سعد زغلول برفقة عدد من القيادات الوطنية المصرية
تحل هذه الأيام الذكرى المئوية لمشهد ديمقراطي جدير بالتأمل في تاريخ مصر الحديث، الذي تمثل في إجراء أول انتخابات برلمانية في مصر، في أعقاب ثورة 1919 بعد صدور دستور 1923، وقد أُجريَت الانتخابات في أجواءٍ من النزاهة، وحملت نتائجها مفاجآت مدوية، تمثلت في سقوط أقطاب الأحرار الدستوريين جميعاً أمام مُرشحي الوفد، الذين اكتسحوا المقاعد اكتساحاً، ولم ينجح منهم سوى محمد محمود باشا.
وكانت المفاجأة الأكبر بسقوط يحيى إبراهيم باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية في الحكومة آنذاك، أمام المرشح الوفدي أحمد مرعي أفندي، في دائرة منيا القمح، في سابقة تاريخية غير مسبوقة أو ملحوقة في تاريخ مصر الحديث، حملت دلالات ناطقة على نزاهة تلك الانتخابات.
انتهى المشهد الانتخابي بحصول الوفد على أكثر من 90% من مقاعد مجلس النواب، حيث فاز مرشحوه بـ195 مقعداً من أصل 214، في حين حصل الأحرار الدستوريون على 6 مقاعد فقط، بينما حصل الحزب الوطني على 4 مقاعد، وبهذا يكون الوفد هو الذي شغل المساحات التي خلقها الدستور الجديد، وصار الممثل السياسي للأمة في مواجهة القصر والاحتلال الإنكليزي، وكان المشهد التالي مشهد تشكيل الوزارة الشعبية.
بعد الاكتساح الوفدي الهائل لمقاعد البرلمان الجديد، بنسبة تزيد على 90%، كان من البديهي أن يعرض الملك على سعد زغلول باشا تأليف الوزارة الجديدة، بصفته زعيم الأغلبية، لأن الوزارة طبقاً للأوضاع السليمة الحرة هي وكالة عن الشعب، وقد أعلن الشعب في الانتخابات أنه يُولي الوفد ثقته، فصار من حقه ولاية الحُكم، وفق تعبير عبد الرحمن الرافعي.
وقد ثار تساؤل كبير في الفضاء السياسي المصري آنذاك، يتعلق بالوفد ونظرته إلى الوزارة الجديدة مفاده: هل يقبل سعد رئاسة الوزارة؟ أم يدعها لأحد من أنصاره، أو من غير حزبه ممن يثق به ويقتصر على زعامة الحركة الوطنية؟ وقد كان لكل رأي أنصاره الذين ساقوا الحجج التي رأوها مُقنِعة لقبول سعد الوزارة أو رفضه لها، لكن التأييد الشعبي الكاسح الذي حازه الوفد رجح قبول سعد للوزارة، بعد ترددٍ دام بضعة أيام.
أثارت نتيجة الانتخابات مخاوف القصر من توجهات الوزارة الجديدة، ودفعته إلى الإبقاء على وزارة يحيى إبراهيم باشا حتى موعد انعقاد البرلمان الجديد، مستهدفاً تحقيق أمريْن أولهما: ملء أكبر عدد من الوظائف الحساسة بالموالين للقصر، والثاني: إطلاق يده من جانب الوزارة الإبراهيمية في تعيين خُمس أعضاء مجلس الشيوخ المنصوص عليهم في الدستور، وبهذا تصور الملك أنه يستطيع إيجاد لون من التوازن بينه وبين الوزارة الجديدة، سواء داخل البرلمان أو خارجه. في نهاية المطاف قبل سعد زغلول تشكيل الوزارة الجديدة، وجاء خطاب الملك إليه في 28 يناير/كانون الثاني 1924، وكان اللافت فيه أنه تضمن عبارات تقليدية، ولم يُشِر إطلاقاً إلى نقطة حصوله على ثقة الأمة في الانتخابات، وكان هذا الإغفال الملكي المتعمد، بهدف عدم الاعتراف بالأساس الدستوري لقيام الوزارات، وإنكار حق الأمة في اختيار حُكامها، فقد كانت وزارة سعد زغلول هي أول حكومة تأتي بإرادة الشعب، لا بإرادة السلطان، أو «ولي النعم».
وزارة سعد زغلول والأفندية
لم تفُت تلك النقطة على زعيم وطني عظيم بقامة سعد زغلول باشا، الذي أورد في رده على خطاب الملك، بأن أول سبب دفعه لقبول الوزارة هو احترام إرادة الأمة، التي أجمعت في الانتخابات على تمسكها بمبادئ الوفد، وارتكاز الحكومة على ثقة وكلائها، مؤكداً بهذا أن قبوله تأليف الوزارة قد نبع من إرادة الأمة، لا من إرادة القصر. ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث، وقف رئيس الوزارة الذي حملته الجماهير الغفيرة على أعناقها إلى سدة السُلطة، يردد على مسامع الملك برنامج وزارته، الذي تضمن عبارات ذات جرس جديد ثقيل الوطأة على معقل الأوتوقراطية المصرية، ومنبع الاستبداد، من عينة التمسك بالروح الدستورية في جميع المصالح، وتعويد الكل احترام الدستور والخضوع لأحكامه، وذلك إنما يكون بالقدوة الحَسنة، وعدم السماح لأي كان بالاستخفاف بها، أو الإخلال بما تقتضيه.
أخيراً جاء تشكيل الوزارة الشعبية الجديدة، الذي أتى حاملاً مفاجآت كبيرة، أذهلت الرأي العام داخل مصر وخارجها، وصفها محمد حسين هيكل باشا بقوله: «في اليوم الذي تألفت الوزارة فيه، فتح كثيرون عيونهم واسعة من شدة الدهشة». كانت المفاجأة الأولى اختيار سعد لعدد من «الأفندية» من أبناء الطبقة الوسطى، الذين قذفت بهم ثورة 1919 في بحر السياسة، من الخارجين من صميم الطينة الشعبية، ولا يحملون سمت الطبقة الأرستقراطية، من أصحاب القصور، أو كبار الأعيان من ذوي الأصول التركية والشركسية، ولا يحملون أي مؤهلات طبقية أو أوتوقراطية، سوى ماضيهم في النضال الوطني الثوري، ممن وصفهم هيكل باشا بقوله: «رجالاً لم يعرف لهم أحد ماضياً يُقام له وزن؟ أشرك نجيب الغرابلي المحامي في طنطا، بغير شيء إلا أنه «قاهر صدقي» في الانتخابات، وأشرك غيره فأدهش ذلك أهل مصر، وكان مثاراً لدهشة البلاد العربية الأخرى دهشة رددتها صُحفهم وألحت في ترديدها».
اختار سعد شخصيات من أمثال مصطفى النحاس، ومرقس حنا، وواصف بطرس غالي، ومحمد نجيب الغرابلي، وانضم إليهم لاحقاً أحمد ماهر، وعلي الشمسي، ومحمود فهمي النقراشي، وقد كانوا حينذاك من المغامير لا من المشاهير، لكنهم لعبوا أدواراً بارزة لاحقاً، على مسرح السياسة المصرية، في الحقبة الليبرالية الزاهية الراقية (1922 ـ 1952) في العهد الملكي. جاءت المفاجأة الثانية باختيار سعد اثنيْن من الأقباط، خروجاً على القاعدة المستقرة منذ عشرات السنين، باختيار قبطي واحد في الوزارة، ورفض سعد اعتراض القصر على هذه النقطة، مؤكداً أنه لا يُفرق بين مسلم وقبطي، وأنه المسؤول عن شعور الشعب المصري، وأصر على اختيار الوزيريْن، كما رفض أيضاً اعتراض القصر، على ترشيح الغرابلي أفندي المحامي لوزارة العدل «لضعف مكانته بالنسبة لضخامة المنصب الوزاري» وأصر سعد على اختياره للغرابلي وزيراً للعدل، فكان هذا التعيين بمثابة نسف للتقاليد الطبقية القديمة من أساسها، وأورد عبد العظيم رمضان عبارة بليغة لأحد الكتاب المُحدثين، وصف فيها اختيار الغرابلي بأنه كان «تحطيماً للقيم المظهرية التي كانت للباشوات، وتأكيداً للطابع البورجوازي للوزارة، وإرضاء للإنتلجنسيا المصرية غاية الإرضاء». أما الثالثة فكانت اختيار سعد لمحمد سعيد باشا، وتوفيق نسيم باشا، وأحمد مظلوم باشا، في وزارته، وكان ثلاثتهم من الموصوفين بأنهم من رجال الملك، حيث تولى الأول والثاني رئاسة الوزارة أكثر من مرة، بينما تولى الثالث رئاسة الجمعية التشريعية، ورُشحَ لرئاسة الوزارة عدة مرات من قبل، وقد فسر عباس العقاد إشراك أولئك الثلاثة في وزارة سعد باشا، بالدور الذي لعبوه في تسوية العلاقات بينه وبين القصر، وكان إشراكهم بمثابة مكافأة عن جهودهم التي بذلوها في هذا الصدد.
لم تَطُل فترة بقاء الوزارة الشعبية في الحُكم، ولم تمكث سوى عشرة أشهر و24 يوماً، وعلى الرغم من قصر تلك الفترة بيْد أنها كانت حافلة بالمناوشات، والصراعات، والصدامات، بين الوفد الذي مثل رأس حربة الحركة الوطنية وجموع الجماهير، التي خرجت في ثورة 1919 للمطالبة بالديمقراطية، والاستقلال، في مواجهة كل من الاستبداد ممثلاً في القصر، والاحتلال الإنكليزي الذي كان يتحين الفرصة للإطاحة بالوزارة الزغلولية، لاسيما بعد فشل مفاوضات سعد – مكدونالد. فقد كان اللورد أللنبي متربصاً بالوزارة، حتى جاءته الفرصة في حادث مقتل السردار في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1924، فاهتبلها الاحتلال لتنفيذ النية المُبيتة، وتمكن بعدها ببضعة أيام من الإطاحة بوزارة سعد زغلول، الذي تقدم باستقالة وزارته إلى الملك في 23 نوفمبر 1924 وقبلها الملك في اليوم التالي، وقد عبر أحد الكُتاب البريطانيين عن ذلك المشهد بقوله إن: «الأقدار أرسلت لنا جثة السردار كحل لموقف لم يعد مُحتمَلاً» وبذلك طُويَت صفحة مضيئة من تاريخ الحركة الوطنية المصرية.
كاتب مصري