على امتداد الأراضي اللبنانية، وفي المدن والقرى والبلدات، هناك قصور وأبنية تاريخية وتراثية قديمة، تخفي بين جدرانها حكايا الزمن الماضي، بعض منها تعرض للهدم والإهمال والتخريب وهجرها أهلها، وبعضها تم ترميمه، وإصلاحه ليتحول لمعلم تاريخي.
كل بيت له حكاية، وفي كل زاوية هناك ذكرى وأخبار، ووراء كل عامود وسقف قرميد، وشبابيك ملونة هناك قصور عمرت بذوق رفيع ومنحتها الرونق التراثي.
المتين واحدة من أجمل بلدات جبل لبنان، وكانت مركزا للإمارة ومقر قصور الأمراء اللمعيين بين القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر. ففي جبل لبنان، وعلى ارتفاع ألف متر عن سطح البحر، وفي أحراج الصنوبر والسنديان، تتربع بلدة المتين، التي تعود جذورها إلى القرون الأولى للميلاد، حسب ما تشير إليه معالم أثرية لبقايا مدافن وجدت في البلدة من الحقبتين الرومانية والبيزنطية، ولمع أسمها في التاريخ الحديث ابتداء من القرن السادس عشر، في تلك الفترة، جاءت من شرقي إنطاكية وحلب السورية، إلى جبل لبنان، جماعة اشتهرت بكنية أبي اللمع، نسبة لأحد زعمائها، وصارت المتين، أحد مناطق نفوذها ومدافن لعدد كبير من وجهائها.
بعد انتصاره بمعركة عين دارة سنة 1711 بمساعدة اللمعيين الذين قدموا له الدعم والمساندة، رفع أمير جبل لبنان، في ذلك الوقت الأمير حيدر شهاب، اللمعيين إلى مرتبة الأمراء، ووسع من نفوذهم في مقاطعة المتين، وشهدت المتين في ظل حكمهم في تلك الفترة، أيام عز ورخاء وازدهار، امتد ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وشيدوا فيها قصورا للسكن ولمؤسسات الحكم.
تحتفظ المتين، من تلك الفترة الذهبية، بخمسة قصور ما زالت موجودة اليوم حول ساحة الميدان الأثرية، التي كانت تشكل باحتها الداخلية ويجري فيها سباق الفرسان، وكان ممنوعا على عامة الشعب الدخول للميدان.
تاريخ المتين
يشير بعض المؤرخين إلى أن تاريخ المتين يبدأ في الذاكرة الجمعية لأهلها في مطلع القرن السابع عشر، مع حيازة اللمعيين مرتبة الأمراء، وشروعهم في تشييد قصورهم، ما أذن بنشوء ساحة بين هذه القصور، وبتحولها القطب التأسيسي والمحوري لعمران المتين وبؤرته الجامعة، ومسرحه الذي يتصدره الأمراء اللمعيون.
فارتقاء اللمعيين من مرتبة مقدمين إلى مرتبة أمراء، في زمن إمارة جبل لبنان ونظامها الإقطاعي، هو اللحظة التأسيسية المشهودة في تاريخ المتين. وفي كتاب «لبنان: مباحث علمية واجتماعية» الذي وُضع عام 1918 في نهاية عهدي الإمبراطورية العثمانية والمتصرفية في جبل لبنان، وأعادت الجامعة اللبنانية نشره في العام 1970 ورد أن المقدم حسين اللمعي كان من المحاربين في معركة عين داره العام 1711 إلى جانب الأمير حيدر الشهابي. المعركة هذه أذنت بإعادة توزيع المراتب والأراضي والولايات الإقطاعية في إمارة الجبل الشهابية، فكوفئ المقدمُ اللمعي وعائلته بالارتقاء إلى مرتبة الأمراء، وبولاية الإقطاعية على المتين وناحيتها. الشائع بين المتينيين أن قصر الأمير قيس اللمعي الذي قد يكون نجل الأمير حسين، هو أقدم القصور القائمة حول الساحة التي عُرفت بـ«ميدان الأمراء». عصام سلامة ذكر في بحثه أن تشييد القصور اللمعيّة استغرق نحو قرن ونصف القرن، هما حقبة سلطان الإمارة اللمعيّة ونفوذها في المتين.
تشتهر بلدة المتين بساحتها الأثرية المعروفة بساحة «ميدان الأمراء» التي كانت ميدانا لسباق خيل الأمراء اللمعيين، وحول الساحة شيد الأمراء اللمعيون خمسة قصور تعتبر من الأجمل من الناحيتين الهندسية والفنية، لكن الحروب التي تعاقبت على لبنان، تركت آثارها السود عليها، إلى أن امتدت الأيدي لتعيد لها جمالها.
قصر المير محمود أبي اللمع، هو أحد القصور الخمسة الذي تحول طابقه العلوي إلى مقر للبلدية، وطابقه الأرضي إلى متحف للفنون.
تعود هذه القصور، إلى الأمراء اللمعيين يوسف وقيس، وأبرز وأقدم هذه القصور وأكبرها وأجملها هو قصر المير قبلان، الذي تم إنشاؤه عام 1820 وكان يضم سرايا ومحكمة، وسجنا، وجاء من يحتفظ بالقصر بعناصر معمارية حجرية جميلة.
ويشتهر هذا القصر، بالمشرفية الضخمة من الحجر المنقوش، والزجاج الملون، والمعروف بالكشف الشرقي، وكانت مخصصة للأميرات والنساء ليشرفوا منها على ساحة الميدان بدون أن يراهم الرجال.
وقد تمثل العز أيام إمارة اللمعيين بإقامة مباريات في وسط ساحة الميدان مثل لعبة «الجريد» (مباراة بالرماح على ظهور الخيل) وشتى أنواع مبارزات الخيل والليل تحت أنظار أميرات جالسات في الكِشْفِ العالي المطل، يمايزن بين فارس وفارس وحبيب ومشتاق ومن خلف شباك الكشف يخترن من يقع عليه الاختيار. للأميرات مسبح خاص يرْتَدنه سافرات شبه عاريات يحاكي بياض أجسامهن لؤلؤ مياه الصيف الدافق من أعالي جرد بيت القنطار وكان آل القنطار يملكون الماء في جرد المتين قبل وصول اللمعيين إليها. ولحاجة هؤلاء إلى المياه أخذوا أملاك آل القنطار في المروج عنوةً بعدما ضربوا أعناق عدد من مشايخهم وفرسانهم بحد السيف.
قصر المير محمود
والقصر الآخر هو قصر المير محمود الذي ينفرد ببوابتين، ويقسم إلى قسمين، ويعده بعض المؤرخين، قصرين وليس قصرا واحدا، وقد تحول أحدهما اليوم إلى قصر بلدي.
كل هذه القصور، تم إعمارها على مدى 200 سنة، بمراحل زمنية متتالية، وتم بناؤها بأسلوب العمارة اللبنانية التقليدية، والذي يزاوج بين الطابع العربي والتركي، لجهة الباحة الداخلية، والحجر الأبيض والأصفر والمشربات والكشف والمنمنمات، وبين الطابع الغربي وخصوصا الإيطالي الذي تجلى بعد عودة الأمير فخر الدين المعني من توسكانا لناحية القناطر المثلثة والمندلون، والزخرفة.
أواخر القرن التاسع عشر أواخر 1870 تسلم آل عقل الحكم وبدأت سلطة الأمراء اللمعيين بالتراجع، وتراجعت أوضاعهم المالية، واضطروا لبيع أملاكهم وقصورهم لعائلات متنية لبنانية.
ونظرا لأهميتها التراثية وزواياها المعمارية، أدرجت القصور الخمسة مع ساحة الميدان على «لائحة الجرد» للمباني التراثية بموجب المرسوم رقم 722 الصادر في 23 كانون الأول/ديسمبر 1949.
واعتبر المرسوم أن ساحة الميدان في بلدة المتين والأبنية والقصور المحيطة بها، من المناطق الأثرية، ولا يجوز القيام بأي عمل من شأنه ان يغير شكل المنطقة الحاضر إلا بعد موافقة مديرية الآثار على خرائط الأعمال المرغوب في إجرائها.
وجاء في المادة الثالثة من المرسوم كل بناء حديث يشاد على مسافة عشرين مترا خارج حدود هذه المنطقة يجب ان تستوحى هندسته من البناء اللبناني وأن تعرض خرائطه على مديرية الآثار للموافقة.
