صورة لجدار مرسوم عليه المخلوع بشار الأسد في حي القدم في دمشق. 26 مارس 2025. رويترز
كان لدينا أمل كبير، مع سقوط نظام المخلوع بشار الأسد، بامتلاك هامش هائل من حرية القول، فقد كانت الوظيفة الأولى للنظام الجاثم على منطقة تتسع لتشمل كل دول محور الممانعة، ولا نبالغ بالقول إن منطقة نفوذه امتدت لتصل إلى كل مكان فيه عرب، سوريون، فلسطينيون، لبنانيون، وعراقيون.. فقد نسج، بمعية طهران، أحزاباً عابرة للقوميات والطوائف، قبل أن نتعرّف مع الأيام على جيوش إلكترونية وذباب.
ومن البديهي تَصوُّر أن سقوط هذه الشبكة المعقدة، وانفكاك خيوطها، سيجعل القول ممكناً، بل إن الحياة نفسها ستكون أكثر رحابة بمختلف شؤونها. سيكون بالوسع أن يقول المرء كلمته بخصوص أي قضية في الكون من دون أن يرتعد إزاء اتهامات التخوين وإيهان نفسية الأمة.
لو تسنى لسكان الفضاء الافتراضي الأزرق الوقوف مرة وجهاً لوجه بسلاح أبيض لشهدنا أكبر مذبحة في التاريخ. وإن كان لديهم برلمان لأكَلَ بعضُهم آذان البعض الآخر
غير أن ما يحدث اليوم من تجييش يبدو «أدق رقبة»، فإن كان مفهوماً أن يكون جلادوك في السابق من مؤيدي النظام الممانع، فلا يصدّق اليوم أن رافعي السيوف هم ممن كانوا إلى جانبك في خندق مناهضة نظام القهر والتسلط، ينتهجون الأساليب ذاتها من المهاجمة والاتهامات، وأقلها سياط التهكّم. كنت تفترض أن ما من خلاف عظيم سينشأ بعد سقوط النظام، فالكل متفقون على بناء بلد تسوده العدالة، والديمقراطية، وحرية القول، والصراخ، والتظاهر، والمطالب.. فواضح أن الجوع للصراخ سابق لكل ما عداه.
اختلفنا أولاً على أشياء بسيطة، من المفترض أنها لا تفسد الاتفاق المبدئي على أولوية البناء، مثلاً لماذا يظهر علمٌ فصائلي في اجتماع الحكومة، فقال السيّافون أعطوهم وقتاً، وحين ظهرت الحكومة بعلم الثورة، لم يعتذروا، بل قالوا: أرأيتم! إنها مسألة وقت فقط.
ثم على المناهج التعليمية للمدارس، وقد تجرّأتْ الإدارة الجديدة على تغييرات هائلة من شأنها أن تذهب بالبلاد فوراً إلى نظام طالبانيّ الطابع، فداهمنا «رفاق الدرب» بالتكذيب، وأن شيئاً لم يعدّل، وعندما وضعت التعديلات في وجوههم، بل وسارعت الحكومة نفسها إلى التوضيح وما يشبه التراجع، تصرفوا وكأنهم غير منتبهين.
إلى أنْ وصلَ الخلاف على انتهاكات واعتقالات ثم مجزرة، وما صدّقَها أحدٌ إلى أن اعترف رئيس البلاد شخصياً بانتهاكات، وشُكّلت لجنة تحقيق، ومع ذلك اعتُبر الاعتراف كافياً لرمي المسؤولية في مكان آخر، وكفى الله السوريين شرّ القتال من أجل العدالة.
مختلفون اليوم على كل شيء، على فيديو لدريد لحام عابراً مطار دمشق الدولي، وصراخ سيدة أمام محافظ السويداء، وعلى محافظ السويداء نفسه، وإن كان يحمل شهادة دكتوراه حقاًُ أم لا، على تعيين مجالس نقابية (كنقابة الفنانين، واتحاد الكتاب العرب، ورئيس نقابة التشكيليين)، حول تسريحات الموظفين، ثم إعادتهم، مظاهر الإفطار المعلنة في رمضان، المسلسلات التلفزيونية، طول لحية الرئيس، ملابس زوجته، ويزيد الشقاق ليتسع في أمكنة أكثر جوهرية؛ الإعلان الدستوري، شكل الحكومة الأخيرة، مدى التمثيل فيها. وعندما يصل الخلاف على المناطق الخارجة عن السيطرة، السويداء، ودرعا جنوباً، وشمال شرق الفرات، والساحل السوري، سيتخذ الصراع شكلاً أكثر دموية، ولو تسنى لسكان الفضاء الافتراضي الأزرق الوقوف مرة وجهاً لوجه، بسلاح أبيض، أو من دونه، لشهدنا أكبر مذبحة في التاريخ. وإن كان لديهم برلمان لأكَلَ بعضُهم آذان البعض الآخر.
ولن نزعجكم بخلافات جانبية، داخل البيت السني العريض، من قبيل أن المسبحة بدعة، وشرب الماء على القاعد، أن يسألك المسؤول الجديد في استمارة العمل ما هو مرجعك الديني، إلى تغيير كل طواقم المساجد، والإتيان بطواقم من خارج البلدة أو المدينة والقرية.
كما لا ننوي التطرق إلى أشكال من المزايدات لا حصر لها، في كل شيء، فإن كنت ضد النظام السابق سيأتيك من يطالب بأن تكون ضده أكثر فأكثر، وإن كنت مع الإدارة الجديدة، وهذا بديهي إن كنت مع الثورة في الأساس، فسيأتي من يطالبك أن تكون معه أكثر فأكثر، وسيكون له تفسيره الخاص، إذ عليك أن تتحول إلى «شبّيح» مستجد، فإياك أن تنتقد تعديلاً في منهاج، أو وزيراً في المكان الخطأ.
كل شكل من الانتقاد سيعني أنك في قائمة الفلول، وهذا اسم مستجد لإيهان نفسية الأمة، والأسوأ أن هناك من ينتظرك على هذه الضفة أيضاً: عليك أن تنتقد على طريقته هو، كما يريد حزبُه، معلّموه، عليك أن ترى الأمور بعينه هو، وتكتب على مزاجه. يعاني الكاتب، الصحافي، على الدوام ممن يريده نوعاً من «ما يطلبه الجمهور». يحدث أن يصحو امرؤ على فيديو ما، مثلاً عن مآسي أهلنا في مخيمات اللجوء (المأساة المستمرة والمحزنة بدون أي شك)، هكذا يروح الأخ يرى في مأساة المخيمات أولوية للكتابة، وفي كل من لا يكتب عنها خائناً للقضية. ثم يصحو آخر، أو قد يكون هو نفسه، ليستصبح بفيديو عن لقاء ناشطي السويداء بالمحافظ، أو ممثل الحكومة، سيتأثر بشدة، وستصبح قضية الانتهاكات والمعتقلين والحريات أولوية، بل وتحديداً عبر لقاء الناشطين بالمحافظ، ويجب على مانشيتات الصحف غداً أن تنطق كلّها بصوت واحد عن القضية، وقد يحدث أن تُروى للسيد المُزاوِد حادثة اعتداء على محل للمشروبات الروحية في باب شرقي، أو تحطيم تمثال في مدينة ما، فيصبح هذا الأمر أولوية الأولويات، وويحك إن لم تقل، أو تكتب.
كل شكل من الانتقاد سيعني أنك في قائمة الفلول، وهذا اسم مستجد لإيهان نفسية الأمة
إذن هل كنا حقاً نناضل من أجل الحرية والخلاص من ربقة الاستبداد وسيوف الرقابة والمنع أو الإكراه؟ أم هي مجرد رغبات الانتقام من نظام دموي متوحش، أفضت إلى مواجهات لوّثتنا بأوحال ليس من السهل الخلاص منها؟
أياً كان الدافع، فلقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، لنجد أنفسنا فوق أنقاض «وطن دعائمه الجماجم والدم، تتحطم الدنيا ولا يتحطم»، إلا إنْ آمنا بالفعل بأننا جميعاً شركاء في العيش، ولا سبيل إلى الحياة مع كل هذه السيوف والسياط المرفوعة، إلا إذا آمنا بأنه لا بدّ أن أدفع حياتي، وتدفع حياتك، من أجل حرية كل منّا في قول رأيه.
العيش في ظل عقود مديدة اختُرع فيها كل هذا الظلم والقهر والقمع يجب أن يعلمنا التسامح وتفهّم الرأي والمطلب وأشكال الاحتجاج. ولا نعني على الإطلاق بالتسامح القول عفا الله عمّا مضى، نرجوكم ألا تتسامحوا مع أصغر ارتكاب وإساءة سابقة تستحق العقاب، ولكن دائماً تحت سقف القانون وأقواس العدالة. ولكن ما يفعله سوريون كثر اليوم ليس سوى التنكيل بعضهم بالبعض الآخر، في ما يبدو أنه تجسيد لعبارة «إما أن تكون معنا، أو أنك ضدنا»، ولا خيار لك بالاصطفاف.
يلزمنا جميعاً بعض دروس حقوق الإنسان، الاطلاع على المواثيق المهنية، ومن أهمها مواثيق الصحافة والإعلام، من دون التحايل عليها بحجج مزيفة استخدمها النظام البائد، وتستمر باستخدامها الأنظمة الديكتاتورية، من قبيل خصوصيات محلية وثقافية ودينية، فالحرية هي الحرية، وسوريا ليس لديها الوقت للتثاؤب والمطمطة، أو التجريب.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»
كما انك بموالح بالتعبير، القراء ايضاً لهم نفس الحق.
الحياة جدل بين الذوق والتذوق…
الحقيقة بحث وليس وصول…
في زمن إنقراض القاريء الكبير، فإن “القراءة الشفهية” المنتشرة في زمن مواقع التواصل صوتا وصورة، لا تساعد على تنمية مهارات التفكير النقدي وقبول الإختلاف… الإنسان الحصيف يستطيع تمييز دقة وجودة الرأي المطروح أمامه وذلك حسب ما يلمسه من موضوعية ومصداقية وتجرد بعيدا عن الذات وعن مصالح الأنا وعن الإنحياز المتعمد والغير متعمد… والحكيم هو من يتفحص الحجة ويبحث عن الدليل… الحقيقة ثمينة جدا، وهي لمن يبحث عنها، فالأشياء الثمينة لا يتم إلقائها على الحشود…
على الأغلب الموضوع فني و علمي ، مثلا في علم الادارة من المهم الاحتفال و الابتهاج بالانجاز و تجنب حرق المراحل، الانتقال من مرحلة لأخرى بدون توقف عموما غير مرغوب ويؤدي الى ردود فعل، في أوروبا يحتفل الموظفون بأصغر الانجازات فما بالك بما حصل في سوريا، الناس مازالت في نشوة حسب استطلاع مجلة الاكونومتس وخصوصا في سوريا ، القفز و تجاوز المراحل ينظر اليه بشكل سلبي …. يمكن البحث في الموضوع على النت أكثر ،
نحن لسنا ضد من ينتقد التصرفات الخاطئة ولكن عليك ان تعذرنا اذا كنا نحاول ان لا يتكرر في سورية المحررة
المشكلة ان البعض يلوم ردة الفعل وينسى الفعل الذي ادى الى ردة الفعل الى درجة انه يترك لدى المتلقي شك بانه كان يترصد الامر للبحث عن ثغرة يدخل من خلالها لبث ما يعتلج في صدره
الحرية مفهوم هيولي، تفتقت عليه ميولنا لما قرأناه بسطحية في تلكم المواثيق غير الواقعية. وما عسى الكاتب يقول، بلا مواربة، في اعتقالات تحدث في بلد الحريات باسم معاداة السامية؟ إننا لن نكون ملكيين أكثر من الملك. وإننا لنظلم طالبان حينما ننمط المفاهيم، فتجربتها “البدوية” تستحق أن تدرس بعمق وحكمة، فـ (ما في البداوة من عيب تذمّ به… إلّا المروءة والإحسان بالبدرِ)، كما قال الأمير عبدالقادر الجزائري.
من ضمن معيقات وصول الأفكار الجيدة الى ذهنية العوام هي ضحالة مستوى خريجوا الجامعة من الثقافة… والثقافة هنا بما تعنيه من مستوى المعرفة خارج حقل الإختصاص، والمعرفة خارج حقل الإختصاص بما تعطيه من توسيع لمستوى إدراك طبيعة وجوهر الأزمات ومن تطوير وإرتقاء بمهارات وأنماط التفكير، ومن تحفيز على الرغبة بإحداث تغيير الى الأفضل وحرص على تبني أفضل الافكار والمقاربات…
لعبت وسائل التواصل دورا في تسطيح أنماط التفكير لدى قطاعات واسعة من المجتمع… وصار الكثيرون ينطبق عليهم المثل الشعبي المصري القائل “لبلب في الكتوبة، وميعرفش سر الحسوبة”!!!…
تصحيح:
ضحالة مستوى خريجو الجامعات من الثقافة!…