في مرئيات الفنان فائق حسين… الأنساق الذهنية والإنسان المستلب

حجم الخط
1

فنان مثل فائق حسين يمتلك حساسية في التعامل مع متغيرات الوجود بشكل دائم ومستمر، كذلك يحاول عكس ما يدركه ويشعر به، وما يضفي تأثيراً على ذائقته وبنيته الفكرية، حيث يظهر من خلال اندفاعه بتأنٍ خلاق وجمالي واضح، من أجل امتلاك هويته الفنية. فطموحه لم يتوقف منذ انتمائه إلى (جماعة الأربعة) فاخر محمد، عاصم عبد الأمير، محمد صبري، وطيلة رحلته الفنية وتأثره بما كان يراه ويشاهده ضمن النشاط الفني العالمي، بسبب إقامته في المهجر، الأمر الذي ترك أثره على خلقه الفني بتوجهات أكثر عمقاً واشتغالاً وتماسّاً بمتغيرات الواقع، على الرغم من انفراط عقد حلقة الجماعة، شأنها شأن الجماعات المتشكلة عبر التاريخ التشكيلي العراقي، إلا أنه تواصل مع السعي لبناء عمارته الفنية، فهو واحد ممن أسسوا لنمطهم وتعدد وتجدد توجهاتهم، كذلك لعب وجوده خارج البلد، خاصة مرحلته الأُولى في إسبانيا وحصوله على جائزة الشعر وتصميم أغلفة الكتب، ثم رحلته التي استمرت طويلاً في المهجر حتى رحيله الأبدي. ومن خلال النظر إلى سيرته وهي واجبة لمن يحاول استذكاره، نرى وعبر مصاحبته منذ الطفولة والصبا؛ أنه شديد الميل إلى الكشف عن النادر والمؤثر، خاصة حين نشاهد فيلماً سينمائياً. إذ نراه كثير التعليق حول مجريات العرض، وأداء الممثلين، وبالأخص بطل الفيلم، بمعنى امتلاكه ذائقة فنية ـ ناقدة وصاعدة. ولعل بحكم استذكار ما كان لنا من ولع في متابعة ما كان يرافق عرض الأفلام من مانشيتات ملونة، توزع كإعلانات دعائية للفيلم، وجدناه يدفعنا للحصول عليها وجمعها بتنسيق عالٍ، إضافة إلى اهتمامه بخضرة البساتين والحقول ونحن نجوبها من أجل القراءة والتحضير للامتحانات، إضافة إلى طفولته وفقدانه للأب مبكراً، بمعنى رافقت نشأته مجموعة عوامل تخص علاقته بالحياة، تبلورت في شبابه نحو طبيعته لتنمية ميله إلى الفن باعتباره شاغلا ايجابيا لتطوير علاقته بالوجود، لكنه لم يفارق حساسيته ورهافته ثم أناقته في كل شيء، فتاريخ المبدع هو طفولته وشبابه ومعارفه ورغبته الذاتية للاختيار.

سقت مثل هذه الثيمات والخصائص، لأني أجد لها علاقة ليس بحياته فقط، وإنما برؤيته الفنية ونموها الرفيع، التي اعتمدت أساساً على حراكه الذهني النشيط بدوافع معرفية. فهو فنان مثقف شأنه شأن فناني «جماعة الأربعة» الذين تبوؤوا مراكز أكاديمية وتوجهات فنية أثرّت في حركة التشكيل العراقي، بما تحلّوا به من دوافع في التحولات في الأساليب وتجديد الرؤى. والفنان فائق واصل رحلته في اتجاهات متعددة، لكنه حافظ على رؤيته الوجودية الخالصة، والمنبعثة من أُطر النظرات القارّة والمستقرة على مبدئية فنية. وهذا ما وجدناه في محصلته الفنية، وبما توفر لنا من لوحات يمكن الارتكاز عليها للظهور باستنتاجات ذات مساس بتجربته الواسعة، التي تحتاج لقراءات متعددة. فالفنان خلق للوحاته مركزاً أثبت حضوره الموضوعي والفني، وهو الكيان الإنساني الذي يرى في وجوده حيفاً أُثر في حياته، فسلب منه الأهم، وهو الحرية ومحاولة محو الهوية. وهذا الهم لم يكن فردياً بقدر ما هو جزء من حساسية المشهد الحياتي، الذي عاش الفنان في خضم تناقضاته وصراعاته الاجتماعية والسياسية في البلد. فهو كمبدع مرفوع عنه الحجاب، فلا يتعامل مع ما حوله إلا من خلال أدواته الفنية، خاصة زحمة الألوان وميله إلى العتمة والتداخل في تجسيد الجسد والإنسان ووجوده الفردي في المكان، فنموذجه يعاني من العزلة من خلال وجوده في الأمكنة الضيقة والخانقة وذات الحدود الصارمة والهندسية، فهي ذات دلالات مختلفة، فحين يكون المكان عبارة عن حيز كريستالي، فهذا يدل على العزلة المشتهاة والمختارة، بينما تكون الأمكنة المتداخلة مع العتمة، ذات دلالات تنزع إلى الاستلاب والضغط السلبي، لذا نجد من خلال لوحاته النزوع إلى علامات بعيدة زماناً ومكاناً بما يكشف عن العود الأبدي الذي أشار إليه مارسيا إلياد، باعتبارها مؤشرات توجيه للوجود البشري، فاستحضارها فيه نوع من التشبث بالرموز الدالة على العرفانية من جهة، والأصالة التاريخية من جهة أُخرى. فعلاماته كثيرة تتخلل سطح جدران لوحاته، فهو يفعّل تداعياته الذهنية كي يكون لتاريخ مضى حضور وتأثير في حاضر مزدحم ومشوش.

فائق حسين

لقد أسقط الفنان نشاطه الذهني على استحضار التأثير المباشر وغير المباشر على تداعيات محتوى السطح، خاصة عتمة الألوان واقترابها من الزخرفة، والحقيقة هي إشارات إلى الاضطراب وعدم الاستقرار النفسي وتداخلها. ووجود الإنسان ضائعاً وسط هذه الزحمة الخانقة والسالبة للكينونة هي الصورة الحاصلة لرؤيته المستمرة. فالحرية تبدو من خلال ممارسة نماذجه غير متحققة، وأمر الحصول عليها ينحو للمستحيل. لذا نراه يكثف على لوحاته صور الزحمة بما يشبه القيد الصارم الذي يسلب الكينونة. ثم أنه يستجيب لحسه الأبدي لفضاء الاقتراب، فثمة نقيض قائم بين حسه الإنساني ونظرته المستعادة لتاريخه الاجتماعي والُسري دون تخصيص. إن ما يحيط إنسانه وكما تُسفر عنه مكونات لوحاته؛ وجوده في أمكنة ذات حدود ضيقة تتناقض مع حسه الذاتي الذي يختزن نمط الحرية واستقبال المتجدد. إن العزلة الروحية واضحة على سطح لوحاته. فالأمكنة بحدودها الصارمة تعمل على إيقاظ وتنشيط عوامل العزل والقهر ومحو الهوية، وبهذه الحالات والصور تكون العلاقة مع وجوده المادي والمعنوي محكومة بثقل الزمن وضيق المكان بما يخلق جدلية مناسبة لمثل هذه الأحاسيس وانعكاساتها. لعله يُحيل هذه المؤثرات إلى أنماط فنية تحفل بالتعامل العقلاني والحس المرهف مع الألوان التي تعبر بشكل واضح عن البعد النفسي وتداعيات الفنان الذهنية التي تسترجع مفاصل التاريخ بلعبة فنية صارمة، فالذي تتحلى فيه لوحاته هي الصرامة والغموض في مزج الألوان بما يشكل بانوراما لونية، تجسد صورة الإنسان متخفياً وراء الوهم والخديعة التي يخلقها الزمن بعوامله المتعددة وذات الأنماط القاسية. فليست سهلة صورة سلب حرية الإنسان، وليس سهلاً فراق الأمكنة القريبة إلى الروح الإنسانية. هكذا يتعامل الفنان مع ما هو موجود وما هو مرحل من خلال الذاكرة. إن الأمكنة التي توفر عليها في لوحاته، لا تتيح الحرية للإنسان، بل تشكل له ضاغطاً يبعد عنه الاستقرار، فالحيز المكاني بشروطه الإنسانية يُتيح للإنسان فرص التحول والاختيار والتطوير، على العكس من نقيضها. هذا ما تعكسه لوحاته باقتدار فني وتقنية مدروسة. وتلعب ذاكرته دوراً في إيقاظ الصور، وما خلفته الأزمنة على وجوده ووجود غيره، لكنه بحكم إحساسه بالغربة الوجودية يتعامل مع الحشد الذاكراتي ـ إن صح التعبير ـ باضطراب الصور أولاً، وخلق وجود لنماذج أكثر تعبيراً، سواء عن وحدتهم في الوجود، أو سوء ما خلّفته الأزمنة من صور مشوشة وعديمة الوضوح. وهذا يتركز بتكرار الحيز المحدود والضاغط مقترباً من تقسيمات رفوف المتاحف في حفظ إرث الماضي، بمعنى تحويل قيمة الإنسان إلى قيمة النماذج المحنطة والمنحوتة بالحجر والطين الصلب.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صلاح:

    جماعة الأربعة ( محمد صبري ، فاخر محمد ، عاصم الأمير ، حسن عبود ) تشكلت في الثمانينات , و الشهير المخضرم فائق حسن ( مواليد 1914) لم يكن من ضمنهم .

اشترك في قائمتنا البريدية