في كتابه «كن عاشقا « الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، يرتدي الشاعر أحمد الشهاوي زِيّ العاشقين الكبار، متخذا من نفسه إماما يقود أوركسترا العشّاق، متجولا معهم وبهم في رياض العشق، متنسما روائحه العطرية وشذاه، ناثرا تفاصيله وذراته أمام قرّائه، الذين دعاهم بمحبة خالصة لقضاء وقت ممتع بحق في رفقة كتابه هذا، واعدا إياهم بأنهم لن يندموا على وقتهم الذي سيقضونه وهم يقرؤون ما فيه من عبارات ومفردات تخص عوالم العشق وفضاءات العشاق.
في «كن عاشقا» يجعل أحمد الشهاوي من كتابه بستانا وارفا يُهدي وروده لكل من يريد، دون أن يسأله لمَ ولمَن، متمنيا له حياة يملؤها الحب والعشق. هنا يرى الشهاوي أن الحب مطلق، وليس نسبيّا ولا يخضع لقانون ولا يمكن وضعه ضمن أطر وأسيجة تسجنه، إذ هو من فصيلة الكائنات التامة والكاملة، لأن الحب هو ما يصوغ أي نظام كوني لا يخضع لمرتكزات أو دوائر الشروط والاستجابات. هنا أيضا يخبرنا الشهاوي أن الحب ليس مهنة بأجر أو بدون أجر، بل هو هبة تُمنح لمن يستحقونها باعتبارهم سيعيشون حياة واحدة فقط، وهو ثروة لا تنفد مهما أنفق المحب منها. الشهاوي الذي كلما سُئل هل العشق روحي، أم جسدي؟ يجيب بأنه لا فصل في الوصل، يؤكد أن للجسد روحا وللروح جسدا، ولا عشق يتم من دون طرْق باب الروح، وما عداه له أسماء أخرى ليس من بينها الحب أو العشق.
في «كن عاشقا» نعرف أن الأقدمين كانوا يعتقدون أن العشق مرض نفسي، لفرط ما يعيشه العاشق من مكابدة ومجاهدة ووجع وألم وهم وحرقة وحزن وتوتر وتدمير، بل رآه الجاحظ أكبر أسباب الشر، متسائلا هل تغيّر العشق وأهله أم لا؟ ولأن الشهاوي يرى أن المرأة كيان خاص ومختلف، لهذا يجد الحب عاطفة نادرة، لا نجدها كل ليلة، ولا تُقدم لنا مع وجبات الإفطار كل صباح، بل تقودها السماء إلينا، فمنا من يعلو بها عاشقا، ومنا من يُضيعها بسبب فهمه الخاطئ للمرأة والحب معا. الشهاوي الذي ماتت أمه نوال عيسى دون السادسة والعشرين من عمرها، وتركته قبل أن يُكمل عامه الخامس، وعاش في قرية لها تقاليدها وعاداتها وأعرافها، عاش في الحب وجاء ذلك متواشجا ومتزامنا مع العشق الصوفي. هنا أيضا يخبرنا الشهاوي عن العشق الذي يبتغيه، ويحاول تحقيقه في النص الشعري، ذاكرا أن الحب ما هو إلا اكتمال نسعى إلى تحقيقه وإدراكه، وهو سر مغلق ومفضوض في الوقت ذاته، وما بين الكمال والاكتمال والكشف والكتمان والأسرار تكون المرأة. هنا يرى الشهاوي كذلك أن أجمل ما في العشق أنه يحذف حرف الواو بين العاشق والمعشوق، مثلما يرى أن كارهي الحب لهم قلوب من حديد، وأحشاء من برادة النحاس المخلوط ببرادة معادن كثيرة مجهولة النسب، ومن ثم لأرواحهم لون السواد.
يرى الشهاوي فرقا بين المصادفة والمحاولة الكذوب للتقرب والرغبة العارضة الطارئة التي لا عشق فيها، خاصة أن المصادفة هدية لـ«الحب الحقيقي» المملوء صفاء وهناء وحياة وأملا.
الشهاوي الذي يرى العشق فضيلة إنسانية، ويرى الحب هاربا ضائعا غريبا بين الناس كتابة وممارسة وسلوكا، رغم كوننا أمة عشق، لم يلتزم في حياته بالكتابة في ما يسميه أدب العشق، بل تنوعت كتاباته بين الشعر، وهو الأساس عنده، وفلسفة الدين، بعدما وجد تعنّت وتزمّت وجهل بعض الذين يشتغلون بالدين، ومنذ بدء كتابته والشهاوي يحمل دعوة الحب، مخصصا كتبا نثرية منها، «كتاب العشق، أحوال العاشق، الوصايا في عشق النساء، أنا من أهوى، وكن عاشقا».
