قصص آل نوبل

ينتمي الكاتب (النوبلي) إلى عائلة لها خصائص أدبية، وصلات نسب إنسانية وفكرية، آخذة في التعمّق على مر التاريخ الأدبي. وأي نظرة فاحصة لمحاضرات السلالة النوبلية، التي تختلف عن خطابات مائدة التكريم من عدة وجوه، وتتقاطع معها في آن، ستكشف عن مجموعة من الركائز التي يتكئ عليها (النوبلي) لمخاطبة العالم. وسيتعرف على المخيال المشترك للعائلة المحتفية بذاتها، المعمّقة لرؤيتها الكونية من خلال نصٍ جامع له ملامح وإيقاع على درجة من المرونة والانضباط.
يتأكد هذا الاستنساب لمعشر الكّتاب من خلال اعتماد (النوبلي) في حاضرته على حكاية ذات مغزى، تؤهل القارئ للتماس مع فلسفته الكتابية. إذ يمكن للقصة الأدبية أن تجسّد الأفكار المثالية بشكل يفوق أشكال الفكر والتعبير الأخرى. بالنظر إلى ما تتميز به من طواعية. وربما لهذا السبب يؤثر أغلب الكتّاب الاتكاء عليها للتعبير عن أطروحاتهم التي قد تعاني من القبول خارج عوالم القص الأدبي. إذ لا حدود لسطوة الحكاية المحبوكة على أساس طوباوي. وهو المنحى الذي يتعمّده ويتقنه أدباء نوبل أثناء إلقائهم محاضرات التكريم، التي تخصهم لجنة الجائزة بها من دون بقية الحقول، وتعتبر فرصة لاستعراض مهارات الكاتب (النوبلي) الأدبية، والإفصاح عما يتمتع به من قدرات فكرية، بالإضافة إلى بيان تاريخي بمواقفه الإنسانية.
وعند الاحتكام إلى معايير تحليل الخطاب الأدبي، يُلاحظ أن أغلب المتحدثين يستهلون محاضراتهم بقصة، يدبّرها الكاتب بعناية، وفق استراتيجية نصّية. ليشتق منها فيما بعد مراداته الأدبية والأخلاقية، ويكشف من خلالها عن مواقفه السياسية والإنسانية. حيث تشكل الحكاية أو القصة أحد أهم ركائز الخطاب. فالكاتبة الأمريكية توني موريسون الحائزة على الجائزة لعام 1993م، تفتتح محاضرتها بقصة عجوز عمياء، يباغتها زمرة من الشباب لاختبار قدرتها على الاستبصار، بسؤالها عن حياة أو موت طائر مزعوم بين أيديهم. ومن خلال تلك الحكاية تفكك مفردة الطائر بشكل لغوي. كما تقارب جواب المرأة الحكيمة باعتباره نصاً صادراً عن ذات كاتبة. لأنها تفكر من خلال لغة قادرة على تصوير الحياة المتخيلة. ولتستنتج في نهاية المطاف، بأن هكذا لغة، يمكنها أن تحمينا من الخوف والارتباك إزاء الأشياء التي لا إسم لها.
الرومانية هيرتا مولر الحائزة على الجائزة عام 2009م أيضاً لها حكاية تدور حول المنديل، في محاضرتها (كلُّ كلمة لديها ما تقوله حول الحلقة المفرغة). حيث تطلب منها أمّها أن تأخذ كلّ صباح منديلاً إبان طفولتها، من الرفوف الوسطى للخزانة التي تحتوي على مناديل الأطفال، فيما تم تخصيص اليسار لمناديل الرجال، واليمين لمناديل النساء. وبعد أن تستعرض الفروقات والمزايا لكل فئة، تعدّد استخدامات منديل الجيب آنذاك، لتربط فيما بعد بين كلمة القطار، التي تعني في الرومانية (تران) ومفردة الدمعة التي تؤدى بنفس اللفظ (تران). لتستخلص فكرة عقد المنديل والتلويح به ساعة الوداع، فصرير عجلات السكة الحديدية يستثير لديها البكاء، كما أنه يستخدم للف حول ذقن الميت أو تغطية وجهه، بما هو أداة لاستراحة الميت. بمعنى أنه عنوان للموت والوداع، كما اختزنته ذاكرتها.
المنديل بالنسبة لها لم يكن يعني الموت فقط، بل كان رمزاً قريناً للأمل، منذ أن سمعت حكاية أوسكار بستيور، المرّحل السوفييتي إلى مخيم للأشغال الشاقة، الذي أعطته أمٌّ روسية عجوز منديلاً كتعويذة للحظ ليعود مع إبنها من المعسكر. طرق بابها متسولاً فقدمت له حساءً ساخناً، وعندما رأت مخاطه يسيل في الصحن سألته (هل لديك منديل؟). إنه السؤال ذاته الذي كانت تسألها اياه أمّها كل صباح. وهنا تتساءل، هيرتا مولر، إن كانت هذه العبارة صالحة لكل زمان ومكان، خصوصاً عندما عرفت أن بستيور عاد بمنديله الأبيض بعد سنوات النفي، لأنه كان يمثل أمله في الخلاص. وقد خططا لكتابة رواية (أرجوحة النفس) لولا وفاته عندما كانا يجهزان للعمل. لتبدأ قصة جديدة أخرى تنتهي بمنديل، قصة أبن جدها ماتس، النازي الذي مات في الحرب وغُطي بملاية بحجم منديل، لكأن المنديل الصغير هو الرابط بين متفرقات الحياة، والمحرض على السرد. وهو الدليل الذي تُشهره في وجه الدكتاتورية، إذ يرن في صدرها السؤال ذاته (هل لديكم مناديل؟).