كما اعتبر المرسوم، مدفن الأمراء اللمعيين الواقع جنوبي الميدان بناء أثريا ويمنع البناء حوله في دائرة يبلغ شعاعها عشرين مترا.
العمليات العسكرية
دمرت جدران القصور
عام 1976 خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كانت بلدة المتين من أبرز ضحاياها، وتعرضت للتدمير وأهلها للتهجير، وفي آذار/مارس 1976 وخلال العمليات العسكرية والقصف التدميري انهارت أجزاء من جدران القصور الحصينة بفعل القصف المدفعي والصاروخي. أما ساحة الميدان فخربت وحل عليها شبح موت استمر زهاء عقدين من الزمن وأكثر.
أحد أبناء البلدة رجل الأعمال روجيه صروف كانت له المساهمات الكبيرة لعودة الحياة إلى البلدة وتأهيل وترميم أبنيتها التراثية، فاشترى أحد قصور اللمعيين وقام بترميمه هندسيا، ليكون مقرا للمجلس البلدي، وأقام في القصر معرضا للفن التشكيلي بالطابق الأرضي، وبلغت تكاليف الترميم حوالي مليون دولار، وفي 24 تموز/يوليو 2010 تحقق حلم الكثيرين من أبناء البلدة والمهتمين بالتراث التاريخي وأصبحت القصور مركزا ثقافيا وفنيا يشهد أنشطة واسعة.
حاليا تشهد هذه القصور الخمسة أعمال ترميم وتأهيل وإدخال إضافات جديدة وتعديلات تساهم في ترميمها.
فالقصر اليوم ما زال كما بني في أيام اللمعيين، من طابقين، وعندما قام روجيه صروف بشرائه، كان قسم من القصر مهدم، فأعاد صروف إعماره، ورمم الجزء الشرقي، وحافظ على أصالته وأعاده كما كان قدر الامكان، وأعيد ترميمه بالحجر الأساسي الذي كان موجودا، وتم شراء حجارة من النوع ذاته لاستكمال الترميم، أما البلاط الذي يكسي أرض القصر فيعود إلى مئة عام.
جدران القسم الشرقي من القصر تشير إلى أن البناء تم على عدة مراحل وليس دفعة واحدة وتظهر القناطر والجدران الخارجية كيف أصبحت جدرانه زاهية ومثيرة للاهتمام بعد توسيع القصر.
في أيلول/ سبتمبر2013 تم افتتاح متحف المتين داخل قصر المير محمود، وضم المعرض أكثر من مئة لوحة فنية وعشرات القطع الحرفية لكبار الرسامين والنحاتين اللبنانيين، الذين قدموا أعمالهم الفنية مجانا لإغناء المتحف وخلق مساحة لقاء وحوار وتفاعل حول الفن.
وعلى جدران المتحف المعمرة بحجر الكالين العريض تعلق اللوحات الملونة التي تظفي روح الفن والجمال على المكان.
توزعت الرسوم بين مائيات وزيتيات وفحم وزيت على القماش ومواد مختلفة، ويعد الرسامين المشاركين من أبرز الفنانين اللبنانيين وآخرين أجانب.
وعلى منصات خشبية، تتوزع بين اللوحات مجموعة من الأعمال المنحوتة، من الرخام والخشب، والحجر والبرونز والسراميك، لتمثل رؤى الفنان ونظرته للإنسان والكون وتشمل أعمال كبار الفنانين، والمتحف مجهز بقواعد وشروط الحفظ والانارة.
عرفت
الساحة عزاً وفاقة
وبرأي الكاتب اللبناني المتخصص شربل نجار أن ساحة المتين أو «ميدان الأمراء» هي من أكبر ساحات لبنان، تسبقها ساحة قصر بيت الدين، وتتساوى في المساحة مع ساحة راشيا، ويقول الكاتب نجار مستدركا، لا عجب في ذلك، فالساحات الكبرى معقود لواؤها للعائلات الكبرى التي تحكمت بمفاصل جبل لبنان قبل مجازر الستّين في منتصف القرن التاسع عشر، على ما جاء في كتاب «مسارات في تاريخ المتين 1832 ـ 1918» لشربل نجار. انها ساحات استثنائية ملكتها عائلات استثنائية تساوت في مرتبة الإمارة الإقطاعية العليا السائدة آنذاك، التي تمتع بسلطانها وتجبُّرها وغِيّها وخيرها وعانى من تبعاتها ومآسيها آل شهاب وأبي اللمع وإرسلان.
ويتابع الكاتب، ساحة المتين الأثرية تقوم اليوم على نحو خمسة آلاف متر مربع، تحيط بها من الجهات الأربع قصور لمعية ابتدأ عمارها في القرن السابع عشر (لم تُبن القصور اللمعية دفعة واحدة بل جاء بناؤها على مراحل غرفة إثر غرفة وطابقا تلو طابق بحسب الحاجة. لما صارت القصور في منتصف القرن التاسع عشر على ما هي عليه الآن كان قد أزفّ أوان بيعها لضيق مادي أصاب آل بو اللمع) وانتهى ببيعها في بدايات القرن العشرين لناس من المتين اجتازوا بحاراً وعادوا بثروات أو جاءت إليهم الثروات من دون أن يجتازوا البحار! عرفت الساحة عزاً وفاقة.
في القرن العشرين صارت ساحة المتين أو السهلة أو الميدان طريقا للمارة وللدواب وملعبا للأطفال وفي أواسط القرن العشرين تحولت الساحة إلى ملعب لكرة القدم تتبارى فيه فرق المنطقة المتنية بشقيها الشمالي والجنوبي. في ذلك الوقت وخلال أيام الأسبوع كانت الساحة تعج بالحرفيين وصغار الباعة وكبارهم.
في بداية القرن الحادي والعشرين وصلت إلى المجلس البلدي في المتين مساعدات لإنشاء بنى تحتية للساحة الأثرية، وافتتحت الساحة بهرج ومرج وسيف وترس وضيافات وخطابات أدت إلى إعادة انتخاب مجلس بلدي جديد في العام 2010 برئاسة زهير بو نادر نفسه. في العام نفسه رُمّم القصر البلدي على طرف الساحة بتمويل من روجيه صروف، وقد صدح خلال الافتتاح صوت السيدة ماجدة الرومي على مسمع ومرأى من أربعة آلاف شخص. دعي آنذاك إلى ذلك الاحتفال مقامات لبنانية وأجنبية فخرا واعتزازا بالذي يجري.
وذكرت تقارير في المكتبة العامة لبلدية المتين أن ساحة الميدان كانت لعقود طويلة، ساحة ميتة يحركها حسب المواسم نشاط محلي بعضه حصري وبعضه الآخر عام. فالساحة في الخريف مكان لجمع الحطب وفي الشتاء مستودع لتفريغ أحجار تعدّ للعمار المخالف حتما في هذا أو ذاك من القصور البائسة في معظمها. أما صيفا فتتحول الساحة بين الحين والحين إلى مسرح كبير للمهرجانات الفنية المحلية وتبقى في باقي الأيام مرأبا مترامي الأطراف.
ترتفع الأصوات بين الفترة والأخرى من قبل الفعاليات والشخصيات النافذة في المتين تطالب الجمعيات والمؤسسات المحلية واللبنانية عامة التي تعنى بالإنماء الثقافي وعلى القطاع الخاص بالذات الذي له مشاركة فاعلة في هذا المجال لوضع البرامج الانمائية على مختلف الصعد الثقافية والعمل لحماية الآثار القديمة في المتين، ابتداء من ساحتها وانتهاء بجُرْدها.
الإنماء الثقافي لا يمكن أن يقتصر على جوانب منه فتهمل جوانب أخرى، إلا أن مشروع حماية الآثار والمعالم التاريخية هو أولوية لبلدة المتين في جبل لبنان، ثرواتها التراثية كثيرة وكبيرة وأبرزها قصور اللمعيين وساحة ميدان الأمراء.
أعتقد المقصود هو المعنيين وليس اللمعيين، المعنيون -نسبة إلى معن- أسرة درزية حكمت جبل لبنان زمن العثمانيين وبرضاهم وتوسعت دولتهم حتى شملت كل بلاد الشام التاريخية ومن أشهر قادتهم فخر الدين المعني الثاني الذي استفحل خطره على الدولة العثمانية لعقده تحالفات مع الأوروبيين بدون رضا العثمانيين الذين استشعروا خطره فارسلوا حمالة تمكنت من القبض عليه وإعدامه وكان ذلك عام 1635م.