قرار محكمة العدل… وإخفاق المنظومة القانونية

في كثير من الأفلام السينمائية، نرى أن الأبطال في تلك الأفلام يضطرون إلى التشمير عن سواعدهم والانتفاض لانتزاع حقوقهم بأيديهم، والانتقام من ظالميهم وجلاديهم، باستخدام القوة، بعد إخفاق المنظومة القانونية في مساعدتهم على نيل حقوقهم، بل وتواطؤ بعض كبار العاملين في تلك المنظومة مع المجرمين. تتدافع مشاهد الكثير من تلك الأفلام إلى ذهني في الفترة الأخيرة، خاصة بعدما فقدت ما تبقى من إيماني بما يسمى بالقانون الدولي، وبرغبته الجادة في إحقاق الحق وإزهاق الباطل. وقد جاء قرار ما تسمى بمحكمة العدل الدولية في لاهاي، ليدعم فكرة خروجي من حظيرة المؤمنين بذلك القانون الأعوج، والمؤسسات المنبثقة عنه.
فمن حيث المبدأ، عندما يتعلق الأمر بحياة الإنسان، وعندما تتعرض حياة البشر للإبادة جهارا نهارا أمام سمع العالم وبصره في جرائم غير مسبوقة تاريخيا، وعندما يتوافر ما لا حصر له من الأدلة الصارخة الدامغة التي تصفع العين والقلب، التي لا يمكن أن ينكرها أو يجادل فيها إلا أعمى البصر والبصيرة، أو الذين يقفون إلى جانب مرتكبي تلك الجرائم، فإن أي محكمة تتمتع ولو بذرة من الاستقلالية والنزاهة والعدالة، لن تحتاج إلا لدقائق لإصدار حكم صارم قطعي لا لبس أو ميوعة أو استئناف فيه، حكم يدين الجناة ويشير بمنتهى الوضوح والصراحة والمباشرة، إلى ما اقترفته أيديهم من جرائم، ويصدر ضدهم أقصى القرارات والعقوبات الممكنة، وأولها وجوب التوقف الفوري والشامل والتام عن ارتكاب المزيد من الجرائم.

قرار مراوغ

أما قرار ما تسمى بمحكمة العدل الدولية، فقد جاء قرارا مراوغا هلاميا حمّال أوجه، إلى درجة أن بعض المعلقين الطيبين والحالمين، الذين يحسنون الظن بالقانون الدولي ويتوهمون أننا نعيش في عالم يحكمه القانون حقا، استقبلوه بشكل إيجابي أقرب إلى الترحيب، فافترضوا أن القرار يعني عمليا إلزام الكيان الصهيوني بوقف فوري لعملياته العسكرية، بالانطلاق من أن اتخاذ الإجراءات التي من شأنها منع الإبادة الجماعية لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع إلا بوقف إطلاق النار. في الواقع هو فهم جميل ونبيل، بل منطقي، إلا أنه يعاني من مشكلة جذرية لا يمكن تجاهلها، وهي أنه لا ينسجم مع فهم الكيان الصهيوني للقرار، هذا الكيان المبدع والمحترف والمخضرم في رفض قرارات القانون الدولي والتحايل عليها، فالعنوان العريض في الإعلام الرسمي للكيان اليوم هو أن المحكمة لم تأمر بوقف فوري لإطلاق النار، ما يعني بالنسبة للكيان أن القرار قد أعطاه الضوء الأخضر للاستمرار في عدوانه، والدليل على ذلك تصريحات قادته التي تؤكد إصرارهم على المضي قدما في عدوانهم، وإقدامهم بعد ساعات قليلة من صدور القرار على قصف بيت آهل بالسكان المدنيين في دير البلح، ما أسفر عن استشهاد ما لا يقل عن ستة من الفلسطينيين! إن ذلك القرار يشكل كارثة قانونية وأخلاقية تاريخية، فهو ينسف مفهوم العدالة من أساسه، فربما لأول مرة في التاريخ، بدلا من أن تقول المحكمة للمجرم القاتل بأنه مجرم وقاتل، بعد ضبطه متلبسا والدماء تقطر من يديه، فتمنعه فورا من الاستمرار في ارتكاب جرائمه، وتتخذ من الإجراءات الحازمة والجادة ما يضمن معاقبته، نراها تقول له، ولو بصورة غير مباشرة: إن بإمكانك الاستمرار في ارتكاب جرائمك، ولكن عليك أن تتأنى قليلا وأن تنفذها بطريقة منمقة وذكية و”ملعوبة”، بحيث يصعب إمساك دليل حاسم ضدك! وبدلا من أن تكبله بالأغلال لكف أذاه ومنع شره، نراها تقول له: إن بوسعك متابعة نشاطك الإجرامي، وسنمنحك شهرا كاملا لتنفيذ مخططاتك والإجهاز على ما تبقى من ضحاياك، ولكن على أن تثبت لمحكمتنا الموقرة في نهاية الشهر أن نشاطك العتيد لم يتخط الخطوط الحمر المسموح بها للإبادة، وأن عملية الإبادة قد تمت بشكل حضاري لطيف يسر الناظرين!

قضاة المحكمة

علينا أن نتذكر أن قضاة المحكمة التي تستحق تسميتها في أفضل الأحوال بمحكمة العذل لا العدل، يعيّنون فيها بترشيح ودعم من دولهم، وقضاة المحكمة حاليا ينتمون في معظمهم إلى دول تقف حكوماتها إلى جانب الكيان الصهيوني، قلبا وقالبا، مهما كانت الشعارات البراقة الزائفة التي يتم رفعها، ولذلك فإن الوقت الطويل الذي استنزفه القضاة لإصدار قرارهم لم يكن لدراسة القضية والتمحيص في الأدلة، كما قد يتوهم البعض، فالأدلة أكثر وضوحا وحسما من أن تدرَس أو حتى أن تناقَش، ولكنهم احتاجوا لذلك الوقت للخروج بصيغة مخاتلة مخادعة لقرارهم، قد يخيل للناظر فيها أنها تحقق العدالة، وهي في جوهرها أبعد ما تكون عن العدالة، ولا تهدف في واقع الأمر إلا إلى تمييع القضية ومنح كيان العدو فرصة للنجاة بجريمته، بل الاستمرار في ارتكابها. وعلينا أيضا أن نتذكر أن تلك المحكمة لم تظهر إلى الوجود على يد سدنة ما يسمى بالقانون الدولي، إلا لضمان حماية الكيان الصهيوني وملاحقة الدول التي قد تضطهد اليهود، ذلك الكيان الذي اختلقه ذلك القانون على أنقاض فلسطين وأهلها. ولذلك قد يكون من العبث، وربما السذاجة، أن نتوقع بأن ذلك القانون المشبوه يمكن أن يوجه إدانة جدية تهدد وجود ذلك الكيان.
وأخيرا، نعود إلى تلك الأفلام التي ينتفض الأبطال فيها لاسترداد حقوقهم، والإطاحة بقوى الشر والقهر والظلم. إذ يبدو أن الشعوب المظلومة والمقموعة والمخدوعة في عالم اليوم، وما أكثرها، تحتاج إلى استلهام تلك الأفلام للقيام بانتفاضة، بل ثورة عارمة، تطيح بمؤسسات النفاق العالمي، ومن يقف خلفها من دول متسلطة غاشمة، وتعيد للقانون الدولي دوره الحقيقي، كراع جدي للعدالة ومدافع شريف عنها.

*أكاديمي مقدسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية