تعد الشاعرة فليحة حسن من الشاعرات العراقيات اللائي استطعن أن يثبتن وجودهن ويخططن أسماءهن بحروف لامعة في سماء الأدب العراقي والعربي على حد سواء، وقد تميزت فليحة حسن بنضج أدواتها الإبداعية، من خلال ما قدمته وتقدمه من نصوص ذات قيمة فنية وجمالية عالية.
ولعل تغرب الشاعرة أضاف لتجربتها فضاء أوسع، من خلال احتكاكها المباشر مع التجارب العالمية، بالإضافة إلى ما يوفره التفاعل المباشر مع الثقافات الأخرى من غنى في الرؤى والأدوات، ورغم أن الشاعرة توحي لنا من خلال مجموعتها الشعرية «وأنا أشرب الشاي في نيوجرسي» بتمسكها بعمقها الثقافي المتأصل، سواء من خلال توظيفها للموروث التاريخي أو الميثولوجي، أو من خلال التوظيف القصدي للهجة العامية تداخلا وتحاورا مع اللغة الأم، وفق ما اجترح مسلم الطعان بتسميته بالنص المحاور كما نجده في نص «اعترافات» إذ تقول:
أتوضأ دمعا مسفوحا
وأهيل الحزن على عمر
مبيوع بالمجان
فهلا أصغيت لقافلة الآه؟
(هي هم دورة فلك
وآخر زماني
أحبْ وأنحبْ
واني شمعة ضيم
من كثر السـﮕم
كل ساع تثكبْ).
توظيف فليحة حسن للموروث الميثولوجي لم يكن توظيفيا سطحيا ساذجا، بل كان توظيفا تفاعليا يعطي للنص بعدا يسهم في إغنائه دلاليا وجماليا. وسواء كان توظيفها للميثولوجيا والموروث التاريخي فعلا واعيا، أم غير واع فإنها تحاول كما نرى أن تشاكس ذلك الموروث وتخرجه من دائرة حدثه المتعارف إلى دائرة حدث تجترحه؛ لتبتعد عن رتابة الاستخدام المألوف والمتكرر. ولنأخذ أحد نصوص هذه المجموعة كنموذج نتعرف من خلاله على طبيعة الاستخدام للموروث القصصي القرآني.
في نص اسمته «يوسف» من ديوانها «وأنا أشرب الشاي في نيوجرسي» تعمد الشاعرة إلى ما سماه جيرار جينيه بـ(التناسخ النصي) مع قصة يوسف التي جاءت في القرآن الكريم. يقول جينيه: «إنني اسمي (هذا) نصا ناسخا كل نص مشتق من نص سابق بواسطة التحويل البسيط… أو التحويل غير المباشر الذي نسميه محاكاة» (شعرية النص عند جيرار جينيه- سليمه لوكام).
فهي تبدا النص بقولها:
«مجنونة
ما تفتا تذكره»
والظاهر أن الخطاب هنا موجه من (أنا) الشاعرة إلى الـ(هي) والمقصود فيها (زليخة) وفقا للنص القرآني، وهي محاولة لإيهام المتلقي بثنائية التخاطب إلى أننا ومن خلال قراءتنا للنص وتحليله، سيتضح لنا أن الخطاب هو فردي أو ذاتي من الشاعرة وإليها. وهي هنا تجعل من العلاقة التقابلية بين الشاعرة وزليخة علاقة تضادية، وليس علاقة تشابهية، فالشاعرة ترفض هذا الاستسلام الذي تمثله زليخة.
كما أن العلاقة بين يوسف النبي ويوسف الشاعرة، هي أيضا علاقة تضادية، رغم أنها تحاول أن توجد شيئا من التشابه بين فعل الأول «وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ» (يوسف: 25). وفعل الثاني «هو الهارب بقميصه وبقايا بنطال على ظهر دراجة هوائية»، فيوسف الشاعرة على النقيض من يوسف النبي «لم يكن عزيزا في مصر ولا في غيرها» وسواء كان المعنى الذي قصدته الشاعرة بكلمة (عزيزا) هو المعنى القرآني ذاته، أم المعنى الدلالي للكلمة قاموسيا، أو المعنى التداولي، فإن المراد من قولها: هو التحقير ليوسفها، أو التصغير لشأنه، إلا أن ما يثير التساؤل أو يدعو إلى التعجب، هو أنها نفت عنه العزة مطلقا حتى قبل هروبه بدلالة قولها (لم يكن).
ورغم أن العلاقة بين مجريات وصفات شخصيتي القصة القرآنية، وشخصيتي قصة القصيدة هي علاقة تنافرية، إلا أن توظيف الاسمين، ونفي التشابه المفترض بين صفات الشخصيتين، يوحي بعكس ما تقوله الشاعرة. فشخصيتا القصة القرآنية تنضويان على «الجمال والعزة وشغف النساء بيوسف وشغف زليخة به، وديمومة ذكرها له وشبابه هو وتحولها هي إلى عجوز» يقابلها في شخصيتي القصيدة «رفض تذكره، هويته الشاحبة، لم يكن عزيزا، تتحاشاه النساء، انتشاؤها بكأس اللبن وقضم التفاح كتعبير عن تشاغلها عنه، تحليقها على جنح حسون بعيدا عنه، بينما في الجهة الأخرى للأرض يجلس هو عجوز». هذا الإصرار على سلب صفات شخصيتي القصة القرآنية من شخصيتي قصة القصيدة، في رأيي، هو إيحاء بإثباتها بدلالة التوظيف القصدي للقصة واستعارة الأسماء الصريحة لشخوصها. وهناك ثمة إشارة إلى هذا الترابط وهو أيضا ترابط عكسي في قولها:
(حيث الاخوة مجتمعون عند الجبّ
يحاولون لم شمل ما تبعثر من أرواحهم
فلا يفحلون).
وعلى الرغم من كثرة توظيف هذه القصة القرآنية في النصوص الشعرية، إلا أن توظيف فليحة حسن لها بهذا الشكل، هو بمثابة إعادة تشكيل للأحداث وفق منظور عكسي، يسعى إلى الانفلات من سلبية الأنثى العاشقة، وتهشيم السلطة الذكورية المعشوقة في القصة الأصل. وإن جاز لي أن اعتبر هذا النص هو نص تقاطعي، بمعنى انه يتقاطع مع النص الأصلي في نقاط معينة، ويبتعد عنه في نقاط أخرى، وهو يسير بمحاذاته لا يبتعد عنه كثيرا، ولكنه في الوقت ذاته لا يتحد معه، بل إنه يحاول مشاكسته وحسب.
وفليحة لا تستخدم هذه المشاكسة للنص الموروث فقط، وإنما تحاول أن تجعل ذلك سمة غالبة على نصوص هذه المجموعة على الأقل، وربما هي تحاول أن تشاكس الألم الذي في داخلها والمرارة التي تعتصر قلبها، كما نلاحظ ذلك في نص «بالوعة اسمها الحرب» تقول:
بعد حربين وأكثر
عاد أبي علماً
أمي رفرفت معه عاليا واختفيا
استحال بيتنا إلى (بسطال)
كلما حاولت نفض الغبار عنهُ
سقطت منه ذكرى محترقة
ليوم ضاع في بالوعة اسمها الحرب.
تقدم فليحة حسن في مجموعتها هذه نصوصا متنوعة في مواضيعها وفي أسلوبها، نصوصا لا تخلو من الألم والمرارة والسخرية والحنين إلى ذكريات الطفولة، ولكنها نصوص حافلة بالجمال والعمق مع بساطة المفردة، والاستخدام المتقن للمفردة العامية حينا، ومحاورة النصوص الشعرية العامية حينا آخر. وهي ربما تقدم لنا صورة عن فليحة حسن بكل أدوار حياتها، صورة تملك حافزا قويا ومغريا للوقوف أمامها والتمعن فيها.
٭ كاتب وشاعر من العراق