يتألف الكتاب القصصي «الكرسي» لكاتبه الكويتي طالب الرفاعي من أربع عشرة قصة، مكتوبة في العام الأول من عمر الربيع العربي، وقد جاء الإهداء (إلى أرواح شهداء مشوا درب الحرية حالمين بنهار أجمل يطل على أوطانهم العربية).
لم تحمل قصص الكتاب عناوين مستقلة، وإنما اكتفت بعنوانه مع رقم تسلسلها. كما أنها سُردت جميعها (بصيغة «المخاطَب» التي هي حوار أقرب إلى الزجر، وتعرية هجائية، تعيّن المتكلم «حكاء عليماً» ينفذ إلى أسرار المخاطب جميعها، ناقداً وساخراً ومعابثاً، ومتأملاً ما يعرفه المتسلط، وما لا يستطيع الاعتراف به أبداً). كما جاء في الدراسة النقدية التي كتبها فيصل دراج، ونشرت في آخر الكتاب.
تدور القصص في فلك عنوانها «الكرسي» بما يمثله من سلطة؛ فنقرأ عن كرسي العسكري، ورئيس الشركة، ورئيس مجلس الإدارة، وصاحب المشفى، وصاحب المنصب، والوزير، وصولاً إلى كرسي الرئيس الذي حضر في قصتين: إحداهما على (خشبة المسرح، التي خلت إلا من كرسي واحد بدا فخماً وعالياً بأرجل غليظة، و»مايكروفون» يتدلى من السقف قبالته). حيث سيلقي عليه فخامة الرئيس خطاباً على أبناء شعبه العظيم الذين كانوا يقاطعونه بشعاراتهم المناهضة له ولحزبه، قبل أن يطالبوه بالرحيل ثم يغيرون على كرسيه محاولين إسقاطه.
أما الثانية فمن الواضح أنها عن الرئيس السوري، من دون أن تسميه، إذ يحضر فيها فيلماً (من إنتاج عربي روسي مشترك). تم الاتفاق مع مخرجه على الفكرة والسيناريو، ومع ذلك لم يكن راضياً عنه (الفيلم بتقنية البعد الثالث، تتمنى لو تمد يدك وتنتزع حنجرة المطرب) في إشارة إلى القاشوش الذي حقق فيه هذه الأمنية (بعد رحيل والدك، ويوم استلمت منصبك، دار ببالك: «العائلة والكرسي إلى الأبد». ولا يمكن أن تنسى فرحتك وزوجتك يوم جاء مولودك الأول: بثثتها وعدك بثقتك قائلاً: «ولي العهد الصغير») في إشارة إلى المافيا العائلية الأسدية. (مؤكد أن صديقنا الشبح وبمساعدة قوات الجيش سيقضي على العصابات المندسة) في إشارة إلى الشبيحة.
(تسرع إليك صورة أبيك بتقطيبته، تتمناه لو كان حياً. مؤكد أنه كان سيسحقهم ويقضي عليهم كما قضى كثيرين قبلهم) في إشارة إلى مجازر الأسد الأب.
تبرز أهمية الصورة كعنصر مواجهة ضد المستبد في القصتين السابقتين، خاصة الأولى التي ورد فيها (صوّر، صوّر. الصورة طلقة..) وانتهت بهذه الجملة: (صوّر.. الكرسي يهتز). ثمة قصة أخرى، تحمل الرقم (8)، تجري أحداثها على خلفية الثورة المصرية. (تنتقل ما بين قناة «الجزيرة»، وقناة «العربية». بقيت بين الصحو والنوم، وفجأة رأيت نفسك تركض في «ميدان التحرير» مع المتظاهرين). (أسرعت إليك صور إصابات وموت المتظاهرين في الميدان، وكيف أن إحدى السيارات دهست بشكل جنوني مجموعة منهم). مع ذلك، هذه القصة تبدو أقل ملاءمة لسياق المجموعة، إذ أنها تدور حول «كرسي الطوارئ» الذي تلجأ إليه الأم العجوز (ما إن تشعر بأي عارض صحي أو تمل حبسها في البيت، حتى تأتي مسرعة إلى المستوصف، مستعينة بكرسي الطوارئ هروباً من انتظار دورها).
قصة أخرى تبدو غير ملائمة، تحمل الرقم (9)، وتدور حول «كرسي العقاب» الذي غدا طريقة تربوية حديثة لمعاقبة الأطفال على تصرفاتهم السيئة، بدلاً من العقوبات الجسدية (عمرك تسع سنين، إذا أخطأت سيمتد عقابك لتسع دقائق)، وهي عقوبة طالما تم تشويهها من قبل الأبوين عند تطبيقها. وقد تم تشويهها في هذه القصة التي أساءت بدورها للمجموعة، على الرغم من إشارة الكاتب إلى مهنة الأب العسكرية وقساوة الأم.
القصة ما قبل الأخيرة تعج بالكراسي الطائرة، وكل كرسي يختلف عن الآخر، ودائماً ثمة من يلحقها محاولاً الإمساك بها: رجل، رجل دين، زوجة المختار، رجلان، شاب وفتاة، شرطي، عسكري، وليس آخرهم الرئيس، وإنما أحد الأطفال: ابن ناظر المدرسة.
في القصة الأخيرة تحضر الكراسي الأخرى، المختلفة عن السابقة، والمضادة لها. يجلس عليها طالب الرفاعي، الذي يحضر كشخصية في هذه القصة بصفته صاحب هذه المجموعة، واثنان (من أهم أعمدة التنوير الثقافي في الكويت الحديثة) هما: عبدالعزيز حسين والشاعر فهد العسكر.. ومعهم محمد بوعزيزي الذي أشعل الثورة التونسية والربيع العربي، وخالد سعيد الذي أشعل الثورة المصرية، وتوكل كرمان أيقونة الثورة اليمنية.. وأخيراً نرى سعدالله ونوس، وقاسم حداد، والشيخ إمام، ومحمود درويش؛ ربما باعتبارهم من أهم أعمدة التنوير الثقافي العربي في العصر الحديث.
مجموعة أم متوالية قصصية؟
تبدو قصص «الكرسي» أقرب إلى المتوالية القصصية من المجموعة القصصية، وهي نوع سردي يكاد يكون مستقلاً بين المجموعة القصصية والرواية. والمتوالية أو المتتالية القصصية لمفهومها أكثر من مصطلح كالكتاب القصصي والديوان القصصي، ولكن الأكثر استخداماً هو الحلقة القصصية، أو حلقة القصص القصيرة التي عرّفها فوريست إنغرام كما نقل عنه خيري دومة في كتابه «تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة» بأنها (مجموعة من القصص القصيرة التي ترتبط إحداها بالأخريات، إلى درجة يتعدل معها فهم القارئ لكل قصة من خلال فهمه للقصص الأخرى… إن حلقة القصص ليست مجرد مجموعة قصص كما أنها ليست رواية، بل ينهض بناؤها على هذا التوتر بين متطلبات القصة القصيرة المستقلة المغلقة من ناحية، ومتطلبات الرواية المترابطة والمفتوحة من ناحية أخرى. إن الأمر المحوري فيها أن ديناميتها قائمة على التوتر بين الوحدة والتنوع).
كما نقل عنه صبري حافظ في مجلة «فصول» ربيع 1993 (تتكون الحلقة القصصية من مجموعة من القصص القصيرة التي تتمتع كل منها باستقلالها الذاتي، بينما يتخلق بينها وبين غيرها من أقاصيص الحلقة نوع من الحوار الخلاق الذي ينهض في أجلى صوره على تكامل العالم والرؤى، وفي أقلها مباشرة على نوع من الجدل الباطني بين بعض قصص المجموعة، يضفي عليها نوعاً من تكامل العوالم، ويثري دلالات كل نص على حدة، ويوسع من آفاق تلقيه ومن إمكانات تأويله).
٭ كاتب سوري