هنا يقول العاشق، أعني الكاتب، إن العرب القدامى تركوا تراثا عشقيّا وغزليّا لا نظير له بين الأمم، وهناك شعراء التزموا شعر الغزل فقط طوال حياتهم، وهناك فقهاء وأئمة وقضاة شرعيون وعلماء وأصحاب مذاهب ألفوا كتبا في العشق بدون أن يسبّهم أحد، أو يحقد عليهم حاقد. ومن المدهش، مثلما يرى الكاتب، أن المحبة بين رجل وامرأة لا تحتاج إلى واسطة، حيث القلبان هما اللذان يأتلفان ويتحدان، وأيضا في الحب الإلهي لا يحتاج العبد إلى واسطة مع رب السموات والأرض، ذاكرا ما قاله الرومي من أن العشق لو لم يكن موجودا في الخليقة لخفيت الفضائل كلها.
التوحد والامتزاج
ومرتديا ثياب العاشقين، يطلب الشهاوي عشقا بين المحبين سمْته التوحد والامتزاج والحلول الروحي والاتحاد الجسدي، والوصل غير المنقطع والديمومة، بحيث نصير قوما يكثر فيهم العاشقون لا الحاقدون الكارهون الحاسدون المبغضون الأشرار. كما يحب حين يسأله أحدهم وهو على سفر من أين أنت؟ فيجيبه بأنه من مصر العربية، ومن قوم إذا أحبوا ماتوا، لأن فيهم جمالا ورقة. ومتحدثا عن المصادفة صاحبة الجلالة في الحب، يصف الشهاوي المصادفة بأنها الاسم المستعار للعناية الإلهية، وهي لقاء روحي محمول على التلذذ والذوق من غير موعد ولا قصد ولا سبب محدد، رتّبتْه السماء، ودبّره القدر ورعتْه المشيئة، وسقته النفس النقية العالية التائقة إلى الحب.
هنا يرى الشهاوي فرقا بين المصادفة والمحاولة الكذوب للتقرب والرغبة العارضة الطارئة التي لا عشق فيها، خاصة أن المصادفة هدية لـ«الحب الحقيقي» المملوء صفاء وهناء وحياة وأملا. والأهم في الحب، حسب رؤية الشهاوي، هو ألا نتوقف عن الحلم والسعي والسفر والسؤال والذهاب نحو ما نراه مستحيلا أو صعب المنال، والإمساك به. أما الأحمق، كما يراه الكاتب، فهو من يتفادى ضربة سهم المصادفة المصوَّب نحو قلبه، محاولا النجاة، كأنه سيسقط في بئر سحيقة.
فيما يعيد الحب الاعتبار إلى القلب، ذلك المستودع الحاوي أسرارا ورموزا ودلالات وإشارات وأحوالا لا حد لحصرها، لأنه من دونه يصبح عضلة في جسد الإنسان تقوم بدورها الوظيفي فقط، أما مع الحب، يقول الكاتب، فيكون القلب ملآن كبحر لا تنفد مياهه من فرط الحب وعمقه، وغياب الحب يفقر القلب ويعزله في زاوية قصية لا يدركها أحد.
يطرح الكاتب أسئلة تتعلق بالعشق منها: أليس كل إنسان لديه قدرة عاطفية ونفسية وثقافية على العشق؟ وهل يمكن لرجل أو امرأة أن يستغني عن الحب ويعيش معزولا ووحيدا بدون شريك دائم أو حتى متغير؟
فوائد الحب
في «كن عاشقا» يذكر أحمد الشهاوي أسماء الشعراء الذين لم يحبوا سوى امرأة واحدة طوال حياتهم، وعُرف عنهم تغزّلهم في المرأة التي عشقوها، أو بقوا على حبهم زمنا طويلا ومنهم: جميل بثينة، كُثيّر عزة، مجنون ليلى، قيس لبنى، وتوبة ابن الحمير عاشق ليلى الأخيلية، وعمرو بن عجلان عاشق هند، وبدر عاشق نعم، وغيرهم الكثير. هنا أيضا يرى الكاتب أننا لا نخرج من الحب مرهقين منهكين متعبين خاسرين، لأن الحب يجعلنا في حال جدل دائم مع الذات، ومنتصرين بلا هزائم أو خيبات أو مرارات، لأن الروح العاشقة المعشوقة تعلو ولا تنزل، تعيش حلمها وفلسفتها بحرية جامحة، ومن يجمح يطمح، ولا يصيبه وهن أو خسران. وفي الحب يولد الإنسان مرة أخرى، وولادة الروح أهم من ولادة الرحم، وفي الحب تمرد على السائد وتجاوز لنمطه المكرور المعاد، وانتصار على التقليد وتمجيد للذة الروح قبل لذة الجسد. كذلك يرى الكاتب هنا أن للحب فوائد جمة، فعلى يد الحب يعلو الإنسان ويفقه حاله، ويتطهر نفسيّا وأخلاقيّا، ويصفو ويشف ويدرك السر إدراك الشيء بمجمله بعد أن يفوز بمفتاح الأبواب المغلقة. أيضا يرى أن الدين هو الحب، ذلك الحب الذي يفجّر الطاقات الروحية والحسية لدى المحب والمحبوب معا. أما العاشق الحق، يرى الكاتب، فهو ابن القلق المعرفي، إذا دخل على معشوقه دخل بكله، لا يترك منه خارجا عن معشوقه شيئا، حيث في عالم الروح تتساوى القلوب ولا فرق بين محب ومحبوب.
اختلاف وتعدد
غير أن أجمل ما يراه أحمد الشهاوي هنا هو خطاب الحب، سواء أكان في الكلام أم الممارسة، حيث تعيش المُثل ويعيش الوجود الأعلى في العشق المحمول على اللذة والانتشاء والتحقق الروحي، حيث تصل النفس إلى أعلى مستوياتها من الرضا، وهي غارقة في إناء الحب. ويقع العشق عندما تستوعب الروح عواطف ومشاعر من يقترب منها قلبيّا.
هنا أيضا يطرح الكاتب أسئلة تتعلق بالعشق منها: أليس كل إنسان لديه قدرة عاطفية ونفسية وثقافية على العشق؟ وهل يمكن لرجل أو امرأة أن يستغني عن الحب ويعيش معزولا ووحيدا بدون شريك دائم أو حتى متغير؟
أيضا يكشف الشهاوي هنا عن أن الحب ليس البحث عن نسخة مطابقة، إذ في الحب اختلاف وتعدد وحرية وتنوع وغنى يتأتى من مساحات الفروق، وليس سهلا العثور على الحب مثلما ليس مستحيلا. أما أكثر من تنطبق عليهم صفة الشح فهم بخلاء القلوب الذين يحملون في أنفسهم الكثير من الأمراض المستعصية على العلاج. الحب أيضا، كما يراه الشهاوي، ليس مجاملة بين اثنين، وليس اعترافا بجميل أدّاه أو معروف صنعه طرف إلى طرفه الآخر، إنه أعلى وأسمى بكثير من كل ذلك، ومن أي تصور بشري حسي أو مادي. هنا أيضا يحزن الكاتب عندما يجد من لا يحفظ العشق ولا يحافظ عليه بالرعاية والعناية والسقاية، إذ العشق كائن حي لا يدركه إلا الإنسان الكامل المخلوق على صورة خالقه.
هنا يكتب الشهاوي عن تحصين القلب بالحب، عن التوحيد في الحب، عن آلهات الحب، عن التوحيد في الحب، ذاكرا أن الحب فرض عين وليس من النوافل، ولا ينمو الحب في زمن الاستبداد والتكفير، وأن الحب طائر عجيب يجدد نفسه ذاتيّا، وأنه ليست هناك مصيبة أعظم من الجهل بالحب.
في «كن عاشقا» قام الشاعر أحمد الشهاوي بدعوة قرائه ليتجول معهم في مدائن العشق بكل مفرداته وتفاصيله، متنقلا بهم بين مداراته ومجراته الفسيحة، قاطفا لهم من أزهاره ووروده، ما يجعلهم يعيشون لحظات متعة، جالسين على متن كتابه متأملين عباراته، شاعرين وهم يتنقلون بين أسطره بأنهم يعيشون أجمل لحظات حياتهم سواء في عالم الواقع، أو في عوالم الخيال وهل هناك حديث أمتع من حديث العشق؟ نهاية يرى أحمد الشهاوي في «كن عاشقا» أنه لو أن كل عاشق كتب سيرته في الحب، لعمّ العشق بين الناس وأدركوا قيمته في حياة القادة وأهل الفكر والفقه والسياسة.
٭ كاتب مصري