يطمح الفن إلى خلق العالم من جديد، وبقصدٍ أو دونه يفعل ذلك عبر التفافات مجافية للواقع – إنه ولا شك أمرٌ مشروع- لكن الصدع الذي يخلق بين النص والحياة في هذه الحال لا يمكن لأمُه، بل يفقد مع الوقت أيّ قابلية لترميم الأسى الذي تتركه الفاجعة.
إنّ حجم الكارثة وجحيمها جعلا من سؤال هيلدرين- لمَ الشعراء في زمن المحنة؟ – عتبة لأيّ كتابة تولد في أزمنة الخراب الروحي: في إشارة للتشكيك بجدوى الفن؛ ومقدرته على التقاط النغمة الحقيقية للحياة، التي فقدتها في لحظة هلعٍ كليٍّ أبيض؛ بحيث يتحول سؤال الجدوى لسؤال أخلاقي يمسّ جدارتنا كبشر.
يلمس القارئ في مجموعة «قومي يا مريم» 2021 للكاتبة السورية رباب هلال هذا السؤال الأوليّ، فيجد نفسه وجها لوجه مع من وصفهم بلانشو «المدمّرون دون تدمير» الذين مورس عليهم المحو وهم أحياء، لقد تمكنوا من النجاة دون نجاة ومن الحياة على أطراف الحياة، ما يُعزّز مسعى الفن الدائم صوب المنسيّ الذي لا يمكن رؤيته بالعين لشفافيته واندماجه بالحياة الإنسانية (وكم من أعين تبصر ولا ترى!). تأتي الحرية أولى بديهيّات الوجود الإنساني في أفق جديد، فتخضع لتشريح دقيق مسرحه العلاقة بين الإنسان وذاته وما يستتبعها من الارتباط مع الآخر، يمتزج الشخصي بالعام والبيت بالوطن، فتلتبس الحدود بين الجزء والكل، بين الحب والخيانة -الخيانة في الحاضر (الحب كحدث مضى مشكوك في أمره) بين البيت الذي انتهك والوطن الذي دهمه الغرباء. ويتبدى هذا التداخل بين الشخصي والعام في قصة «سكر بنات» فآثار العشيقة في فراش الزوجيّة، هي آثار الغرباء في سعير هذه الحرب «ودخل من هب ودب من عرب وأجانب للمشاركة في هذا الخراب وتضخيمه».
إن خراب البيت وفوضى السرير (بيت المرأة وكينونتها) معادل للعبث بالأوطان، والمرأة الآن تستعيد مشاهد هذا الخراب، تغلي قهوتها مرددة: يالله تعبنا.. «ينصحها الطبيب دوما بالاسترخاء، لم تسأله يوما عن استرخائها بين حربين، حرب أمام بيتها وحوله وفوقه، وأخرى خلفه هنا في الداخل حربان تدمران أي عزيمة للاسترخاء والتعقل والهدوء». هي فلسفة الانتزاع من أفق الرضوخ (البيت والوطن) لقد كان زوجها/ وطنها ملاذها الدافئ تلوذ بصدره فتتهاوى شكوكها». والانتزاع هنا فلسفة، قبل الحرب كانت لغة الرضوخ والخوف من ثرثرات الآخرين، ومن الطلاق، أما الآن فقطعة السكر التي تركتها العشيقة وسط مرارة الفوضى هي قطعة الوعي ذاتها التي خلفتها الحرب وسط مرارة الأنقاض إنها: إدراك بعدٍ آخر للعيش بصحبة (لا)، «تبدأ بتليين قسوة السكر، لم يكن زوجها، رداؤها الدافئ حسب، بل كان الجلد الذي يكسوها، فلتبدأ بالسلخ من أصابع قدميها». تنتزع جلدها لتتعرف حريتها، وتواجه عالمها عارية من الحب والبيت، وتستعيد كرامتها عبر الرحيل المغادرة بشجاعة صمت لا يعوزه أي تبرير، «تجمع أشياءها الخاصة تضبّ الحقيبة وتمضي تحت السماء الملبدة بغيوم داشرة باردة، وأعمدة دخان الحرائق الكثيفة». فالحرية في معناها الأعمق تعني أن نعيش في الحقيقة، فنقبل ضعفنا ووجودنا وخياراتنا ملتحمةً بروحِ الإنسان لا تنفصل عنه.
إن خراب البيت وفوضى السرير (بيت المرأة وكينونتها) معادل للعبث بالأوطان، والمرأة الآن تستعيد مشاهد هذا الخراب، تغلي قهوتها مرددة: يالله تعبنا.. «ينصحها الطبيب دوما بالاسترخاء، لم تسأله يوما عن استرخائها بين حربين، حرب أمام بيتها وحوله وفوقه، وأخرى خلفه هنا في الداخل حربان تدمران أي عزيمة للاسترخاء والتعقل والهدوء».
إن الأسلوب المحبوك بشغف، دقــّة اللمسة وجدارة المحاولة هو ما يمنح للشخصيّات في هذه المجموعة بعدها الإنساني المؤسس على الأخلاق الفردية، القائمة على البحث عن حقيقتنا الذاتية، وتجسّد قصة قرصة برد هذا السؤال الأخلاقي بحيث تجُري الشخصية مراجعة لحياتها، وتصبح رغبتها البسيطة في الشعور بجسدها عبر قرصة البرد تحققا فعليا لحريتها؛ لكنها مكبلة بقرارات من يسميهم سارتر بالغشاشين، وفي أفضل الأحوال بالجبناء؛ إن ثورتها هي على ثروة أبيها الفاسد، تفاهة أخوتها اللامباليين ورعونتهم، ببغاوية أمها؛ الذين جعلوها مجرد مانيكان يعرض في سهرات العائلة، «كيف لم أكن أرى ذلك كله يا لغبائي». إن رمزية الحجاب والمانطو هنا ليست إلا إشارة لحق الاختيار، لذلك تقترن لحظة تفتح بصيرة الشخصية برؤية عذابات الآخرين، فهذه الحرية تشبه الموت قليلاً، (بل قل هي الموت ذاته) وهنا يبزغ السؤال الأخلاقي الجمعي والمشترك، مساءلة الثقافة وتفكيك جذورها الفاسدة، الذي تمثله قصة «عند الفجر».. ولعلها أقسى نصوص الكتاب، هي بحث في المسافة الدقيقة بين الزائف والحقيقي، في المنطقة الخطرة وغير المرئية والقابلة للاشتعال بين منطقتين متجاورتين، النفاق والصدق، الحب والكراهية.
فمشهد خروج ديب وهو الأخ الأقرب لندى برفقتها على الدراجة، شاعري كمنظر غريق على وجه الماء، حاد كشفرة، ولعل تمسّك ندى بظهر أخيها وإحاطتها لخاصرته يمنحه بعده التراجيدي، فما يبدو للعين النائمة ترف عاشقين شابين، ليس في النهاية سوى استعداد للقتل «حدث الأمر سريعا جداً، كما لم يتوقع ديب، ينتظر قليلاً لقد انتهى الأمر بأن يلقي الجثة في النهر وفي الحال يبدأ بتنظيف السكين بالماء». لقد استدرج شاب ابنة الثانية عشرة، ثم سرق نقود والدها وهي الآن ستدفع ثمن براءتها بيد أخيها، وفق معنى الشرف الغائب هنا المعكوس، الذي اختزل في جسد الأنثى، بينما تصبح كل الانتهاكات مباحة وأخلاقية. بيع بضاعة الإغاثة، منازل المهجّرين المسروقة. وهذا يجعلنا نعرف كيف تنعدم هنا أي إمكانية للتسامح والغفران. وما له دلالة هو تشبث الضحية بخاصرة قاتلها/أخيها الذي بادر فور ارتدائه لمعطفه، لإخفاء كنزته الملطخة بالدماء ليفكر بمباركة الجميع له، إنه كيان مستلب، امتداد مشوه لنظام ثقافي وفخره كذبة حبكتها هويته الممحوة، إن حربه وضيعة وشرفه تهتك قبل ذلك بكثير حين ترك ذاته نهباً لغيره. وهو يشعر بلسعة، لكن هيهات أن تكون لسعة الحرية التي عايشتها شخصية قرصة برد، بل وخزة العبودية.. إنه وحش بأغلال وسلاسل يمكن سماع صوتها دون رؤيتها. عبد يسير في طريق يتناسب والعواء (عواء الحرب وعواء الكلاب المذعورة).
السؤال الأخلاقي
إن المكان القبيح المخرّب، لا يمكن فهمه ما لم نفهم اللحظة التي سبقته، ما لم نعي الدمار الأخلاقي الذي جعل بيوتنا تشبهنا، وهو ما تتحرى قصة الضيوف محاولة فهمه والتأمل فيه، فالأب الذي فتح بيته لضيوف هم ذاتهم من سيدمرون هذا البيت، فرمزية القصة تتعدى فكرة دخول شخصين انتهازيين -يستخدمان الدين كغطاء لتجارة المخدرات والتغرير بالشباب – إلى دلالةٍ مفتوحة وما تبقى من البيت هو السلم الذي سقط لحظة صعود الساردة وشقيقها وقد تُركا معلقين بين السماء والأرض (فلا أرض ثابتة ولا سماء ترفّقت بنا)
إن البناء الفني للمجموعة، الذي يبدو للوهلة الأولى كمتوالية قصصيّة، يعكس فلسفة الكاتبة، فالتقسيمات الهندسية مكانية وزمانية، تجمع في حي واحد شرائح وأطياف المجتمع السوري المتنوع وتجعل من اللحظات الزمنية المتقاربة تجري بشكل متقابل، بحيث يساعدنا المؤلف الرائي أو العليم، على سبر العالم الداخلي للشخصيات ونستطيع أن نعثر على مسوغات لسلوكها، فندرك ما تعجز الشخصية ذاتها عن إدراكه وعجزها يقيم بينها نوعا من قناع أو زجاج مزدوج:
1- بين الشخصيات مع بعضها
– بينها وبين إدراكها لواقعها ولمسبّبات هذا الخراب الروحي.
– بين الإنسان وذاته (فهو مجرد نسخة أو امتداد)
ومع أن بعض الشخصيات زوّدت بوعي داخلي (قرصة برد- موعد غرامي -صباح يختلف قليلاً) إلا أنها في بقية النصوص محرومة ـ عمداً- من مكاسب الوعي فدورها قائم في أن تعكس نمط ثقافة قاهرة/مقهورة، كما تذوّب الساردة الحدود بين شخوصها، لتبين ارتباط هذه المصائر ببعضها، فيما يبدو فهم ذلك خفيًّا وعصيًّا على فهم الشخصيات بفعل تاريخ طويل من غياب الحرية. إنها شخصيات مبتورة كجذوع أشجار مقطوعة ومرميّة في عراء الإنسان.
وفي هذا الكتاب يتقدم الواقع بكل سقطاته ووثباته، لسماع النغمة الحقيقية للحياة. وشخوصه ينطبق عليهم وصف بريمو ليفي (لا يمكن تدميرهم جسمانيا، فقد قاوموا الإبادة من الداخل لأنهم معطوبون في الأساس، مجروحون في عمق وجودهم).
إن فلسفة هذا البناء الفني تقوم على رفض الغياب وتجعل من مصيرنا المشترك مرتبطاً بطريقة أو بأخرى، وتعزز حضورنا في وجدان الآخر. كصوت عجلات ديب التي يرهف القارئ سمعه لها في قصة «قومي يا مريم» بحيث يلوم العجوز ديب على قتله لشقيقته.
إن الفاجعة مؤلمة نعم، لكن التفتح الشعريّ ابن الألم، وفي النوازل الكبرى تكون الفرصة الأخيرة للتمسك بإنسانية الذات التي تمارس كل الألعاب الشعرية الممكنة من التذكر، الشم، التذوق، التنفس، لتصبح حدثا فريداً، وقراءة العلاقة بين الحاسة الشعرية والفجيعة تحتاج دراسة مطولة عن أزمنة الفقدان. وفي نص «غاردينيا بين الأصابع» تعمل الذاكرة بأقصى توترها، والساردة تستعيد صور أحباء رحلوا عبر لعبة التشبيه، «على بعد خطوات مني، رجل شارد، بيده دمية متحركة يشدها خيط لا مرئي، يدنو مني، يلتفت إليّ أجفل»، تؤجج رائحة الغاردينيا الذكريات وتصبح ذريعة لاستحضار الأحباء.
إن الزمن المختار للكتابة لا يقل دلالة عن الزمن الذي يتم في الحياة. فأغلب الوقائع تجري لحظة الغروب، وهذا الاختيار يبرز فجائعيه المصائر التي تنتظر الشخصيات (ليلاً أو فجرا أو لحظة انزلاق الشمس لمغيبها) لكن في المقابل تتم قرصة برد، وموعد غرامي، وسكر بنات في موعد مع الضوء /الحرية.
تتجاور في «قومي يا مريم» نقائض وجودية وشعرية، فما يبدو نزهة على دراجة بين طفلين في قصة «عند الفجر» ينتهي بقتل (والضحية تحضن قاتلها) هذا الإحلال الغريب يضفي على المشهد ما يمكن أن نطلق عليه التلاعب الجماليّ بحيث يظهر القسوة وكأنها فعل دخيل على الحياة زائد وغير ضروري، إنه يبرزها ويظهرها تحت عدسة مكبرة، لكنه لا يمنحها شرعيتها ولا يبررها (حيث تقتلك اليد التي احتضنتك يوما).
في قصة أخرى يقول عاشق لحبيبته/ إن أمسكت بك يدي/ إن هذه العبارة مفتوحة الدلالة تحوي المعنى ونقيضه فهي تقال بين متحاربين على جبهة قتال، وعلى العكس للغزل بين متحابين. وبهذا تتفتح اللغة على المصائر الداخلية، على وجوه الموتى وهي تنطبع فوق وجوه الأحياء في «غاردينيا بين الأصابع». بين صالة البيت وقد تماهى معها معنى الوطن في «سكر بنات»، بين المقبرة والسرير في «إنهم هنا» فتدخل أشباح الموتى لتشارك الأحياء رقادهم وأغطيتهم «طافت الأجساد المنتفخة حولنا، البرق يتكاثف، نهضت بتثاقل راجف، أقصد الخزانة، لأشيل منها بطانيات، لأدثر الأجساد المرتعشة من البرد والموت. لم تكن الأغطية كافية فتلاصقت الأجساد وتلاحمت كأنما هي عائلة واحدة».
كتب أميل زولا مرة «إن موهبة النظر أقلّ شيوعا من موهبةِ الاختراع».
وفي هذا الكتاب يتقدم الواقع بكل سقطاته ووثباته، لسماع النغمة الحقيقية للحياة. وشخوصه ينطبق عليهم وصف بريمو ليفي (لا يمكن تدميرهم جسمانيا، فقد قاوموا الإبادة من الداخل لأنهم معطوبون في الأساس، مجروحون في عمق وجودهم). فيصعب علينا التفريق بين ما حدث وما يمتلك إمكانية الحدوث وبين ما لن يحدث أبداً.. تتقدم اللغة هذا المشهد المهيب للقص، مطعّمةً بمفردات من الخبرة المعاشة في لفظها الذي يكتنز امتداداً إنسانياً ثرّاً، في تصادٍ مع المعنى الذي قصده فولتير الذي كتب مرة: أفرك لغتي حتى أُدميها. هنا تطحن اللغة وتهرس ثم تنثر فوق الصفحات بمقادير مدروسة ومسافات منتقاة. فينطبق عليها وصف أحدهم (إنها حية افتحوها لتروا كيف تنبض بين أيديكم!)، إنه وجود آت من بين صفحات كتاب قصصي يبدأ بعنوان يحمل صيغة أمر، فعل يختزن روح أيقاظ: يثير في المتلقي القدرة على تخيل مشهد تتوسطه نافذة مفتوحة، يعبث بستارتها هواء ربيعي في صباح دافئ وعسلي، تنحني فيه أم، تمرر يدها المفعمة برائحة الخبز على وجنة (ابنتها/ سوريا) -هامسةً: قومي يا مريم.
كاتبة سورية