من المؤكد أن آلاف البشر استبشروا بخبر إصدار محكمة الجنايات الدولية أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو مع وزير دفاعه السابق، يواف غالانت، بالإضافة لمسؤول فلسطيني يعتقد أنه استُشهد. ولكن هذا التفاؤل قد يكون سابقا لأوانه لأن صدور القرار يختلف عن تنفيذه. خصوصا أن الولايات المتحدة الأمريكية أبدت اعتراضها على القرار، وقد تتخذ إجراءات عملية لمنع تنفيذه.
ويسجّل لعدد من الدول الأوروبية تصريحاتها بأنها ستحترم القرار. فقد أكّد مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل أن القرار ملزم لهذه الدول: «هذه القرارات ملزمة لجميع الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي (للمحكمة الجنائية الدولية) الذي يضم جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي». وقالت بريطانيا على لسان المتحدث باسم رئيس وزرائها السيد كير ستارمر أنها تحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية. وحتى الآن يبدو القرار وردود الفعل الدولية (في ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية) مشجعا وباعثا للأمل بممارسة قدر من العدالة لإنصاف ضحايا القتل الجماعي الذي مارسته «إسرائيل» بحق عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
فالمشاهد المروّعة التي اكتظت بها شاشات التلفزيون على مدى أكثر من عام أظهرت، بما لا يتيح مجالا للتشكيك، حجم الجرائم التي ارتكبتها «إسرائيل» بحق أهل غزة بشكل خاص، والتي طالت كذلك حوالي 3500 من اللبنانيين، وحصدت أرواح المئات باستخدام التكنولوجيا المتطورة في عمليات اخترقت الحدود وانتهكت سيادة بلدان أخرى مثل لبنان وسوريا والعراق وإيران. إنها صفحة سوداء كالحة في التاريخ البشري رسمت ملامحها الطائرات المسيّرة والصواريخ المتطورة، ونجم عنها تمزيق أجساد الأبرياء والأطفال والنساء بدون حساب.
ولكن هذا الأمل مشروط وليس مطلقا، لأمور عديدة: أولها أن تصر المحكمة الجنائية الدولية على قرارها ولا تخضع للضغوط التي تمارسها قوى الضغط الصهيونية والدول الداعمة للاحتلال خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية. ثانيها: أن تتعاون حكومات دول العالم لتنفيذ القرار وعدم التلكؤ في تنفيذه، وأن تستعد لاعتقال المسؤولين الإسرائيليين إذا تواجدوا على أراضيها. ثالثها: أن يتم الضغط على حكومة الاحتلال لتسليم الشخصين المذكورين الى المحكمة وإلا اعتبرت مارقة لأنها تحمي أشخاصا مطلوبين للعدالة الدولية لارتكابهما جرائم ضد الإنسانية.
رابعها: أن يتم تعبئة إمكانات الأمم المتحدة ومؤسساتها لوضع القرار موضع التنفيذ وأن لا تسمح بتمييعه. خامسا: أن تبدأ المحكمة بتوثيق القضايا التي تثبت إدانتهما وتبدأ تسجيل إفادات الأحياء من ضحايا سياسات الإبادة التي مارسها نتنياهو وغالانت. ومطلوب كذلك حملة تثقيف دولية لتوضيح القضية ومدلولاتها، ومن ذلك مفاهيم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والقانون الدولي والسيادة، لكي تتضح الصورة الحقيقية لما يعانيه الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية والمناطق الأخرى التي تتعرض بشكل مستمر للعدوان الإسرائيلي. فبعد سلسلة من عمليات الاغتيال والقصف ساد الشعور بأن «إسرائيل» أصبحت القوة المهيمنة على العالم.
ما مستقبل هذا العالم الذي يُمنع من حماية نفسه بتفعيل آلياته التي تحظى بموافقة دولية وتهدف لكبح جماح من يهدد أمن العالم واضطهاد من يقع تحت نفوذه؟
وقد ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية في فرض هذا الشعور بدعمها المطلق للسياسات الإسرائيلية وتعهد واشنطن بحماية «إسرائيل» كسياسة ثابتة. ويكفي الإشارة إلى أن أمريكا ترفض ما يطالب به العالم من وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط. وفي الأسبوع الماضي كرّرت أمريكا استخدام حق النقض «الفيتو» لإفشال مشروع قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو لوقف إطلاق النار. فما هذه الدولة التي ترفض وقف الحرب في القرن الحادي والعشرين؟ ما هذه الردّة على المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية ومقولات الرأفة ونبذ العنف ومنع النزاعات المسلّحة؟ أين هو التقدم الذي أحرزته الإنسانية على مدى ثلاثة أرباع القرن، أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في مجال تفادي الحروب؟
ما أن صدر قرار المحكمة الجنائية الدولية حتى انهالت التعليقات والمساجلات حول المؤسسات الدولية وفي طليعتها مجلس الأمن الدولي بشكل خاص. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد استخدمت حق النقض لمنع صدور قرار يدعو لوقف إطلاق النار في غزّة. أليس ذلك استهدافا للعمل الدولي المشترك؟ أليس الأجدر بالولايات المتحدة أن تتصدر الجهود لدعم ذلك من أجل إحلال قدر من السلام في العالم بدلا من الحروب وإراقة الدماء؟ الواضح أن ذلك لا ينسجم مع العقلية التجارية التي تعشش في أذهان سياسيي الغرب الذين يرون في الحروب فرصة لممارسة النفوذ السياسي من جهة ودعم مشاريع التصنيع العسكري من جهة ثانية. كما يرون في ذلك إنهاكا للدول التي لا تنسجم مع سياسات الغرب. فبدلا من السعي لحل أزمة أوكرانيا سياسيا من خلال الحوار والتواصل الجاد مع كييف وموسكو، يتم تزويد أوكرانيا بصواريخ تستهدف العمق الروسي. فما دلالات ذلك؟ وما تبعاته؟ وما انعكاساته على الأمن والسلم الدوليين؟
إن الإحساس بالمسؤولية ضرورة للتعامل مع القضايا الدولية خصوصا في مجالات الحرب والسلم. وقد عمد الجيل الذي عاصر نهاية الحرب العالمية الثانية لوضع تشريعات دولية تعزز التضامن والتعاون والتقارب بين دول العالم من جهة، وتشريع آليات لحسم النزاعات من جهة أخرى. ومن ذلك محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية. هذه المؤسسات يجب أن تحظى بدعم حقيقي خصوصا من دول «العالم الحر» التي ما فتئت تمارس سياسات ميكيافيللية بعيدة عن المبادئ والإحساس بالمسؤولية الإنسانية والإسلامية. فقد تحمست هذه الدول لقرار محكمة الجنايات الدولية عندما أصدرت قبل 15 عاما مذكرة توقيف بحق عمر البشير، الرئيس السوداني السابق، لكنها لا تظهر حماسا مماثلا لمذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة نفسها بحق نتنياهو وغالانت والفلسطيني محمد ضيف الذي قتلته القوات الإسرائيلية مؤخرا.
وبدلا من دعم عمل المحكمة، اتجه الكثير من هذه المساجلات لشجبها ورفض قرارها بسبب النفوذ الصهيوني في الدول الغربية خصوصا في مجال الإعلام. ومن المؤكد أن النظام الدولي وعلى رأسه الأمم المتحدة ومجلس الأمن وما يتفرع عنهما من آليات لتفعيل القوانين الدولية سيتعرض للتصدع إذا ما ترددت المحكمة في قرارها تحت الضغوط السياسية خصوصا من أمريكا وحلفائها. وتجدر الإشارة ألى أن الولايات المتحدة، الداعم الدبلوماسي الرئيسي لإسرائيل، ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية أيضا. بل قالت إنها «ترفض بشكل قاطع قرار المحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار». والواضح أن واشنطن مستعدة للتضحية بالنظام الدولي والسلم العالمي من أجل حماية زعيم متهم بارتكاب جرائم إبادة وقتل جماعي على نطاق واسع. فما مستقبل هذا العالم الذي يُمنع من حماية نفسه بتفعيل آلياته التي تحظى بموافقة دولية وتهدف لكبح جماح من يهدد أمن العالم واضطهاد من يقع تحت نفوذه؟ أي عالم هذا الذي يُفرض عليه أن يخضع لذوي النفوذ والسلطان ومن يملكون السلاح والمال؟
الإسرائيليون، من جانبهم، يمارسون منذ عقود سياسة تنفيذ قراراتهم بأنفسهم ولو كان ذلك مخالفا للقوانين الدولية وانتهاكا لسيادة الدول الأخرى. ألم يتدخلوا قبل قرابة نصف قرن عسكريا في ما يسمى «عملية عنتيبي» في أوغندا؟ ففي 4 يوليو 1976 أرسلت إسرائيل قوات كوماندوز إلى المطار لتحرير رهائن طائرة اختطفها فلسطينيون ورفقاء لهم كانت متجهة من تل أبيب إلى باريس، انتهت العملية بمقتل المختطفين و3 رهائن إلى جانب جنود أوغنديين والضابط جوناثان شقيق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
الأمر المؤكد أن قرار محكمة الجنايات الدولية هذه المرة من شأنه أن يقلب الموازين ويعيد تشكيل التحالفات الدولية بما يخدم الأمن والسلم الدوليين. ففي ذلك ردع فاعل لمن يتجاوز القوانين الإنسانية ويمارس جرائم ضدها. إذا حدث ذلك فسيكون الشرق الأوسط والعالم أكثر أمنا واسترخاء وأقرب ألى منطق العدل والحرّيّة، أليس هذا ما يتطلع إليه عالم القرن الحادي والعشرين؟
كاتب بحريني