخبرات وتجارب، لإنجازات، لجوانب من شخصيتنا كثيرة ومتنوعة ومختلفة، لمصادفات، لظروف يصعب حصرها، وتختزلنا تلك الذهنية، قافزةً فوق كل ما سبق وأكثر، محجِّمةً إيانا في محضِ خطأ ما قد صدر عنا يوما ما.
إن «مجتمعات العيْب» مثلاً، تسود فيها ذهنية القفز، ربما أكثر من غيرها. فإذا ما فشل المرء في أن يكون كما يُراد له أن يكون؛ غالباً ما «يُقتَل» اجتماعياً، بعدما تُختَزَلُ شخصيته ككل كإنسانٍ فرد، و»تُذَوَّت» في الفشل فحسب. وبدلاً من الذهاب بعيداً صوب فهم الشخصية، وتحليل الدوافع، والأسباب التربوية، النفسية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الدينية، الأيديولوجية، التي نتجَ عنها ما يُعتَبَر فشلاً، ومن ثم مساعدة هذا الشخص أو ذاك ليكون جزءاً فعّالاً وإيجابيا في المجتمع؛ بدلاً من ذلك كله، يجري «القفز» فوق كل ما أنتج هذه الشخصية برمتها، التي قد يكون فيها ما هو إيجابي يحتاج إلى التركيز عليه، ليُقتطعَ الجزء الذي يمثل الفشل، ويُعمَم على الشخصية بكُليَّتها. فيموت السياق الكلي للشخصية بوصفها وحدة، ويبقى فقط الجزء الفاشل إياه، كغصنٍ يابس مقطوع من شجرته، التي بدورها سوف تبقى في مرمى الرَّشق!
يحضرني الآن أحد الأمثال الشعبية التي تنمُّ عن ذهنية القفز بعنفها وانتهازيّتها، يقول: «عندما تقع البقرة، يَكثُر سالخوها».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية