قفا نبك من ذكرى سجينٍ!

حجم الخط
1

«إنني لم أكن في يوم من الأيام من الساعين للمناصب على المستوى الشخصي، بل اعتبرت نفسي صاحب مشروع وطني استمد دعمه من شعب آمن به»، نُسِبت هذه الكلمات المضحكة المبكية إلى بشار الأسد، ونشرها موقع الرئاسة السورية على تلغرام، بعد أيام مما لا يمكن أن يوصف إلا بأنه هروب. ليس بشار الأسد أول ولا آخر ديكتاتور يفرّ من قصره ويترك وراءه بلداً دمّرته سياساته. لكنه لم يكلّف نفسه عناء إلقاء خطاب أخير وهو في سوريا يوجهه لشعب يدّعي أو يتوهّم أنّه «آمن به!». وجاء البيان متأخراً، لكن يبدو أن الرئيس كان منهمكاً بترتيب تفاصيل الهروب إلى موسكو التي أخفاها حتى عن الحاشية وأقرب المقرّبين.
ولم يعطِ البعضُ، السوريين ولو فسحة قصيرة للابتهاج بزوال كابوس الديكتاتورية الطويل، فسارعوا للإشارة إلى التحولات الجغراسياسية والترتيبات والصفقات الإقليمية والدولية، التي مهّدت الطريق إلى دمشق، وإلى السجل والماضي الدامي لأبي محمد الجولاني، الذي لا تخفي ماضيه، صورته وشخصيته الجديدة ولا اسمه غير الحركي المستعاد، وإلى أطراف ودول ستجني ثماراً سياسية واقتصادية وستستغل هذا السقوط والفراغ الذي سيعقبه لصالحها بالطبع. وكل هذه لا تجانب الصواب، لكن خطاب هؤلاء خلا حتى من إشارة بسيطة إلى معنى الحدث ووقعه بالنسبة للإنسان السوري، الذي عاش في سجن الديكتاتورية لعقود، والذي دمّرت سياساتها حياته وحاضره. اختزلت مقاربة وخطاب هؤلاء الإنسان السوري وألغت وجوده وماضيه والظلم والخراب اللذين عاشهما.

لم يعطِ البعضُ، السوريين ولو فسحة قصيرة للابتهاج بزوال كابوس الديكتاتورية الطويل، فسارعوا للإشارة إلى التحولات الجغراسياسية والترتيبات والصفقات الإقليمية والدولية، التي مهّدت الطريق إلى دمشق

ذكّرني هذا بخطاب كان رائجاً غداة غزو العراق، الغزو الذي كان كاتب هذه السطور ضده، كما كان ضد نظام صدام حسين، مع اختلاف السياق والظروف، إلا أن هناك قواسم ونزعة مشتركة، فلم يكن بمقدور الكثيرين، ممن يحسبون على اليسار، أن يقفوا ضد الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، من دون أن يغضوا النظر عن جرائم الديكتاتورية في الوقت ذاته. في تلك الأيام، وقبل أشهر من الغزو، وقّع المئات من المثقفين العراقيين في الشتات، ومن بينهم كاتب السطور، على بيان بعنوان «لا للديكتاتورية ولا للغزو» كان يحذر من مآلات الغزو والتبعات الكارثية على العراق والمنطقة. لا شك في أن الولايات المتحدة وحلفاءها من الأنظمة اللاديمقراطية في المنطقة، كانت وستظل، تستغل خطاب التحرر والثورة، وتجيرهما لمصالحها، بل تعمل كل ما في وسعها لتحويل الانتفاضات إلى حروب أهلية. لكن هذا لا يستوجب تبرئة الديكتاتوريات من سجلها الإجرامي وتنزيه الطغاة. كما أن جرائم وفساد الأنظمة التي تعقب الديكتاتورية، لا يمكن أن تستخدم كمساحيق تجميل لإخفاء أو تخفيف بشاعة ما سبقها.
قرأتُ كلمات بشار الأسد عن «المشروع الوطني» الذي يدّعي أنه كان صاحبه (هل «المشروع الوطني» شركة أو مزرعة يرثها المرء من أبيه؟) وأنا أشاهد على الشاشات السوريين والسوريات يبحثون عن أحبتهم الذين لم يظهروا ولم يعودوا، حتى بعد كسر أقفال الزنازين، وفتح الأبواب وإفراغ السجون والحفر بحثاً عن سجون أخرى سرية. وذكّرني المنظر بعراقيين بعيد سقوط النظام العراقي في 2003 انتظروا عودة المغيبين بعد إفراغ السجون وكان يخيل إليهم وهم يمشون في الشوارع أنهم يسمعون صرخات تستنجد بهم من تحت الأرض. لكن الغائبين، الذين لم يعودوا، كانوا قد أذيبوا، أو دفنوا في المقابر الجماعية. وآنذاك، كما هو الحال اليوم، كان الوقوف ضد الاحتلال الأمريكي يمنع الكثيرين من الالتفات ولو للحظة لآلام الأمهات اللواتي تعرّفن على عظام أولادهن وأزواجهن التي نبشت في المقابر الجماعية.
بعض الذين خرجوا من السجون في سوريا فقدوا ذاكراتهم بعد سنين من التعذيب. لكن يبدو أن المسؤولين عن سياسات الأخبار في الفضائيات العربية، يظنون أو يراهنون على أن المشاهدين أيضاً فقدوا مساحات من ذاكراتهم والقدرة على استعادة الماضي القريب. فهذا النظام الذي يبدو وكأنهم فوجئوا بممارساته القمعية وبسجونه ومقابره كان قد أعيد إلى «الحضن العربي» واستقبل بشار بحفاوة حين دعي إلى القمة العربية (وكلما سمعت عبارة «القمة العربية» تذكرت مظفر النواب: قمم قمم!). كما أن سجون هذه البلدان التي تحرص أنظمتها أيما حرص على حرية الشعب السوري ومستقبله تعج بمواطنين يقاسون أنواع العذاب والذل لأنهم حلموا بحرية التعبير وإبداء الرأي ونقد المسؤولين. فبعضهم، مثلاً، يقضي حكماً بالسجن لسنين لأنه كتب تغريدة.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة ملّيَّة سورياألمانيا:

    شكراً أخي سنان أنطوان. وهكذا أنا كنت ضد الإحتلال الأمريكي وضد نظام صدام. وعلى جمبع الأحوال كان بمكن تغيبر ذلك النظام المتهالك يًمها كما حصل اليوم في سوزيا . لكن على ماظهر كلن للإحتلال الأمريكي وشلة بوش من رامسفيلد وتشيني وولوفتش ومن حولهى مخطط أخر؟ بالطبع في سوريا التي تحررت اليوم من واحد أبشع الانظمة في عصرنا وربما على مدى العصور كل أملنا أن يكون يوم مشرق للحرية والعدالة لسوريا والعالم أجمع وهي فرصتنا الذهبية لتكون ثورة طيبة ناجحة لسوريا والعالم أجمع وإن شاء الله.

اشترك في قائمتنا البريدية