وبالمقابل يكاشف أورهان باموك قارئه بجانب من سيرته الكتابية، من خلال تحويل علاقته بوالده إلى قصة تخترق الزمن، فيسرد حكايتهما في محاضرته (حقيبة أبي). حيث يضفي شيئاً من الغموض على تلك الحقيبة الجلدية السوداء، التي لازمت والده منذ الصغر، بما هو مشروع كاتب، ولم تفارق بصر باموك وحواسه، بما تحمله من إيحاءات الدول الأجنبية التي تحيل إلى السفر والآخر، إلى أن صارت وصية، لا يمكن فتحها إلا بعد وفاة الأب. وهنا يتوّلد عبء الصبر، الذي يشبهه بوطأة الجلوس منزوياً في غرفة ليس فيها إلا القلم والورقة، فالحديث عن الكتابة يعني بالنسبة له شخصاً يعزل نفسه في غرفة، يجلس على الطلولة، ويتوحّد مع نفسه، محدقاً في داخله، الذي يشبه ما في داخل الحقيبة الغامضة والمثيرة للتخرصات، ليشيّد عالماً من كلمات.
أما الكاتب الجنوب أفريقي جيه. ام. كويزي الفائز بالجائزة عام 2003م فيدخل إلى محاضرته (هو وصاحبه) بارتداد إلى قصة (روبنسون كروزو) لدانييل دوفو، لينوّع عليها كخميرة سردية. إذ تم تصنيفها كعلامة في تاريخ نشوء الرواية. ليسرد ما سماه كتابة صاحبه عن شاطئ لينكولنشاير، وعن آلة تنفيذ الإعدام في هاليفاكس، بخطه الأنيق، وريشته التي يقلّمها بسكينته الخاصة. ومن مطّل الشيخوخة، يقرأ هو وليس صاحبه، بشكل بانورامي كل تلك التداعيات، بعد أن أكسبته مغامراته عادة الكتابة، من منطلق التعليق بشكل كتابي على تقارير صاحبه، ما كانت لتنكتب أصلاً تلك الكلمات لولا أن أسلم ذلك الرجل الببغاوي نفسه لهذا الرجل. محيلاً كل ذلك التراسل الحواري إلى فكرة تعليم الآخر أو الرفيق، الذي يعادل الإنسان في هذا المقام، القدرة على الكلام بحذق، أي ما يعادل اللغة وصولاً إلى مرقى الكتابة.
وبالنسبة للكاتب البرتغالي خوزيه ساراماغو الذي حظي بشرف نيل الجائزة عام 1998م، لا تبدو المسافة موجودة بين حكايته وواقعه. إذ يستهل محاضرته (كيف أصبحت الشخصيات أساتذة والمؤلف تلميذها) بسرد حكاية جده جيرونيمو ميرينهو، وجدته جوزيفا كيسينا. هذان الأمّيان اللذان يعود لهما الفضل في تعليمه أصول الرواية في حظيرة بائسة لبيع الخنازير. حيث كان جده يأخذه للنوم تحت أعرق شجرة تين ليروي له القصص، إلى أن تشبع بكل تلك المشاهد، واكتشف بعد أن صار كاتباً أنه يحول أفراداً عاديين إلى شخصيات أدبية مؤثرة. وكانت تلك طريقته لتمكيثهم في ذاكرته. كما كان رصده الطفولي لهم مقدمة لاختلاقهم. وهذا هو حاله كتلميذ متدرب، كما يصف نفسه في المحاضرة ازاء كل الذين أسهموا في تعليمه معنى الكتابة والحياة، كما استوحاها من حكاياتهم، فالصوت الذي تحدّث للجمع يحمل أمنية أن يكون مجرد صدى لشخصياته، لأنه لا يمتلك ذلك الصوت الذي يفوقهم.
ومن ذات المنطلق، يستدعي الكاتب الياباني كينزا بورو أوي الحائز على الجائزة عام 1994م، قصة إبنه المعاق ذهنياً (هيكاري). ويعني النور في اليابانية، الذي حقق أمنيتين مؤجلتين لوالده، تمثّلت أولهما في فهم لغة الطيور، حيث نطق أول عباراته الإنسانية مشيراً إلى طيور اللقلق المائية. ومنذها، صار بإمكانه وزوجته التواصل لغوياً مع إبنهم، الذي عمل بدوره في مركز تدريب مهني لذوي الإعاقة، يعتمد في أفكاره وأساليب تدريبة على خبرة سويدية. وبالتالي تحققت أمنيته الثانية بالسفر إلى اسكندنافيا، محلقاً مع سرب إوزي، بطل مغامرات نيلز. ومن خلال تلك التهويمات المبعثرة في محاضرته (اليابان الغامضة وأنا) يحاول أن يكتشف (أناه) التائهة، وهو الآتي من اليابان الجميلة، حسب تعبير سلفه كاواباتا ياسوناري، أول ياباني يحظى بالجائزة. كما ينبّه ذاته والآخرون إلى أثر الآخر على اليابان الملتبسة، حسب تعبيره، شارحاً مهمة كتّاب يابان ما بعد الحرب.
٭ كاتب وناقد سعودي
[email protected]

محمد العباس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية