مدينة صغيرة جنوبيّ فرنسا اسمها آرل، تقيم كل صيف حدثاً سنوياً هو من بين الأهم في مجاله عالمياً، «لقاءات آرل للفوتوغرافيا». معرض متوزع على أمكنة شديدة التباين في مدينة ممتلئة بأديرة وأبنية من أزمنة القرون الوسطى، وآثار رومانية أبرزها حلبة ومدرّج.
تحوّلت أمكنة المدينة إلى معارض موسمية لصور فوتوغرافية من كل العالم. كنائس صارت صالات عرض، مواقف سيارات، مخازن سوبر ماركت المدينة، مباني بلدية، كهوف قروسطيّة، محطة القطارات، الطرقات وجدران البيوت الخارجية، إضافة إلى مؤسسات ومراكز فنية من بينها كانت «مؤسسة VII» وفيها صور لقبّة الصخرة.
ليست المؤسسة في وسط المدينة، فالطريق إليها، في تمّوز/يوليو الفائت، وبموازاة نهر الرّون الشاسع، كان ممتلئاً بالحرارة والرطوبة والبعوض. وكان هذا الديناصور المجهري في ظنّي أسوأ ما يمكن أن يحطّ على زائر لهذا المعرض، أو للمدينة المتحوّلة إلى معرض مفتوح وحيّ بمهرجانها الفوتوغرافي. لا تخطئ العينُ قبّة الصخرة مهما كثرت الصور والملصقات للمعارض وموضوعاتها، فكان المشوار إلى المعرض، وكان بعنوان «مَعلَمِيّ» وبمقاربة فوتوغرافية لاثنين من أبرز المعالم الروحية في التاريخ: قبة الصخرة المقدسيّة وكاتدرائية نوتردام الباريسيّة.
نترك جانباً الكاتدرائية، فلا مكان لها في مقالتنا. أما القبة المقدسية فسلسلة صورها كانت لفنّان من البوسنة اسمه زياه غافيك. الصور كانت بحجم كبير في مبنى حجريّ أثري مظهراً تفاصيل من الزخرفة الإسلامية من داخل القبة وخارجها. صور ساحرة لدخولها تلك التفاصيل، بالعدسة التقريبية والطباعة التكبيرية لتلك الزخارف الرقيقة والرسومات والبهيّة، وغير الملحوظة في الصور المتداولة صحافياً، المتحركة على شاشة التلفزيون أو الثابتة على شاشة الكمبيوتر. ذلك بتقديم المعرض للقبة في الصّور بأنّها «المبنية عام 691، هي البناء الأقدم مما تبقى من العمارة الإسلامية». واحدة من صور قبة الصخرة هذه كانت غلافاً لأعداد من مجلة «ناشيونال جيوغرافيك».
لن يكترث أحدنا كثيراً بما تقدمه المجلة في تقرير مرفق بالصور التي أظهرت الجانب الأصلي الفلسطيني، والاستعماري الإسرائيلي، دون تسميتهما بذلك. لا يهم، يكفي أن نعرف أن «ناشيونال جيوغرافيك» تملكها شركة والت ديزني، التي تبرّعت بمليون دولار لنجمة داوود الحمراء كردّ منها على السابع من تشرين الأول/أكتوبر. لكن يبقى هنالك الأسوأ، وسيكون عربياً.
تجوال في المعرض يوصل أخيراً إلى لوحة معلّق عليها 25 غلافاً من هذه المجلة، بلغاتها المختلفة، استخدمت معظمها صوراً لقبة الصخرة من سلسلة الصور في المعرض، مقدّمة موضوعاً رئيسياً لعددها تناول القبة والمدينة المقدسيّين، وكان ذلك لعدد أيلول/سبتمبر 2023، بعناوين تشير إلى روحيّة الموقع وقدسيّته. 18 نسخة محلية بلغات مختلفة اختارت القبة المقدسيّة موضوع غلاف. 7 أخرى اختارت موضوعاً آخر، من بين النسخ/ اللغات هذه كانت الإسرائيلية/ العبرية، والعربية. أشارت البطاقة التعريفية للعمل، خطأً، إلى السعودية في تعريف بلد النسخة العربية. خطأ لأن النسخة إماراتية. مكتب المجلة بنسختها العربية، وكذلك القناة، يقع في أبو ظبي. ومواضيع الأغلفة العربية للمجلة تجعل منها إماراتية محليّة وأقرب إلى الرسميّة.
امتلاء العمل الفني في المعرض بالأغلفة التي تتصدرها قبة الصخرة، استدعى البحث الفوري عن النسخة العربية لا لتفحّص الصورة إن وجدت أم لا، بل لتفحّص العنوان الذي ستضعه أبو ظبي، بافتراض مسبق في أن العاصمة العربية ستختار، كـ18 غيرها، تلك القبّة المذهّبة، «الأقدم في التراث المعماري الإسلامي» صورةً للغلاف. استغرق ذلك وقتاً، فالبحث كان عن الصورة بكلمات عربية عليها لموضوع يتناول المكانة الدينية للمدينة والمعلَم. وبتوقّع أن يفعل العنوان الظبيانيّ كغيره في أي إشارة يُذكر فيها الطرفان، إسرائيل تكون أولاً ولا فلسطين تليها، بل فلسطينيون، فيُقال، كما في الإعلام الغربي المنحاز بطبيعته للمستعمِر، «إسرائيل والفلسطينيون». بحثتُ في كل الأحوال متوقّعاً ذلك في كونه أسوأ الاحتمالات.
يبقى هنالك، دائماً، ما بعد أسوأ الاحتمالات، ويكون عادة مهزلة، كأن يضحك أحدنا من كارثة جديدة، كان ظنّ أن البكاء من سابقتها ختاميّ. بخلاف 18 دولة ولغة، أبعدت أبو ظبي موضوعاً اختارته نسخٌ بالفرنسية والإنكليزية وغيرها كثير لم أفهمه، لتغلّف نسختها العربية بصورة لما بدت واحة نخيل لواحد من أفلام ديزني، ثلاثيّ الأبعاد، وبعنوان يضاهي الصورة خرافةً: «جِنان الإمارات: قطوف دانية وعيون جارية وكنوز حضارية».
كاتب فلسطيني/ سوري