» قلم المرايا» للسعودي بدر الحمود… أفكار مؤفلمة

مرة أخرى يغامر المخرج السينمائي بدر الحمود بالتجريب في السينما الذهنية اللا روائية. أي في مدار ما يُصطلح عليه بالفيلم الملعون Maud it بالمعنى الجمالي للكلمة. حيث يتجاوز السرد البصري للفيلم حدود التواصل الطبيعي مع المشاهد فيستعصي على الجمهور والنقاد في آن براديكاليته التعبيرية. بالنظر إلى ارتفاع منسوب الإبهام والغموض والتلغيز وتدفق المعلومات وتشابكها. وهي عناصر لا تطرأ على سياقات العمل من خارجه للتشويق، بل تعمل في داخله كمكوّن بنائي. فبعد فيلم (كتاب الرمال) يعود إلى فيلم (قلم المرايا). وهي عودة محتّمة بنص خالد اليحيا الذي يجيد سبك الأحاجي الدرامية. وملاصقة الأزمنة المتباعدة والأمكنة المتخالفة في لوحة بانورامية تنهض على الكولاج.
وفيما استند فيلم (كتاب الرمال) على قصة بورخيس المعروفة، التي أعاد خالد اليحيا إنتاجها كنص من منظور ما بعد حداثي. يأتي فيلم (قلم المرايا) كنص خالص من عندياته وبمرئياته الذاتية. إذ يبتدع أفقه المعرفي المغاير، كما يبتكر خبراته الحسّية المتولّدة بالضرورة من وعيه ومقروئيته الشخصية للوجود. الأمر الذي أكسبه حرية أكبر للتحرك في المدارات الزمكانية. حيث بدا واضحاً أن اللعب الحر بمنظومة الأفكار، وتتالي الصور، بالإضافة إلى كثافة المفاهيم العاطفية تنحى مجتمعة نحو «الأفلمة»، وتنتظم كصورة من صور التفكير السينمائي. لتتقاطع مع ما يؤصل له جيل دولوز في الحقل المعرفي بثنائيات: الرؤية والقول، الضوء واللغة، الحسّي والذكاء.
على هذا الأساس انبنى المستوى الحكائي للفيلم. أي على محاولة لأسطرة سر خلود بعض النصوص الأدبية على مر التاريخ: قصائد العامرية وخطوط فيرمير وخطفات درويش الشعرية. حيث يعود السر إلى وجود قلم سحري منحوت من شجرة عرار من وادي عبقر، يمكّن من يمتلكه من كتابة النص القابل للخلود في ذاكرة البشر. أما المطمور في طيات النص/ الفيلم، فيندفن عميقاً في طبقات مفهومية تستدعي التأويل، بل تتراكم داخل معادلة من الحسابات والأرقام المرتبطة بالزمن، التي تستلزم تجسير الفجوات الوهمية ما بين الماضي والحاضر والمستقبل. فالمغازي مطمورة بعمق في طيات ما سماه بـ (ظلال البنفسج) و(همهمة الأرض) وما يختزنه جناح طائر الفينيق من ألوان وأطياف كاليدوسكوبية، ومرايا متعددة لثلاثين طائر في طيف واحد على جبل (القاف) بكل بمعانيها الرياضية والفلسفية والجمالية. التي تقود إلى فكرة الجمال الخالد.
ومن هذا المنطلق ابتنى بدر الحمود عالم الفيلم المرئي بشكل تركيبي لاستجماع ما بعثره خالد اليحيا من أفكار فارطة في المجازية والتشظي داخل خيط سردي قابل للتقصي البصري. وذلك من خلال ما يُعرف بالسينما المرنة التي تعتمد الصورة التقنية المطواعة. حيث بدت مهمته صعبه وهو يحاول الحدّ من الإندفاع والتدفق للأفكار بالإتكاء على منطق الصورة وضروراتها وكفاءتها التعبيرية أيضاً. ومن ذات المنظور تحركت الكاميرا. لرصد منطوق النص، وتوثيق حتى ظلال الأفكار، بل مضاعفة تأثيرها بسطوة الصورة. بمعنى أن الوسيط البصري الذي اعتمده لم يكن مجرد ناقل للأفكار بل يؤدي فروض التفكير أيضاً، ليوازن ما بين القول والرؤية. خصوصاً أن النص كألفاظ وكأفكار يحتل حيزاً كبيراً من الفيلم، فيما تتضاءل مساحة الأداء الدرامي. وبالتالي فهو يعاند فكرة النسخ البصري للملفوظات. وهنا مكمن الديالكتيك الذي تحرك بموجبه الفيلم.
السينما، وإن كانت مضخة للأحلام، إلا أنها خطاب ضد الفوضى. وهي لغة، ولكنها لغة لا تنهض على الكلمات، بل على نظامها السحراني الخاص. الأمر الذي فرض حالة من التحدي على العدسة لتطارد المقولات الفلسفية الكبرى التي يتلغّم بها النص. وتغوص عميقاً في ظلال البنفسج، بما هو لون إشكالي يختزن طبائع جدلية ذات بعد فكري في منظومة قوس قزح. كما تلهث وراء الرؤية الشمولية لدورة الأفلاك وتداعياتها. حيث يماهي الفيلم ما بين خط يونيوفرس Universe الذي هو بمثابة خط الرقعة في اللغة الإنجليزية، وبما يحمله من دلالة كونية شمولية وحضورية في كل مكان. مع جدل المراوحة ما بين الشعرى اليمانية والجوزاء. حيث يستهل سارد الحكاية (تركي الجلال) الفيلم بمحاولة لاستعادة صداقة مهزوزة مع الحياة، حسب قوله، من خلال موضعة ذاته في متاهة الوساعات الكونية.
كل ذلك التمادي في التعتيم، والتشظي في الأفكار، فرض على عدسة/ رؤية بدر الحمود أن تتحرك بين طبقات النص بحساسية فنية أقرب إلى فتل أليافه الخفية. بحيث ترسم مستوياته البصرية بشكل يتناسب مع التنوع المفهومي الذي يكتنفه، والتمايز الجمالي ما بين برازخه. فالمقولة الفلسفية تتطلب لقطة خاطفة وصاعقة على عكس المشهد الفلكي الذي يحتل مساحة مرسلة ومفتوحة في الشريط البصري. وهذا هو ما لامسه الفيلم ببراعة. تماماً كما اندست موسيقى (غيا ارشيدات) في ثنايا تلك العوالم برهافة، إلى جانب النقلات الشاعرية الناعمة للمونتاج بين المشاهد واللقطات. حيث كانت فتحة العدسة تتعامل مع المشهد الكوني بإيقاع أبطأ وأرق من تعاملها مع اللقطات التفصيلية الخاطفة، كما كان الإنتقال بين عوالم الليل على درجة من الإنسيابية والرهافة. إذ كانت العدسة تعمل كمصباح لإضاءة النص، فتتنقل ما بين مستويات فكرية جدلية، أكثر من كونها مجرد مترجم بصري لنص بالغ التعقيد.
الفيلم مكتوب أصلاً بعقل سينمائي. وهو لا يعرض قصة بقدر ما يستفز مكامن الفُرجة الواعية. إذ يستهدف كلعبة إيهامية دفع الذات الإنسانية إلى حافة (اليوركا). بحيث يصرخ الإنسان عند انهيار جدران الوهم (وجدتها … وجدتها). ولذلك أفصح الفيلم عن مراداته منذ اللقطة الأولى، مستعرضاً حيرة الكائن على حافة الوهم والحقيقة. وهي النقطة التي يستأنف فيها الفيلم تساؤلاته وحيراته (ليست كل الأكاذيب حقيقة، كما أنه ليست كل الحقائق قد حدثت بالفعل). الأمر الذي يطال حتى ماريو نفسه، ذلك الكائن المتخيَّل الذي استزرع لغز قلم المرايا، ولم يعد موجوداً إلا من خلال طيفه الشبحي، وما يرويه عنه روبرت (ابريك روبرتس). فهذا القلم موجود داخل متاهة وعرة. فتارة يتخيل امكانية العثور عليه بحل المعادلة الرقمية لقوس قزح، وتارة بتفكيك مغزى تنضيد الكتب على الرفوف. وأحياناً يلجأ إلى الكتب المقدسة فيتصور أن الوصول إلى القلم، برأيه، سيكون عبر بوابة الليل. لأن الليل في القرآن يأتي دائماً قبل النهار. كما جاء في الإنجيل أن الكلمة جاءت قبل الضوء.
ولأن النص معني بفكرة خلود الأثر الإنساني. المتمثل في جانب منه بالإبداع الفني والأدبي، حاول في شكله المؤفلم، بجرافيك (وائل الحامد) المشتقة من الفوتوغرافيا والخيال الرقمي تحديداً، مفهمة معنى ومقصد الرقاقة المعدنية المطلية بالذهب، التي حملها المسبار فويجر عام 1977 أثناء رحلته لتصوير المشتري وزحل. فهذه الرقاقة التي تختزن رسالة مشّفرة إلى كائنات ذكية، يراد منها أن تُلتقط ليتعرف علينا أولئك، إن وجدوا. حيث تم تخزينها في اسطوانة مكسوة بعنصر اليورانيوم الذي يضمحل بشكل بطيء، يمتد لأكثر من ستة مليارات سنة. وهي مرشحة للعيش ملايين السنين ضد الصدأ، وستمضي هائمة في الفضاء إلى أن ينتهي وقود الشمس. بمعنى أنها رسالة إلى الآخرين تتحدث عن تفاصيل حياتنا تفكيراً وسلوكاً. إذ لم تحل الصورة أثناء سرد ذلك المشهد محل الكلمات، بل كانت تصاحب النص لتصبح كياناً قوياً مستقلاً بذاته. لا تنفصل عن السياق الذهني للفيلم بل ترفده بقوة الإبصار. وتنقش مراداتها الضوئية فيما وراء الزمان والمكان.
إنها رحلة طويلة ومضنية من التطواف الكوني لسارد الفيلم تركي الجلال، الذي أدى دوره بكفاءة عالية، في العلامات المرئية والخفية لقلم المرايا بصور سينمائية خالصة ومتخفّفة من العقلانية التي فرضها نص منذور لسرد شاشة العقل. حيث دخل السارد بعينه الذهنية متاهة خواص الكتب المنقرضة، وإغواءات سلسلة الكتب الخالدة، إلى أن إهتدى إلى كتاب (المخلوقات الوهمية) لخورخي بورخيس. الخالي من الرموز. حيث بدا عنوانه غارقاً في السخرية. وكأنه يُسلمه الحل الأمثل لتبديد خيباته. إذ لا وجود أصلاً لقلم مرايا، وحتى ماريو ينطبق عليه وصف المخلوق الوهمي. وأن روبرت قد خدعه بوهم مغلف داخل قصة مسبكة الصنع. وهذه هي طبيعة الإنسان الذي يمكن أن يصدق أي شيء، حتى لو كان وهماً، إذا ما تم وضعه داخل غلاف جذاب، حسب منطق الفيلم. وهذا هو منطق السينما التي تقدم أفكاراً شاعرية فضفاضة، أقل صدقية وانضباطاً من الفكر ذاته.
أما هذا الوجود الغامض فلا يمكن فهمه إلا بإجادة الإصغاء إليه. والبحث الحفري عن الحقيقة والجمال والخير داخل الكتب. لأن الفيلم/ النص بيان مُعلن لتمجيد القراءة. ومن ذلك المنطلق جاء الشكل السينمائي للنص، بوصفه حالة تأملية سردية غير تقليدية في الزمن الموضوعي. امتزج فيها الشكل بالموضوع، وصار أسلوب العرض أو السرد جزءاً من الحدث. فالتفكير الجواني تحول إلى صور مرئية ومسموعة بتواتر سريع. أي حين وجد السارد نفسه في المكتبة. في كتبها. في رفوفها، وتلافيف الصفحات التي لا يعبأ بها أحد. تلك التي تعلم منها كيف يقرأ من جديد. فكل من يسعى وراء المعارف سيمتلك قلم المرايا.
هنا وجد السارد نفسه، وأمتلك الحكمة من جديد. وصار يطير وراء الحمائم من جديد. وأنشد نشيد خلاصه من وهم قلم المرايا بقلم حقيقي (سأكون أنا القلم حين أرى كل قصة أقرأها تمثل قطرة في مدادي. كل صفحة أتأملها. كل رحلة أقضيها مع السندباد. وكل لهاث وراء أليس. وكل حكمة لكليلة. قهقهات زوربا. ورجفات أورليانو. وخيبات جاروميل. ووساوس أورهان. حين أكون هاملت. وشهرزاد التي تشتري أيام حياتها بالمزيد من القصص. أنا المرايا وأنا قلمها .( إن التفكير السينمائي لبدر الحمود هو الذي أضفى على نص خالد اليحيا بعض الروحية والمرونة. ووهبه كينونته السينمائية. باستخدامه المرهف للمؤثرات الرقمية. وبإنزاله لتلك الأفكار الروحية المتمادية من عليائها إلى أرض الواقع. إذ لا يحتوي الفيلم على لقطات بشرية تُذكر، مقابل ما يزدحم به من لقطات فائضة بالظواهر الكونية المشيأة. وكأنه يكتشف تفسيراً بصرياً مؤانساً لما وراء تلك الأفكار ولمقاصده الدرامية. بمعنى وضع حزمة الأوهام المكدّسة في تلابيب النص داخل شريط سينمائي يفيد الحدوث الآني. إذ يثير الأسئلة ولا يحتكم إلى إنضباطية الأفعال المضارعة التي يسبغها دولوز على الأفكار. فالمثيرات الحسّية هنا ضرورة من ضرورات تدفق السرد البصري. كما هي شرط من شروط توحيد الصورة بالمفهوم، ومواءمة الحقيقة بالقيمة. حيث يتقدم الفيلم خطوة أخرى ناحية المفاهيم والأفكار وقراءة علامات النص وظلاله ويحول كل ذلك التجريد إلى منظومة من الصور الدالّة وسلسلة من المنظورات المشوّقة.

٭ كاتب سعودي

محمد العباس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية