ذكريات مقتلعة

■ وسط غابة النخيل توغلنا معا نعبر جداول الماء التي يغذيها هدير مضخـة الديزل، ككل يوم يشغلها الحاج جمعة، تهدر بصوتها «تت تت تت تت تت» حيث أدندن مرحا وأنا أقلد الصوت بينما شيـخه تبتسم ثم بعد لحظات تطلب مني ألا أصدر أي صوت حتى لا نزعج «أم الخضر والليف».
أنا أكبر من شيخـه بعام وثلاثـة أشهر، هكذا أخبرتني أمي ذات يوم وهي تغمز بعينيها، «أوليدي شمعة هالبيت، شيخه بغيتها عروس». لا تجمعني أي قرابة معها لكنني أحب رفقتها، الصفرة الخفيفة التي تعلو وجهها الدائري، شعرها الناعم الذي يفلت من حجابها الملون متمردا على سنواتها الثلاث عشرة. تسارع لجمعه وهي تبتسم خجلا، كثيرا ما تسألني عن أشياء لم أعرفها بعد أو تخاف من «أم الخضر والليف»، لم أخف منها ولم تنجح أمي في بث الرعب بداخلي حينما هددتني باستدعائها، إذا لم أكف عن مشاغباتي مع أخي صالح. فقلت لها: «لا أخاف من «أم الخضر والليف» حتى أفكر في إزعاجها أصلا. شهقت ثم جالت بطرفها تبحث في ذرى النخيل عن أي حركة ربما تأتي بها هذه المخلوقة القوية، لكنني قلت لها أن لا تفكر الآن في شيء، نحن معا سنعبر غابة النخيل بأمان نحو البحر. وهكذا كان.. أمامها استعرضت مهارتي في صيد سمك «الميد» بواسطة العدة البسيطة التي أحملها. كنت أحك رأسي مغمض العينين ثم أحرك أصابعي العشر نحو موج البحر، مدعيــًا أنني أملك طاقة سحرية تجعل السمك يدخل مساحة الغربال فيأكل من الطحين ويقع في الفـخ. كانت تضحك، فتضيء أشعة الشمس شفتيها الصغيرتين. بعد لحظات سنأكل سمكنا المشوي، قمت أجمع بعض سعف النخيل اليابس و.. فجأة نهض متوترا ورمى بقبعته السوداء المليئة بخطوط العرق وهو يهتف :
القصة ما دام فيها بنات، لا تلعب بأعصابي خليل، خبرني الصدق، ماذا فعلت بعدها؟ وقتها كنا في بداية الربيع فقلت لها وأنا أشعل السعف اليابس:
شيخة أنتِ بردانة؟
هزت رأسها بحياء واقتربت من النار، تدفأنا معا، سمحت لي بأن أحضنها فقط و.. شوينا السمك، لكن إحساسي بعينيها الجميلتين هما النار الحقيقية التي أشوى فيهما. أكلنا السمك وضحكنا ثم…
مرة أخرى قفــز في وجهي وصاح:
يا ملعون .. قبلتها صح؟
الحب ليس هكذا يا غبي، السينما خربتك ولم تكبر بعد يا مراهق، أنت كي تحب فتاة لابد أن تكسب ثقتها أولا، تعتاد عليك وتطمئن لك. شيخة تكثر وقتذاك من حديثها المضحك عن خرافة «أم الخضر والليف» وتصدقها، لا تنفك تذكرها وهي تحدق في ذرى النخيل، هي فقط تطمئن قليلا حينما أكون أنا في معها. أنهرها عندما تصير أمامي، آمرها أن تمشي خلفي فأجدها تسألني عن السبب؟ عيب على الرجل أن يمشي في الخلف، الرجال في المقدمة! أكتشف أنها ذكية، ردت عليّ وكأن عقلها استيقظ من هيمنة تلك الخرافة.. أنا لا أخاف بالفعل من «أم الخضر والليف» لأنها لا يمكن أن تؤذيني، ولكنني أريد أن أمشي في المقدمة، أنت لست أحسن مني في شيء، أنت من يدعي عدم خوفك منها.
عرفت بأنها كانت تختبرني بتلك الحكاية وخرجت معي كي تراني ماذا أفعل. شيخة ليست مثل أي فتاة عابرة تلعب معها في أزقة القرية، أو تهديها بعض الحلوى والملبس ثم توافق على أن تكون رفيقها، شيخة مختلفة يا صديقي.
ـ خليل أنت تفلسف قصتك، أختصر أختصر وماذا حصل يومها؟
أنت تعرف إننا لا نملك شيئا في قريتكم، أبي استأجر لنا بيتـا في قرية أخرى وهكذا غادرت مني كل ذكرياتي، فخرجت شيخة من حياتي.
يعني قصتك عادية يا أخي، تعال معي وشاهد أجمل فيلم هندي واستمتع بالحب، هذه القصة مرّ عليها دهر، أنس يا أخي.
نعم مرّ عليها دهر كما قلت، ولكنني الأسبوع الفائت أأأ مصادفات الحياة تراوغ غفلتنا.. تتذكر عندما اتصلت بي وكنت تريد أن نخرج إلى كورنيش النادي البحري؟ يومها كنت أتجول بين محلات مجمع السيف، هكذا فجأة تشظى نور وجهها في طريقي. تلك الملامح الطفولية هي ذاتها لم تتغير، كانت تدفع عربة وردية اللون فيها طفلة صغيرة بعمر ثلاثة أعوام ربما. لحظات وأنا أختلس لها النظر، كان من الممكن أن تكون هذه الطفلة من ظهري وأمها تسكن قلبي وبيتي وتأكل معي من صحن واحد. جاءها شابٌ ترك لحيته كثة وفوضوية تأكل نصف وجهه الدميم وهو يحمل بعض الآيسكريم، عرفت من طريقة كلامه معها بأنه زوجها، لم أكمل جولة التسوق، أحسست بشعور مزعج غريب، كما لو أن هذا الرجل مارس سطوا مسلحا على ذكرياتي، وأشترك مع أبي عندما اقتلعني من قريتكم، أنا كلي ذكريات مقتلعــة، من قرية إلى أخرى ومن عذاب إلى عذاب، بعد ثلاثين سنة حصلنا على بيت إسكان، ولا طعم لهذا البيت وحجراته السردينية.
ـ سيكون له طعم، أكيد أمك ستخطب لك، أغتنم الفرصة، جد لنفسك امرأة وتزوج أو ستضيع مثلي.
ضاعت مني شيخة، ضعت أنا بعيدا، فقدت أحلامي و.. ماذا تريدني أقول بعد؟
أهذا يعجبك الآن؟ والله كان مزاجي أحسن قبل أن تلح عليّ سرد هذه القصة الملعونة، فتحت عليّ كل جروح الماضي، إن ثقوبي السوداء في هذه الرأس تنزف وجعا لو تعرف، الآن قُـم نذهب إلى صلاح الخربان حتى أسد ثقوبي الكريهة قبل أن يفسد باقي يومي لا بارك الله فيك.
صرت تعرف صلاح الخربان؟ (ثم ضحك)
كل العاطلين عن الحياة أمثالي وأمثالك لا بد أن يقعوا في شباك هذا الشيطان اللذيذ، أمس أخبرني عن فتاة أجنبية طرية مثل «المارشملوا»، ساعة زمن تشويك في نار فـراشها وتخرج للحياة، تنس كل قصص الحب والمراهقــة الغـبية، هيا معي، السهرة على حسابي!

*أم الخضر والليف .. واحدة من الأساطير المحلية المتعارف عليها في البحرين، هي بمثابة حارسة الغابة، كائن خرافي «أنثوي» يتمتع بقوى خفية، غالبا ما يتم التخويف به بغية السيطرة على الأطفال المشاكسين.

٭ قاص وروائي من مملكة البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية