بات واضحاً أن حرب «إسرائيل» على الشعب الفلسطيني مستمرة بوحشية متصاعدة، وأن الولايات المتحدة مستمرة أيضاً في معارضتها وقف إطلاق النار، وإن تظاهرت بأنها مع تسهيل وصول المساعدات الإنسانية للنازحين، وبالدعوة إلى اعتماد حلّ الدولتين. الواقع أن حرب الإبادة المستمرة ليست ضد الشعب الفلسطيني فحسب، بل هي أيضاً حرب الولايات المتحدة ضد العرب وكل من تعتبره عدواً يهدد المصالح الأمريكية في غرب آسيا، من شواطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر جنوباً إلى شواطئ بحر قزوين شمالاً.
صحيح أن بنيامين نتنياهو هو الصهيوني الأكثر شراسة في تأجيج الحرب ضد الشعب الفلسطيني، غير أن منافسيه في الحكومة والمعارضة، لا يقلّون عنه توحشاً في مقاتلة الفلسطينيين واضطهادهم، إنما بأسلوب أكثر انفتاحاً على إدارة الرئيس بايدن، ومراعاةً لمتطلبات حماية مصالح أمريكا في الداخل والخارج.
العرب عربان: عرب الشعوب من المحيط إلى الخليج، الداعمون للشعب الفلسطيني والمشاركون في مقاومته الصلبة ضد الكيان الصهيوني وحلفائه في الغرب الأطلسي وللمقاومة العربية المتصاعدة ضد الصهاينة أينما كانوا في أصقاع الأرض، وعرب الحكومات الراضخة لهيمنة الولايات المتحدة وسياساتها الداعمة للعدو الصهيوني منذ لحظة زرع كيانه في قلب المشرق العربي. إلى ذلك، يطلُّ خطر جديد وشديد قد يجعل عرب الحكومات الراضخة للهيمنة الأمريكية يترحّمون على بايدن، إذا ما خسر جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة.. إنه دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق، صاحب «صفقة القرن» ورائد تسويق سياسة التطبيع مع «إسرائيل». تسنّى لي أن أستمع بالصوت والصورة لخطاب ترامب الأخير، الذي حمل فيه على بايدن وإدارته، ورؤساء الجامعات وطلابها، ووسائل الإعلام، ونوابٍ في الكونغرس من أصل عربي، ومتظاهرين داعمين للشعب الفلسطيني في مدنٍ أمريكية وأوروبية، ومعارضين دعوته إلى تقييد الهجرة من المكسيك وأمريكا الجنوبية ومن الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة… كلُ ذلك في سياق دفاعه المرير عن «إسرائيل» واليهود والصهيونية، وصولاً إلى التنديد بـِ»الإرهاب الإسلامي» الذي يهدّد في زعمه وحدة أمريكا وحضارة الغرب. باختصار، إذا ما قُيض لترامب أن يصل إلى سدّة الرئاسة، فإن العرب والمسلمين، وكل من يؤيد حق الشعب الفلسطيني في وطنه وعودته إليه، وكل من يناصر الفلسطينيين في العالم، سيكون عدواً لأمريكا، ولهذا الرئيس العنصري الفاشي المتفوّق في عنصريته وفاشيته، حتى على صهره اليهودي الصهيوني جاريد كوشنر. ولعلني لا أبالغ إذا ما توقعت أن يكون فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة إيذاناً باندلاع حربٍ أهلية في الولايات المتحدة الأمريكية. إزاء كل هذه التحديات المتفاقمة شرقاً وغرباً، ما العمل؟
أرى، وغيري كثر، أن ليس أمام الفلسطينيين والعرب الداعمين لهم، والعرب النهضويين الناشطين في مقاومة أعداء الخارج وجلّهم من دول الغرب الأطلسي، وعرب الداخل من الحاكمين الراضخين والفاسدين آكلي حقوق المواطنين الشرفاء، إلاّ اعتماد عدم الفصل بين مقاومة الأعداء الخارجيين والأعداء الداخليين، وذلك باقتران مقاومة «إسرائيل» وحلفائها عسكرياً، بمقاطعةِ منتجات حُماتها بكل أنواعها وأشكالها وأنماط إنتاجها. ليس من اختصاصي ولا في مقدوري أن أعظ فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية في ما يجب عليها أن تقوم به، أو لا تقوم به من عمليات في الزمان والمكان، فهي بصورةٍ عامة مقتدرة وناجحة في تحديد هوية أعدائها وكيفية التصدّي لهم ودحرهم، لكن في مقدوري كما غيري أيضاً، تنبيه المقاومين، أفراداً وجماعات، إلى حقيقةٍ ساطعة هي، أن أمضى أسلحة العرب المقاوِمين في هذه المرحلة هي مقاطعة منتجات أعداء فلسطين والعرب في كل زمانٍ ومكان، وذلك في ضوء الحقائق والواقعات والتطورات المحتمَلة الآتية:
ليس للدول عواطف، بل مصالح، ومصالحها هي عماد اقتصادها، والدافع الرئيس لمطامعها الخارجية في السيطرة على البلدان والحصول على المواد الاستراتيجية
ليس للدول عواطف، بل مصالح، ومصالحها هي عماد اقتصادها، والدافع الرئيس لمطامعها الخارجية في السيطرة على البلدان والحصول على المواد الاستراتيجية، كالنفط والغاز والمعادن والمحاصيل الزراعية، والأسواق، والمضائق البحرية، وفرص استثمار الموارد والمرافق الحيوية، وإقامة القواعد العسكرية.
إن معظم الموارد والاواد الإستراتيجية والمحاصيل الزراعية وفرص استثمار المرافق الحيوية، موجودة في بلدان العالم الثالث، أي في جنوب شرق آسيا، وغرب آسيا، وافريقيا، وامريكا الجنوبية.
إن معظم العرب موجودون في غرب آسيا وشمال افريقيا، ولديهم موارد حيوية استراتيجية كالنفط والغاز والألمينيوم والفوسفور، بالإضافة إلى الأراضي الشاسعة الصالحة للزراعة، والمضائق البحرية ذات الأهمية الاستراتيجية.
إن الدول الأجنبية المستعمِرة أو المهيمنة، كما المنظومات الحاكمة التابعة لها، تستطيع أن تسيطر أو تتحكم بالأرض ومواردها ومحاصيلها، لكنها لا تستطيع أن تتحكم بأذواق الناس وبالتالي بإرادتهم ومزاجهم في ما يرتأون شراءه، أو الامتناع عن شرائه من منتجات وسلع وتجهيزات، الأمر الذي يتيح للشعوب المؤيدة أو المتعاطفة مع الفلسطينيين، كما مع العرب المضطهدين، مقاطعة المنتجات المصنّعة في أو المستوردة من الدول الداعمة لـِ»إسرائيل» أو المعادية للعرب.
إن من شأن حملةٍ واسعة عابرة للحدود إلحاق خسائر فادحة جداً بـِ»إسرائيل ودول الغرب الأطلسي الداعمة لها، وربما تركيعها أيضاً ما قد يضطرها إلى الحدّ من دعمها للكيان الغاصب، كما الحدّ من عدائها للعرب الداعمين للشعب الفلسطيني ومقاومته المتصاعدة.
إن حملة مقاطعة منتجات الدول الداعمة لـِ»إسرائيل» والمعادية للعرب تتطلّب تنظيماً دقيقاً ومتابعة مثابِرة في التنفيذ كي تؤتي ثمارها.
يقتضي أن تقترن حملة مقاطعة منتجات الدول الداعمة لـِ»إسرائيل» والمعادية للعرب بحملةٍ مدروسة لإبراز المنتجات والسلع والتجهيزات الوطنية المصنّعة محلياً، كما تشجيع إنتاج سلع وتجهيزات أخرى مطلوبة، الأمر الذي يعزّز الاقتصاد الوطني ويتيح معيشة لائقة للمواطنين.
غني عن البيان أن حملةً واسعة لمقاطعة منتجات الدول الداعمة لـِ»إسرائيل» والمعادية للعرب، تتطلب تنظيماً وترتيبات دقيقة ومتابعة ومثابرة، وهذا الشرط غير متوفر حالياً في عالم العرب. من هنا تنبع الحاجة الملحّة إلى مبادرة القوى الحيّة في الوطن العربي الكبير، أفراداً وجماعات، إلى التواصل والتداعي لعقد مؤتمر، أو بناء حركةٍ تتولى هذه المهمة ذات الطابع الاستراتيجي البالغ الأهمية. لقد فَقَد العرب بغياب جمال عبد الناصر صوتاً عالياً مؤثراً داعياً للوحدة والتعبئة في وجه أعداء الأمة، وقد آن الأوان للقوى الوطنية الحيّة أن تسدّ غيابه المضني بابتداع إطار قيادي ينشط لجمع العرب وتعبئتهم في وجه التحديات السياسية والاقتصادية والوجودية المتعاظمة، ولاستئناف مهمة صنع الحضارة وتصحيح مسار التاريخ في عالمنا المعاصر. هل تراني أطلب المستحيل إذا ما اقترحتُ أن يتولى المؤتمر العربي العام بشخصياته القيادية من شتى الأقطار العربية مهمة المبادرة إلى بناء الإطار القيادي المنشود لجمع العرب وتعبئتهم في وجه التحديات الماثلة؟
كاتب لبناني
[email protected]