يتناول هذا المقال عرض قضايا من التراث المغربي، من خلال كتاب «من قضايا النقد والتلقي في التراث المغربي» للحسين أيت مبارك، ويتمحور هذا الأخير حول تجربة أدبية معروفة في التراث المغربي والعربي، هي شخصية «أبي علي الحسن اليوسي» رحمه الله، وما تتسم به من أخلاق وهمّة وعلم وعمل وجهر بالحق ونصرة له، حيث كانت لثقافته الموسوعية ورحلاته الكثيرة وواقع عصره أثر كبير في إبراز شخصيته الثقافية والعلمية، لذلك اشتهر بقدرات ذاتية تؤهله لأن يكون واحدا من كبار العلماء المسلمين في عصره، حتّى سمّاه بعض الباحثين بـ«آخر العلماء المغاربة على الإطلاق»، كما أثّرت فيه البيئة الطبيعية والاجتماعية والسياسية وقراءاته المتنوعة، حتّى تكفّل بمهمة الإصلاح الاجتماعي بسبب الجهل الذي برز في المجتمع المغربي، وكانت له آثارٌ وخيمة على واقعه. ومن جانب آخر، فإن اليوسي – بحكمته ـ بنى تصوره الخاص للعلم والعلماء، على النحو التصاعدي التالي: العامة – العلماء – العلماء العاملون – العلماء العاملون المخلصون. أما موسوعية اليوسي الثقافية والعلمية فإنها من البديهيات لدى الباحثين، فقد ترك أثرا علميا وأدبيا وافراً من جهة، وعُرف عنه حفظ القرآن والكثير من الأشعار من جهة ثانية، فتحلّق النّاس حوله. وبما أن الكتاب المتناول يقدّم بعض القضايا النقدية المفهومية، والقضايا القرائية الاستقبالية في التراث المغربي، من خلال نموذج اليوسي، فإنه يؤسس للمفاهيم الكبرى التي سيبنى عليها الكتاب، وذلك من خلال عين اليوسي رحمه الله؛ فالنقد عنده هو حصر عمل الناقد في الاحتكام إلى القوانين التي يتميز بها جيد الشعر من رديئه، وظاهرة الشعراء النقاد لا تعدو أن تكون عامل قوة في الأدب، وسواء انتصر الشعراء أم النقاد، فإن النص يفسر بين ذاتية الناقد ورؤية الشاعر، مهما كبر الجدل حول هذه الثنائية (الشعراء النقاد).
ويعمل الكاتب الحسين أيت مبارك على بناء المفاهيم الكبرى، أو القضايا النظرية – بتعبيره – التي يتأسس عليها خطاب اليوسي، وهي: مفهوم الشعر- اللفظ والمعنى- الصدق والكذب – القدم والحداثة – المنثور والمنظوم – الدفاع عن الشعر. والملاحظ أنها تتقاطع والنقد الأدبي القديم في المشرق العربي، خاصة في المقدّمة الأدبية للمرزوقي في شرحه لديوان الحماسة لأبي تمام الطائي؛ ولا غرو أن المغاربة تأثروا بالمشارقة في الخطابات الفكرية والإنتاجات الأدبية، وكان التلاقح بينهما قائما على المستوى الثقافي من جهة، وعلى المستوى الحضاري والتاريخي من جهة أخرى. وسنعرض تلك المفاهيم / القضايا على النحو الآتي:
مفهوم الشعر:
تعددت واختلفت وتنوعت تعاريف الشعر باختلاف المرجعيات والخلفيات والرؤى، والحال عند اليوسي أن مفهوم الشعر ينهل من عدّة مشارب حتى يُبنى، فهو علم، لأن الأدب على رأس العلوم، وهو من العلوم الفلسفية، لأنه كلام يبنى على الوهم والإيهام، ولأنه يتفيّأ ظلال المنطق، فإنه بلا شك فلسفي، ويناقش الكاتب في هذا المفهوم إشكالية علاقته بالفلسفة، فهو يطرح أسئلة مستفزة وعميقة، كما يعبر عن شواغل إنسانية وإشكالات فلسفية عديدة. ووجوه الاختلاف بينهما (الشعر والفلسفة) هي أن الفلسفة تفكير منظم وتأمل منهجي صادر عن العقل، بخلاف الشعر الذي لا يعدو أن يكون وهما وخيالا كما يقول رينيه ويليك، والفلسفة ترمي إلى القصد، والعكس عن الشعر، والفلسفة تقوم على النسق، والشعراء لا يدرجون أفكارهم في نسق عام. ومن جانب آخر، فإن علمية الشعر عند اليوسي تتأسس على ثلاث بنيات كبرى، الأولى تقتضي المعرفة العلمية بالعروض، والثانية تقتضي المعرفة بعلم النحو، والثالثة تقتضي وجود طبع (موهبة).
اللفظ والمعنى:
هذه القضية من القضايا الأكثر تعقيدا التي شغلت القدماء، كما يعتقد يوسف حسين بكّار، ولعل الملامح الأساسية لرؤية اليوسي إلى هذه القضية، تتشكل من خلال التحرز عن اللفظ الخسيس، بإخضاع الألفاظ إلى الانتحال الدقيق، حتى لا تنحرف عن سياقها، ثم التركيب والصياغة والانسجام بالإلمام بعلم النحو وعلم البلاغة اللذين لا مناص للشاعر من التمكن منهما، إضافة إلى سلامة المقصد ووضوحه، ويقدم الحسين أيت مبارك مقصدية اليوسي الكبرى المتمثلة في القيام بوظائف العبودية، ومثال ذلك داليته الشهيرة، التي كان الطريق إلى الله مقصدها المركزي ونفَسها المهيمن. إلى جانب هذا تأتي صحة المعنى، وتجنب الاستحالة والتناقض من جهة، ولا محدودية المعاني من جهة أخرى، ثم الوقوف بين مقتضيات النص والخلفية الاعتقادية، حيث جذب المنحى الصوفيُّ اليوسيَّ، وفرض عليه الاهتمام بالمعاني الباطنية.
شكلت قضية القدم والحداثة صراعا فكريا بين أنصار كلّ من القدم والحداثة، وكانت أسباب الصراع اجتماعية سياسيىة ودينية عقدية وفنية إبداعية؛ فالقدم هو الانصياع للتراث وتقبله والسير على منواله، والحداثة هي الانسلاخ من ترسبات الماضي والاهتمام بما يصدّره الغرب والانفتاح عليه بشكل لافت للنظر.
الصدق والكذب:
أُثيرت هذه القضية بإلحاح كبير في النقد العربي القديم، وتم التمييز من خلالها بين الصدق الواقعي والصدق الفني، والكذب الأخلاقي والكذب التخييلي؛ ومما يذمُّ في هذه المسألة هو، تسمية الممدوح بأسماء الله تعالى، عن قصد أو غير ذلك. وفي هذا السياق أيضا، يرى اليوسي أن أصدق بيت شعر قالته العرب هو قول لبيد بن ربيعة في الجاهلية: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل». ويرى اليوسي أيضا ـ في هذا الموضوع ـ أن الصدق في المثل ضروري، فإن أفضل المثل أصدقه وأحكمه وأوجزه. ويبيح اليوسي الافتخار والتمدح والمبالغة والتزيد والغلو، على الرغم من كونه يحثُّ على الصِّدق.
القدم والحداثة:
شكلت قضية القدم والحداثة صراعا فكريا بين أنصار كلّ من القدم والحداثة، وكانت أسباب الصراع اجتماعية سياسيىة ودينية عقدية وفنية إبداعية؛ فالقدم هو الانصياع للتراث وتقبله والسير على منواله، والحداثة هي الانسلاخ من ترسبات الماضي والاهتمام بما يصدّره الغرب والانفتاح عليه بشكل لافت للنظر. ولكن اليوسي، يؤثر النهج القديم على الحديث، وذلك من جهات البناء والأسلوب، ثم جهة اللفظ والمعنى؛ فبالنسبة لجهة إيثار النهج القديم على مستوى البناء، فإن اليوسي سار على النمط القديم من حيث الأسلوب والعبارة والتكثيف من الأمثال والتكثيف الاستعاري والبديعي، وصعوبة التشبيه والإحساس. أما من حيث إيثار النهج القديم من جانب اللفظ والمعنى فإن اليوسي يعتدل بين رقة الألفاظ الحضرية ونصاعة الألفاظ البدوية.
المنثور والمنظوم:
إن النقاش حول أسبقية النثر أو الشعر قد بدأ منذ مدة بعيدة ( مع الجاحظ في المشرق واليوسي في المغرب)، ويتفق أغلب أهل العلم أن النثر أسبق من الشعر، وهو أصل الكلام، لأن الإنسان احتاج إلى الكلام العادي للتواصل في ما بينه، ولما احتاج التعبير عن همومه وتخليد أفراحه وأتراحه عمل على صياغة فن من خلال الكلام، هو «فن الشعر»، ويميز طه حسين في النثر بين النثر المبتذل العادي الذي يستعمله جميع الناس في تواصلهم، والنثر الفني الذي ينتمي إلى حقل الأدب. أما رأي اليوسي ـ وهو المهم عندنا ـ فيحسم في هذه المسألة ويرى أن النثر هو أصل الكلام، بخلاف الشعر الذي لحِق به.
الدفاع عن الشعر:
ظهر الكثير من القادحين في الشعر انطلاقا من بعض المسوغات التي جعلوها أساسية في ذلك، ومن ذلك هجاء بعض الشعراء المخضرمين للرسول صلى الله عليه وسلم، أو مبالغة بعض الشعراء في المدح، والآيات 223 – 226 من سورة الشعراء والآية 68 من سورة يس. وللدفاع عن الشعر انطلق اليوسي من علاقة الشعر بالحكمة ووظيفته الاجتماعية وكذا إنشاده في المساجد في صدر الإسلام (عهد الرسول «ص»)، ثم تنوع وظائف الشعر ما بين التربية والتعليم ومعرفة الأنساب، وهو أداة لفهم القرآن والسنة.
٭ باحث مغربي
تبارك الله على هاته المعلومات المفيدة والمحفزة…