يستهل عادل مصطفى كتابه «الحنين إلى الخرافة.. فصول في العلم الزائف» الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع في القاهرة، بقوله إن هناك تجارتين لا تعرفان البوار هما تجارة الخبز وتجارة الوهم، مؤكدًا بدايةً على أن الخرافة لها غريزة حشرية تنتحي إلى الشقوق وتعشق الثغرات، وتقيم في الفجوات، ويسود الدجل ويَرْكُز لواؤه في المناطق التي ما زال العلم فيها مُبْلِسًا مُحيِّرًا لا يملك جوابًا حاسمًا، ففي المجال العلاجي يرتع الدجل وتعلو نبرته في نطاق الأمراض المستعصية الغامضة، التي لا يزال البحث الطبي يقاربها بأناة وحذر كالسرطان والإيدز، وفي صدد نظرية التطور يحلو للفكر الخرافي الإشارة إلى الفجوات غير المفسَّرة في سجل الحفريات.
العلم الزائف
هنا يرى مصطفى أن العلم الزائف يسرف في استخدام الفرضيات الاحتيالية، وليس من دأبه أن يعترف بخطئه، ولا أن يصحح نفسه، إضافة إلى أن العلماء الزائفين يتهربون من النشر في المجلات العلمية المحكَّمة. أيضًا، والقول للكاتب، يركز العلم الزائف على الأمثلة المؤيِّدة ويضرب صفحًا عن الأمثلة المضادة، كما يقدم العلماء الزائفون أطروحات مقطوعة الصلة بكل المعارف القائمة، ويزعمون دائمًا أن أعمالهم قائمة على نماذج إرشادية جديدة تمامًا. كذلك يستند العلماء الزائفون في إثبات فرضياتهم إلى النوادر الفردية وشهادات الآحاد، وهي أشياء لا تصلح بذاتها كدليل، كما يولعون باستخدام رطانات مبهمة، ويخترعون معجمهم اختراعًا على حد تعبير روري كوكر، ولهم تعويذة أثيرة هي لفظة «كلي» أو «كلية» التي يكثرون من ترديدها كرطانة موهمة من جهة، وتهرّب من التفنيد من جهة أخرى.
مصطفى يذكر كذلك أن الذهن البشري معطوب بطبيعته، وليست إجراءات البحث العلمي سوى تدابير تعويضية لتدارك هذا العطب الصميم. كما يقول أيضًا يبدو أن الخرافة هي الأصل، وأن من طبيعة عمل العلم أن يسبح ضد هذا التيار الجِبلّي ويجتاز هذه العوائق الطبيعية، فيصطنع من الإجراءات الاحترازية والضوابط الاحتياطية ما يعوض به أوجه النقص في الإدراك والاستدلال البشريين، لكن العقل أسير للمخططات والأنماط المبيّتة فيه، التي انطبعت بفعل خبرات سابقة لم يكن له يد فيها، واتخذت ما اتخذت من أشكال كنتيجة لعدد كبير من العوارض المحضة.
هاوية التخلف
المؤلف يذكر كذلك أن هناك علماء وفلاسفة يرون أن دراسة أمارات العلم الزائف هي تَزيّدٌ لا داعي له، وترف نظري لا ضرورة فيه، فضلًا عن استحالته لعدم وجود معيار ضروري ولا كافٍ يفصل بين العلم واللاعلم. غير أننا نرى أن المجتمعات تتردى في هاوية التخلف، ويموت الناس موتًا حقيقيًّا من جراء الافتتان بالعلوم الزائفة واتباع أباطيلها.
يذكر مصطفى كذلك أن الذهن البشري معطوب بطبيعته، وليست إجراءات البحث العلمي سوى تدابير تعويضية لتدارك هذا العطب الصميم. كما يقول أيضًا يبدو أن الخرافة هي الأصل.
هنا يؤكد الكاتب قائلاً إنه في عالمنا الجديد الذي تمطرنا فيه الوسائط الإعلامية بوابل من الخرافات الجديدة، وسيول من الغثاء المنفلِت، والنظريات الزائفة والدجل الوقاح، لم تعد مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم ترفًا بل قضية ملحّة، وضرورة تعلو على كل ضرورة. كما أنه من حق الناس أن تتلقى المعلومات الصحيحة، وأن تؤسس قراراتها واعتقاداتها على بيانات صادقة لا زيف فيها ولا خداع. هنا أيضًا يؤكد مصطفى على أن الأمية العلمية تقتل الفكر النقدي وتخلف أجيالاً تدمن الوهم وتراهن على الباطل وتختار لأمتها المسار المهلِك. إن الاقتراع العام في مثل هذه الأجيال إنْ هو إلا استقواء بالجهل، وتجيير للأمة وتدوير لعوادم الانحطاط، ومن حق الناس أن تتلقى المعلومات الصحيحة، وأن تؤسس قراراتها واعتقاداتها على بيانات صادقة لا زيف فيها ولا خداع، ومن حق المرضى أن يتلقوا العلاج الحقيقي، ومن حق المصوتين أن يُدلوا بأصواتهم بناءً على حقائق. الكاتب يقول أيضًا إن الخرافة لها جاذبية هائلة، ومهما تقدم العلم فسوف تظل الخرافة تحتل أعز الأمكنة من قلوب البشر، وأعمق الأغوار من أنفسهم، ذلك أنها هي الأصل وهي العلم الأقدم، وهي التي قدمت للإنسان الوعد والسلوى، يوم أن كان مُلقًى في عالم موحش ملغز خطير، والوعد وإن كان كاذبًا، ليس هينًا، بل هو أنيس الأيام وسمير الليالي للأنفس المغلوبة على أمرها. ويضيف مصطفى قائلاً إن الإنسان في عصر العلم لم يعد يقنع بهلوسة ساكني اللابرنت، أو بخدر آكلي اللوتس، تلك معيشة سلبية كئيبة تقتات بالوهم عِوض أن تُغيّر الواقع، وتزين الشوك عوض أن تقتلعه. يفتتن بعض الناس، على حد قول الكاتب، بالخرافة لأنها مثيرة للدهشة زاخرة بالغرابة، ولهؤلاء يقول مصطفى إن العلم يفوق الخرافة فتنة وإدهشًا، ويزيد عليها بأن غرابات العلم حق. كما يفتتن آخرون بها لأنها تدغدغ عواطف وتبعث نشوات، ويقول لهؤلاء إن للعلم مقاماته وأحواله وطربه ومواجده. هنا يرى مصطفى أن الطريقة العلمية ملّة حياتية لها أخلاقياتها، بل روحانياتها، التطهر بالاختبار، الاعتراف بالخطأ، التبتل للحقيقة، الولاء الخالص للدليل، التنزه عن الغرض، إرجاء الحكم، الانفتاح على الأفكار، الانتشاء بالكشف، والابتهاج بالزمالة.
وظيفة الخرافة
هنا لا يفوت الكاتب أن يذكر أننا نضحك من الممارسات الزائفة التي خدعت الأجيال الماضية، ونراها مهازل مضحكة، بعد أن أُنبئنا بتأويلها وكُشف لنا باطلها، في حين نقع نحن في سلالاتها المعدلة، ونتبنى صيغنا الخاصة منها.
يثبت الكاتب أن هناك ملامح خاصة للمشهد الراهن تساعد في تفسير الرواج الكبير للامعقول، ونوعية الجمهور واللغة والأسلوب الخاص لهذا اللامعقول، ومنها الحاجات التسويقية.
كما يعترف بأننا جميعًا نتحرج من تغيير رأينا بعد طول تمسك واعتداد، إذ نخشى الاتهام بالتقلب والنفاق والخيانة، والهشاشة وضعف الشخصية، وعدم الالتزام والثبات على المبدأ. هنا أيضًا ينقل الكاتب عن فؤاد زكريا قوله إن العلم يظهر منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالم، كما هو موجود بالفعل، لا كما يتمنى أن يكون. مثلما يقول إن وظيفة الخرافة كانت، ولا تزال، تفسير الوجود حيث لا تفسير، والتأثير فيه حيث لا تأثير، وللفكر الأسطوري منطقه الذي ينبغي أن نفهمه ونرى العالم من منظوره إن شئنا أن نعي موقف الإنسان الأول وندرك محنته الخاصة التي اضطرته إلى أن يفكر كما فكر ويسلك كما سلك. كذلك ينقل مصطفى عن تشارلس فرانكل تساؤله الذي يقول فيه، ما الذي يجذب المثقفين إلى اللامعقول وينفرهم من العقل والعقلانية؟ ما الذي أدى بشريحة من عِلية الناس ومن خيرة الأكاديميين إلى اليأس من العقل، والمَوْجَدة على العلم ومنهجه؟ وكيف يتأتى ذلك من أناس ينتمون إلى جامعات ومؤسسات جعلت التزامها الرسمي والتقليدي ممارسة البحث العقلاني والتبشير به؟
اللامعقول
عادل مصطفى في « الحنين إلى الخرافة « يثبت أن هناك ملامح خاصة للمشهد الراهن تساعد في تفسير الرواج الكبير للامعقول، ونوعية الجمهور واللغة والأسلوب الخاص لهذا اللامعقول، ومنها الحاجات التسويقية، عادات الاقتصاد التنافسي، خصوصيات وضع الشباب، ثقافة العقاقير، شغف لاهوتي التحرير في التوحد مع ما هو جديد، أو ما يبدو أنه كذلك. وهناك عوامل أخرى منها الأذى الذي ألحقته التغيرات التكنولوجية المنفلتة، ومنها بعض العلماء الذين زلت أقدامهم إلى مواقف علمية زائفة. ومقارنًا بين الخرافة في الغرب والشرق، يقول الكاتب إن مظاهر التفكير الخرافي في الغرب تبدو ضربًا من الردة، من الحنين والنكوص إلى مراحل قديمة من تطور الفكر البشري، أما التفكير الخرافي عندنا فيبدو من قبيل التثبيت، من الجمود والتوقف عند أوضاع قديمة، والخوف من التخلي عنها وتجاوزها. وهنا ينقل عن فؤاد زكريا قوله إن البون بعيد بين الفكر الخرافي حين يكون تعبيرًا عن جمود متأصل وتحجر على اوضاع ظلت سائدة قرونًا طويلة، بدون أن يرغب المجتمع في تغييرها، وهذا الفكر ذاته حين يكون تعبيرًا محدود النطاق عن رغبة في التغيير يشعر بها مجتمع لا يستطيع أن يظل أمدًا طويلاً على حالة واحدة، حتى لو كانت هذه الحال هي التفكير العقلي الرشيد. هنا أيضًا يتساءل الكاتب لماذا تقدم العلم العربي حثيثًا ثم توقف قبل أن يجتاز الميل الأخير إلى الحداثة؟ ويجيب لأنه كان نبتة ظل جعلت تنمو بعنفوان ثم توقفت، لأنها افتقدت الشرط النهائي لكل نمو مكتمل: الشمس والحرية. وبعد..هذا كتاب ممتع ومفيد، خاصة في عصرنا هذا، الذي يشهد ارتدادًا سريعًا ناحية الخرافة، وبُعدًا كبيرًا عن العلم، خاتمًا هذه القراءة بقول عادل مصطفى: «هكذا كلما أوغلت في العلم تجلّى لي الجهل، كأنه مارد أسطوري يطمسني في ظله الهائل، ويحملني على الاستخذاء أمام جلالة العلم، وعلى التخشع في رحاب الحقيقة.
٭ كاتب مصري