قداس الأحد… أو التدين في دولة علمانية

لم تخطر على بالي فكرة الكتابة في موضوع ذي أهمية قصوى بالنسبة للبشرية وتاريخها، منذ آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، الأمر يتعلق بالتدين ومشيئة الإنسان فوق الأرض من حيث الاعتقاد وممارسة الطقوس التعبدية، وفق ما تمليه الشرائع السماوية والوضعية.
لكننا اليوم سنقف عند ظاهرة التدين في دولة من دول البلقان ونعني بها رومانيا. وأنا أغادر الفندق الذي أقيم فيه، لفتت انتباهي حركة الرومان وهم في كامل أناقتهم مرتدين أزهى الثياب، يقطعون المعابر في اتجاه الكنائس والكاتدرائيات وما أكثرها في هذا البلد (حوالي 18300 كنيسة وكاتدرائية) رغم أنه بلد علماني، لكن لا يوجد دين رسمي للدولة كما هو الحال في العديد من دول المعمورة.
للإشارة، فإن حوالي 81% من سكان رومانيا يدينون بالمسيحية؛ والطائفة المهيمنة في البلاد هي الكنيسة الرومانية الأرثوذكسية المستقلة في كل منطقة البلقان، وتتميز رومانيا مقارنة مع دول الاتحاد الأوروبي بمعدل مرتفع من حيث حضور القداس والتقيد بمظاهر الشعائر الدينية. ولعل يوم الأحد موعد يحج فيه الرومانيون – كل حسب طائفته وعقيدته ـ إلى الكنائس لحضور القداس والإنصات لخطبة الأحد التي يلقيها القساوسة والرهبان. كل الباحات والمداخل المؤدية إلى الكاتدرائيات تعج بالمؤمنين؛ مطرقين السمع للخطيب وهو يعظ ويصلي ويدعو الملأ إلى الطريق المستقيم وبنبرة رومانية؛ يفهم منها أن الصلوات تقام من أجل العدل والمساواة وحب الناس لبعضهم بعضا. هذا ما كنت أفهمه من ملامح المؤمنين والمؤمنات وهم وقوف وأبصارهم شاخصة؛ متضرعين إلى الله ليغفر لهم ويتجاوز خطاياهم.

المسيحية الأرثوذكسية في رومانيا كنيسة أرثوذكسية شرقية يقودها البطريرك، وتعد رابع أكبر كنيسة في العالم؛ تستعمل لغة طقوسية رومانسية (نسبة للغة الرومانسية) ذات ثقافة لاتينية، خلافا للكنائس الأرثوذكسية الأخرى، ويُعمل بها في كل من رومانيا ومولدافيا (جارتها). وللتوضيح أكثر فإن اللغات الرومانسية تطورت بفضل اللاتينية في العصور القديمة، فأمست مجموعة فرعية من اللغات الإيطالية، ضمن عائلة اللغات الهندوأوروبية. لذلك، فإن اللغات الرومانسية الأكثر انتشارا هي: الإسبانية والإيطالية والرومانية والبرتغالية والكتلانية. من هنا، فالشعور بالانتماء للكنيسة فيرومانيا شعور وطني؛ يعود تاريخه إلى مؤسسها أندراوس؛ أحد رسل المسيح الإثني عشر، امتد أثره التبشيري إلى جبال الكرباث ونهر الدانوب، تحت نفوذ وسلطة بطريرك القسطنطينية فيتركيا، لكنها استقلت تماما في عام 1885. إلى جانب ذلك، هناك بعض الأقليات الإثنية الأرثوذكسية، المتحدرة من أوكرانيا وروسيا وصربيا واليونان وأرمينيا وتركيا والتتار.
نسجل أن مظاهر التدين في رومانيا قوية، رغم علمانية الدولة، كما أسلفنا القول، بحيث تنتشر المسيحية التوحيدية وهي جزء من العقيدة البروتستانتية في كلوج نابوكا، وبالتحديد في إمارة ترانسيلفانيا وهي التسمية التي تطلق هنا على أهم المصارف والبنوك، كما تتمتع الكنيسة التوحيدية بتأييد الأغلبية المجرية، وتحظى باعتراف رسمي من قبل الدولة الرومانية، وتعمل جنبا إلى جنب مع الكالفينيين البروتستانت (نسبة إلى كالفين) واللوثريين الإنجيليين (نسبة لمارتن لوثر) فضلا عن الإنجيليين الاعترافيين في إدارة معهد اللاهوت البروتيستانتي الشهير في مدينة كلوج .
ما يمكن استنتاجه في المحصلة هو، أن الخيط الناظم في ما ذهبنا إليه في هذا التقرير هو أن حضارة وثقافة شعوب البلقان ونهر الدانوب ارتبطت بالمعتقد الديني المسيحي الذي عرف عدة منعطفات وهزات، حتى استقر على منزعه الأرثوذكسي، الذي شكل عامل توحيد للقوميات والأقليات التي كانت تدين في سالف الأزمان بالوثنيات.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية