اللافتات جالبات، هكذا ابتدأ الكلام بين قارئ لافتات عابر وصاحبه المصحح الثائر الذي يعنى بتصويب الكلمات ويحدد معانيها ويضع تعريفاتها ومختصراتها، فلفت النظر هو تحوله من موضع في مكان إلى موضع آخر، فقال قارئ اللافتات: أوَ تقصد أن قراءتنا السابقة التي كنا نعتني بها منذ سنين قد تصل إلى عقود كانت كلها خاطئة أو في الاتجاه الخطأ؟ فضحك صاحبه المصحح متذكرا ذاك الذي كتبوا له تصحيحًا منذ سنين مضت، أن الحديقة العامة وسط الحي اسمها (متنزه) وليس منتزه فتعجب من التصويب وقال هذا هو سبب اكتئابي لأنني كنت أتنزه بالطريقة الخطأ، وفي المكان الخطأ.
نعود إلى صاحبنا قارئ اللافتات فهو اليوم على ما يبدو منتبها جدًا ويحاول أن يغوص في عمق النص ويرتكز كثيرًا على أدوات تفكيكه وتحليله، فلنتابع بعضًا من جولته في قراءة الشعارات واللافتات التي اعترضته أثناء جولته في ساحات الأفكار وميادينها ومنابر الدعوة مقاهيها التي حاول الدخول إليها ونجح في ذلك، ولكنه لم يجد له مكانا بينهم. ملاحظة ليست عابرة كلمة الدعوة هنا تشمل كل فكرة يدعى لها سواء كانت مقبولة أو مرفوضة.
لا تكن انفعاليا ولا لحظي التفكير، بل كن انتمائيا باطنيا ولا تلتفت لتصويب الجميع.
أول نص واجهه في جولته وجده مكتوبا على واجهة مقهى الدعوة، هناك حيث الركن الهادئ المليء بالصور والذكريات لشخصيات غادرت ميدان الدعوة (لا تكن انفعاليا ولا لحظي التفكير، بل كن انتمائيا باطنيا ولا تلتفت لتصويب الجميع) فهمس داخل نفسه علينا أن نترك ساحة الانفعال والحدة والجدية في طلب الأشياء، وأن نكون كما هم إن طرأ شيء يفيدنا أخذناه، وإن لم يكن فما نحن له من المنتظرين.
حاول أن يجد مكانًا في مقهى الدعوة، فلم يكن ثمة مجال لاستضافته ولو بنصف كرسي فشرب الهمّ واقفًا، وتطلع بوجهه صوب مكان صاحب المقهى الذي كتب لافتة ظهرت واضحة خلف رأسه (ليس بالضرورة أن تنعكس قراءة المشهد بشكل صحيح، فعلًا منتجًا) فالتفت إلى شخص يعرفه كان جالسا على يمين مكان وقوفه وقال: أخطر أسباب الانتكاسة هو عدم قدرة عدد غير قليل من المتصدرين قراءة المشهد كاملا وأنا منهم؛ والكلمتان الأخيرتان مقصودتان لحماية نفسه داخل المقهى.
ناداه صوت من ركن آخر في القهوة الدعوية تعال أيها القارئ الى هنا، فلديّ نص لافت من اللافتات أريد أن تقرأها…. لم يتم قارئ الهمّ شربه لهمّه، واستجاب للنداء فهو اليوم متفرغ للقراءة والنقد وليس لديه ما يشغله عنهما.. وبعد وصوله إلى الركن المحتضن للشائعات واللافتات، جلس مرتاحا وكأنه وجد ضالته، وأكرموه بضيافة لم يكن يحلم بها، فقد كان يخامر عقله أنه لو نطق بنقد في مقهى الدعوة لن يصحو على نفسه إلا في المستشفى، بعد حفلة الركل دفاعًا عن لافتات طريق يؤدي إلى اللاشيء من وجهة نظره، أو أن يكون على قارعة الرصيف في أحسن أحواله، يتمنى أن يجود عليه أحد المارة بلافتة تصلح للقراءة والتأمل. وبعد أن استمتع بالجلوس كما يجلس المعتمدون المقبولون في هذا المقهى وحاول أن يستمتع بضيافتهم بكل حواسه الشمية واللمسية والذوقية، تناول سجل اللافتات وأخذت عيناه تدوران بحَيرَة المندهش وارتباك المنبهر فقرأ: (بعض الرايات دكاكين للارتزاق باسم القضية). فهمس في أذن مضيفه قائلا هذه عامة، وهي تخص كل من خرج عن الإطار العام الناظم للعمل المخلص. فأومأ برأسه موافقا له بدون أن ينبس ببنت شفة.
وتابع قراءة النص اللافت، حيث وجد وصفا أدرجه الكاتب على هامش اللافتة السابقة وقرأه بصوت عال وكأنه نص معتمد وليس حاشية فأسمع من كان بجانبه من المندوبين والمعتمدين (وصف أحدهم القضية بأنها مركبة للنقل العام في يوم احتفال مهرجاني، واللافت في الأمر أن الصعود إليها مجاني)، استوقفه عن القراءة، جليسه الذي كان على يساره وقد كتب على كرسيه لافتة (ضمور قوة الرأي نتيجة لضمور عضلات تجمعاته) وقال له خذ عني هذه (قد تكمن أخطر التهديدات لك بالأتباع الأغبياء والخصوم المخططين الذين يستطيعون التحايل عليك بغبائهم المتغابي ولن تستطيع ردعهم بذكائك المتذاكي). وقف قارئ اللافتات صامتا وقال في نفسه هذه إن علقت عليها سيعلقونني مقلوبا كما الخفّاش، دعها حتى أخرج من دائرتهم… ولكنه اكتفى بأن رفع حاجبيه إعجابًا بقول صاحب الرأي القوي الذي خانته عضلات تجمعاته.
٭ كاتب عراقي
شكرًا لهذه الجولة في زمن اللافتات