في ظل اجتياح الآلة لحياة الإنسان، وتطور وسائل التواصل وبروز العصر الرقمي، بالإضافة إلى انهيار السرديات بعد حربين عالميتين، وفقدان العالم لمعنى توازن القوى، وتحوله إلى قرية كونية، بات الإنسان يستشعر ضآلته في هذا الكون، كما بدأ يفقد وجوده وإنسانيته شيئا فشيئا، بل أصبح من السهل أن يتحدث تحت اسم مستعار، أو تحت رمز أو رقم. فالواقع لم يعد هو الواقع، كما قالت ناتالي ساروت، أو كما عبر ألن روب غرييه في رؤيته للواقع الجديد، إذ يؤكد أن عالمنا مختلف عن عالم بلزاك حيث إن الإنسان أصبح لا يدرك مكانته في هذا العالم، وهذا ما يقودنا إلى الخطيئة كما يقول البيريس في كتابه تاريخ الرواية: «فالخطيئة هي محاولة شرح كل شيء قبل فهم أي شيء».
جميع المؤشرات تشير إلى أن الواقع أصبح شكلا مراوغا من الصعب الإمساك به، وهذا ما أفرز طرق تعبير وأشكالا شاذة تستدعي إحداث شكل روائي جديد. وهذا قاد عددا من الروائيين الفرنسيين في منتصف القرن العشرين، ومنهم غرييه، وناتالي ساروت، وكلود سيمون، وميشيل بوتور إلى إحداث تحول في شكل الرواية، وتكوينها فنياً ومضمونياً. يرى جيريمي هورثون بأن الرواية الجديدة تعد من التطورات الحديثة نسبيا في فرنسا، حيث تعرضت التقاليد المتعارف عليها للإنشاء التخيلي للتشويه والاستهزاء المقصود، بهدف إرباك القارئ للحصول على نوع مختلف من التأثير، وبهذه الطريقة يمكن رؤيتها بوصفها شكلاً متطرفاً للحداثة. لا شك في أن مدرسة الرواية الجديدة تعدّ تطورا طبيعيا للرواية الحديثة التي ظهرت في مطلع القرن العشرين، فكلتا المدرستين من وجهة نظر لوسيان غولدمان ترتبطان بمرحلة من مراحل تاريخ الاقتصاد و(التشيؤ) في المجتمعات الغربية، غير أن الرواية الجديدة عملت على هدم بنيان الرواية التقليدية، مع محاولة إفراز أشكال عديدة بتقنيات ورؤى جديدة، أو مغايرة.
إن عملية هدم بنيان الرواية التقليدية جاء ليعصف بأهم مكونات السرد التقليدي عبر إفراغ الرواية من الحركة الكلاسيكية من حيث وضوح العقدة وتطور الأحداث وتوازنها؛ ما يعني تراجع السرد، وتقدم الوصف الاستطرادي الذي يعدّ تحولاً عميقاً يطاول البنية الروائية التي كانت تقوم على الحدث. لعل المعادلة الجديدة التي فرضها رواد الرواية الجديدة تنهض على الوصف الذي أصبح يشكل المساحة المهيمنة على المتن الروائي، عبر إعطاء الرواية بعداً أشد كثافة في المعالجة، أو من خلال التركيز على ظواهر الأشياء بدلا من تعليلها. فرواد الرواية الجديدة في بحثهم عن الشكل الجديد والشاذ لا يعتمدون على تقنيات واحدة تشكل نهجا، إنما يتفقون على رؤية واحدة قوامها رفض الرواية التقليدية، أو ربما يرفضون الالتزام الأيديولوجي، ما يتطلب بناء الشخصية بمعزل عن قاعدة التحليل النفسي، أو بث الرسائل، أو أي موقف أخلاقي، فالمعنى أصبح مندغما في الأشكال التي يخلقها الروائي كما يقول محمد الباردي.
عملية هدم بنيان الرواية التقليدية جاء ليعصف بأهم مكونات السرد التقليدي عبر إفراغ الرواية من الحركة الكلاسيكية من حيث وضوح العقدة وتطور الأحداث وتوازنها؛ ما يعني تراجع السرد، وتقدم الوصف الاستطرادي.
إن الشكل الجديد للرواية الجديدة يعني أن لكل روائي أسلوبا مختلفا، وبناء عليه فإن مفهوم الرواية الجديدة يتحدد من خلال رفضها للشكل الثابت، أو من خلال بحثها عن أشكال جديدة في كل مرة، بيد أن المتابع يستطيع أن يحدد بعض الاتجاهات التي سادت، ومنها على سبيل المثال روايات غرييه، التي يمكن وصفها بأنها روايات ظواهر لا شخصيات، فهي تقوم على نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان، فأغلب أعماله ذات مسميات تختص بتلك الظواهر المجردة والمحايدة، فنجد روايات «الغيرة» و»البصاصين» و»المتاهة». إن غرييه من خلال اعتماده على الوصف البصري، ومتابعة سطح الأشياء يسعى إلى الإدراك بدون الخوض فيما تمثله هذه الأشياء من مواقف ورؤى أيديولوجية، وهذا ما دفعه إلى نقد أعمال سارتر وكامو لما تمثله من التزام. لقد أصبحت الرواية الجديدة تقوم بحركة عكسية في الرؤية، إنها تتجه إلى الأمور التي لم يلاحظها الإنسان، مع أنها ذات قيمة في حياته، فهي وصف لأشياء خارجية سطحية، أو عبر وجودها الخاص بلا تدخل من الروائي، والهدف من كل ذلك تحقيق الصدمة، وهكذا نلاحظ بأنه لا وجود لشخصية سيكولوجية، ولكن هناك حضورا إنسانيا لأشخاص لا وجود لهم، كما يقول البيريس في كتابه «تاريخ الرواية». وإذا كان ألن روب غرييه قد أوجد رواية الظواهر المجردة، فإن ناتالي ساروت وميشيل بوتور أشركا القارئ في اللعبة السردية، من خلال استخدام ضمير المخاطب غير المتوقع، وذلك للتوحيد بين القارئ والبطل. ونلاحظ هنا التطور في التقنية السردية المعتمدة في الرواية الجديدة تحديداً، حيث أصبحت تشكل اتجاها واضحا في التخلص من تقنيات الرواية التقليدية، في حين ينظر لها على أنها إضافة نوعية في البناء الفني للرواية التي تقوم على إخراج القارئ من سلبيته عبر دفعه إلى الدخول إلى اللعبة السردية، أو توريطه. وإذا كنت قد تحدثت عن ظاهرة الوصف البصري لدى غرييه وتقنية استخدام ضمير المخاطب لدى ساروت وبوتور، فإن الأخير قد علق الزمن، وأجهز عليه تماما في روايته «درجات « التي يصف فيها عدة أماكن في آن، وهذا ما يعد انتهاكاً أو هتكاً واضحا للبنية السردية التقليدية. كما يمكن أن نضيف روايات كلود سيمون، وغيره من الروائيين الذين سعوا إلى توظيف تقنيات غير مسبوقة في أعمالهم الروائية، ومنها استخدام طرائق الوهم الذهني من أجل خلخلة البنيان السردي، أو عبر مزج الشخصيات الروائية، أو جعل عدة شخصيات تتحول إلى شخصية واحدة، أو عبر تمزيق الشخصية وتشظيها.. كل ذلك يأتي بغية هدف واحد، هو جعل الرواية تعاش من الداخل، كما يقول ريمون جون في كتابه «الرواية الجديدة».
إن ما تتميز به الرواية الجديدة محاولتها بناء عالم روائي جديد، إذ لم تعد تتقبل كل سابق عليها، كونها في حالة رفض دائم، فهي في حالة تشكل وتحول مستمرين. فشخصيات بلزاك لم تعد مقبولة في عصر الشك، الذي لا يتعرف على شخوصه من خلال بطاقة هوية، كما لا يمكن التعرف على ملامحها، في حين لم يعد تصويرها النفسي مقبولاً، فهي شخصيات هائمة بلا قيم ولا طموح، ولا حتى خيال، إنها تكاد تكون متوحدة، وفي حالة بحث دائم كما يقول ألن روب غرييه. لقد جاءت الرواية الجديدة لتنقض الرواية التقليدية، وتتجاوز الرواية الحديثة عبر استخدام تقنيات وأساليب جديدة. إن روب جرييه وناتالي ساروت، وميشيل بوتور، وكلود سيمون، وغيرهم نسفوا البنية الروائية بالكلية. فإذا كان بلزاك قد قدس الشخصية، بينما جان بول سارتر قد عبر عن أزمتها، فإن روب غرييه محاها واستبدلها بظواهر سطحية. وفي الختام يمكن الركون إلى أن الرواية التقليدية التي سادت في القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، لم تعد ملبية لحاجات العصر الجديد، ولا سيما بعد سلسلة من الأحداث والتحولات التي أسهمت بظهور الرواية الحديثة التي شكلت أول انتهاك للبناء التقليدي عبر خلخلة ذلك البنيان واللجوء إلى تقنيات جديدة، ولا سيما توظيف تيار الوعي، وتراجع مكانة الشخصية الروائية، بالإضافة إلى كسر حاجز التسلسل الزمني، بالتزامن مع ظهور تيار الواقعية السحرية المعتمدة على العجائبي والغرائبي، فتيار مدرسة الرواية الجديدة نبذ الشخصية والزمن الروائي، في حين لجأ إلى أساليب سردية جديدة كاستخدام ضمير المخاطب، والاعتماد على الوصف الخارجي للظواهر، مع التحلل من أي التزام، أو موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي بشكل واضح، ما يعني بالضرورة خروجها وتمردها على بنية الرواية التقليدية والحديثة، مع السعي لوضع تصور جديد للفعل السردي الذي ينتمي إلى عصر يفقد يقينه.
٭ كاتب فلسطيني أردني
جميل ما كتبه الدكتور رامي أبو شهاب، حول المفهوم الجديد للرواية الحديثة ، هذا التطور أو التغير ليس غريبا على هذا الزمن، فكل المفاهيم تغيرت ، وكذلك القـيم ، حتى شخصيات الواقع تغيرت ، فلماذا لا تتغير أساليب ومفاهيم الرواية.. الرواية التقليدية معروفة بأحداثها وشخصياتها ووصفها وعقدتها، وهنا تتغير هذه المسميات لتصبح شخصيات ملامية ، خيالية تندمج في شخص واحد ، سيعتاد القارئ على هذا الشكل الجديد، تماما كما حدث للشعر التقليدي ، فأصبح الشعر الحديث ينافس المعلقات العشر وما أشبهها من شعر إسلامي وأموي وعباسي، واصبح للشعر الحديث أنصار لا يجدون المتعة إلا فيه.. بتقدم الزمان سنرى أنصارا كثيرين للرواية الحديثة بشكلها ومفاهيمها الوهمية .