كاروسو: عندما يتحول المطرب إلى أغنية

من أجمل الأغنيات الإيطالية التي يمكن الاستماع إليها، أغنية كاروسو Caruso، التي قد يظنها المرء للوهلة الأولى أغنية أوبرالية، أو آريا من الآريات، عندما يسمعها مثلاً بصوت بافاروتي، أو غيره من كبار مطربي الأوبرا، لكنها في حقيقة الأمر أغنية معاصرة، كتبها ولحنها وغناها بصوته، المغني والموسيقار الإيطالي لوتشيو دالا سنة 1986.
منذ ذلك الحين ولأسباب متعددة، صارت هذه الأغنية من ريبرتوار مطربي الأوبرا، من أصحاب صوت التينور على وجه الخصوص، وغيرها من الأصوات الرجالية والنسائية. ولعل شهرة أغنية كاروسو الواسعة، جاءت من خلال مطربي الأوبرا في الأساس، وكذلك سماعها الأكبر الذي تحقق من خلال أدائهم المتكرر لها، واعتزازهم بها وحرص كل تينور على أن يغنيها بصوته، وأن يعبر عنها بإحساسه الخاص، على الرغم من أنها أغنية معاصرة، وأن هذه الأصوات اعتادت على غناء آريات قديمة للغاية، تم تأليفها وتلحينها في قرون سابقة. لكن هذه الأغنية الساحرة فيها ما يجعلها تصل مباشرة، إلى قلب مطربي الأوبرا قبل غيرهم من المطربين والمستمعين أيضاً.
هذا من ناحية الموضوع، أما لحنها فإنه يمنح مطرب الأوبرا القدرة على الانطلاق بالصوت، والارتفاع بطبقاته والامتداد بالكلمات المغناة، بما يراه من تنغيم وتقطيع ووقفات. يستطيع مطرب الأوبرا أن يفعل كل ذلك، دون الحاجة إلى ليّ عنق الأغنية، ووضعها قسراً وجبراً داخل الإطار الأوبرالي، بلا أي اهتمام أو التفات إلى مسألة فقد الأغنية لجمالها ورونقها ومتعة سماعها، فاللحن شديد المرونة وكذلك المقاطع الغنائية، بشكل يتيح للأغنية التجدد الدائم، ولكل مطرب أن يضع بصمته الإبداعية عليها، ويطبعها بطابعه الفني الخاص.

التينور الإيطالي العظيم

تحمل الأغنية عنوان كاروسو، وكاروسو هو اسم مطرب الأوبرا الراحل، التينور الإيطالي إنريكو كاروسو، الذي عاش في الفترة من سنة 1873 إلى سنة 1921. يعد كاروسو مثلاً أعلى لكل مطرب أوبرا، ولكل تينور أتى من بعده، ويعد اسمه مرادفاً لقمة شاهقة من قمم الغناء، وأعلى درجاته ومراتبه، كما لو أنه لا يوجد شيء بعد كاروسو، أو شيء أفضل من كاروسو. فهو بحق صوت أوبرالي عظيم خالد، من الأصوات التاريخية في عالم الأوبرا، فمن المؤكد أن هناك عظماء سبقوا كاروسو، وربما تعلم هو منهم وكانوا مثلاً أعلى بالنسبة إليه، لكننا لم نستمع إلى هؤلاء المطربين، ولم نتعرف على أصواتهم، وعلى أساليبهم في الغناء، بينما استطعنا أن نستمع إلى كاروسو الذي لحق زمن تسجيل الأسطوانات، وله الكثير من التسجيلات الغنائية في مطلع القرن العشرين، وكان هذا من حسن حظ كاروسو نفسه، ومن حسن حظ المستمعين أيضاً في كل زمان ومكان، وميزة كبرى حققت لكاروسو الخلود الفني الفعلي على أرض الواقع، والحياة المتصلة لصوته الذي ظل مسموعا بعد موته، لا مجرد الخلود المعنوي على صفحات الكتب وأوراق التاريخ.

في فيديو الأغنية نرى البيانو في جناح الفندق، وفوقه صور كاروسو وزوجته وطفلهما الرضيع في تراس الفندق، كما نرى صوراً أخرى لكاروسو بملابس الشخصيات الأوبرالية التي جسدها على المسرح.

على مدى سنوات طويلة عاش كاروسو في عالم الأوبرا، وتقلب بين أشهر الشخصيات الدرامية، التي تواجه الأقدار والفجائع والمصائر المؤلمة، وقصص الحب المستحيلة التي تقضي على ضحاياها من العشاق، وغنى بصوته معبراً عن أعماق تلك الشخصيات، وأدق مشاعرها في لحظات الحب الشفيفة، وفي أوقات الصراع والحروب والتصدي للأعداء، وكذلك في لحظات الانهزام والوقوف وجهاً لوجه أمام الموت، وغير ذلك من المواقف الدرامية التي تمتلئ بها الأوبرا. بعد حياة شاقة ومسيرة فنية صعبة، استطاع كاروسو القادم من أسرة بسيطة، أن يقف أخيراً على المسارح الإيطالية، مسارح الأوبرا بمكانتها الرفيعة، وجمهورها الأنيق صاحب الثقافة العالية، ويمكن القول إن إيطاليا هي بيئة الأوبرا الطبيعية وموطنها الأصلي، على الرغم من وجود ريبرتوار أوبرالي مهم في بلدان أوروبية أخرى، كالأوبرات الألمانية والأوبرات الفرنسية على سبيل المثال، لكن يظل لإيطاليا شأن آخر مع الأوبرا، فمنها جاء أعظم المؤلفين والملحنين والأصوات، وأساليب وتقنيات الغناء أيضاً. بقدر ما امتلك كاروسو مسارح إيطاليا وأوروبا، بقدر ما تعرّض إلى مجموعة من المشكلات، التي كانت سبباً من أسباب ذهابه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أوبرا متروبوليتان على وجه التحديد. هناك كان الاحتفاء على أشده بهذه الثروة الفنية الثمينة، وقام بتسجيل العديد من الأسطوانات، وربما كان أول تينور أو مغني أوبرا يصل صوته إلى الجمهور، عبر الإذاعة في أمريكا.

كان كاروسو متمكناً من أساليب الغناء الأوبرالي، وعلى رأسها أسلوب البيل كانتو، وكان صوته عظيماً في اللون الشاعري واللون الدرامي على السواء. والمعروف أن صوت التينور هو الصوت الرجالي الجميل القوي، الذي يمثل البطولة ومركز الدراما في الأوبرا، يوهَب الفنان هذا الصوت، لكن يكون عليه أن يصقله ويقويه، بالجهد المستمر بلا توقف، والمواظبة على التدريبات الصوتية، فكما أن الرياضي لا يتوقف عن التمرين حتى لا يفقد لياقته الجسدية، كذلك التينور يجب أن يداوم على التمرن والتدريب، حتى لا يفقد لياقته الصوتية وقدرات حنجرته. صار كاروسو مرجعاً يعود المرء إلى تسجيلاته ليعرف كيف غنى التينور العظيم هذه الآريا أو تلك، ولا ينكر فضله كبار مطربي الأوبرا في العالم، الذين تعلموا منه الكثير، وإن صنع كل منهم أسلوبه الخاص وطابعه الغنائي المميز، وبصوته نستطيع أن نستمع إلى أجمل الأغنيات والآريات، مثل O sole mio، Una furtiva lagrima، La donna è mobile، E lucevan le stelle.
تناول لوتشيو دالا في أغنيته الأيام الأخيرة في حياة كاروسو، التي قضاها في صحبة آخر زوجاته التي تصغره بعشرين سنة، تلك الأيام قضاها في أحد الفنادق الإيطالية المطلة على البحر. ولا يزال جناحه الخاص في ذلك الفندق محتفظاً بذكرياته، وتحول الجناح إلى ما يشبه المزار السياحي والثقافي. ذهب لوتشيو دالا إلى ذلك الجناح، وقام بتصوير أغنيته هناك، فنرى المكان الذي تذكره الأغنية، والتراس المطل على البحر، الذي يقف فيه مع زوجته، ينظر إلى أضواء السفن من بعيد، ويتأمل سيرة حياته بأكملها ورحلته إلى أمريكا، والعمر الذي قضاه على المسرح، من أوبرا إلى أوبرا، حيث الدراما المختلقة والماكياج والأزياء. تبكي الزوجة ويدمع هو أيضاً ويتأثر صوته، ثم يغني ويقول لها إنه يحبها كثيراً، كثيراً جداً، هذا الجزء الذي يعبر فيه عن حبه لها، هو المقطع المعاد في الأغنية، وهو مقطع شديد الجمال، يبدع في غنائه كل تينور بطريقته الخاصة.
في فيديو الأغنية نرى البيانو في جناح الفندق، وفوقه صور كاروسو وزوجته وطفلهما الرضيع في تراس الفندق، كما نرى صوراً أخرى لكاروسو بملابس الشخصيات الأوبرالية التي جسدها على المسرح. تبدو الأغنية جميلة في كل نسخها بداية من النسخة الأصلية، وتعد نسخة بافاروتي من أقوى النسخ بلا شك، وقد شارك بافاروتي لوتشيو دالا في أدائها على المسرح، وتبادلا غناء المقاطع معاً. وهناك نسخة بوتشيللي وفنسنت نيكلو وخوليو إغليسياس، وكذلك لارا فابيان وهي من أجمل الأصوات النسائية التي قامت بأدائها، وبما أن لحن أغنية كاروسو فيه من التعبير الموسيقي، ما يجعلها مقطوعة موسيقية بحتة تُسمع وحدها دون غناء، يحرص أشهر العازفين على أدائها أيضاً، كعازف التشيللو الشهير هاوزر، الذي قدم منها نسخة بديعة على أوتار التشيللو.

كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابن الوليد. المانيا. (على تويتر ibn_al_walid_1@):

    شكرا مروة على هذه الفسحة في Bella Italia.. 👌
    .
    لمن أراد التعرف على أغنية المقال وبطل الأغنية الرابط:
    .
    https://youtube.com/watch?v=JqtSuL3H2xs&feature=shared

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا لك ابن الوليد

  2. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    ادا سمحتم لنا نضع فقط كلمة قصيرة جد ا وكدالك الكاتبة المحترمة صلاح متولي شكرا لكم ولها نحن سبق لنا ان قلنا من يتعمق في قراءة التاريخ الفني قديمه وحديثه يرى العجب يعرفه التاريخ الفني بأسماء مثل النجوم أبدعت أما في الموسيقى وأما في الغناء وأما في المسرح وأما في السينما نحن نستمع لا ا غاني عربية وشرقية فقط فليست عندنا اللغة لايطالية فلم يسبق لنا ان استمعنا للاغاني لايطالية ونقول أخيرا لكل شعب مغنوه ان صح التعبير شكرا لك صلاح متولي على المجهود الفني فنحن من ضعف لايمكن ان نعرف كل شيء وأذكر الكاتبة بأن لاتنسى الموسيقار المغربي احمد البيضاوي صوت متميز .

  3. يقول قلم الرصاص:

    غير الخفي ان الايطاليين يمجدون فنهم و فنانيهم و لا عجب ان يرتقي مجد كاروسو في اغنية خالدة بعد موته

    تناوب على اداءها كبار المطربين , شخصيا سمعتها اول مرة بصوت خوليو اكلسياس في زمن انتشار اغانيه و تعرفت

    على بعض اغاني كاروسو موقعة على اوتار آلة المندولين فعديدة هي عناوين معزوفات راقية لكبار العازفين الطليان

    و غيرهم تحاكي اغانيه الخالدة تحياتي

    1. يقول قلم المداد:

      صديقي قلم الرصاص
      سمعت الأغنية بأصوات عديدة بمن فيها خوليو إغليسياس
      ولكني لم أجد أجمل من صوت لارا فابيان
      إليك عينة مثلا
      https://www.youtube.com/watch?v=AYJb1vI-xMc

    2. يقول مروة صلاح متولي:

      في إيطاليا والغرب يعتزون بفنونهم طبعا ويحافظون عليها ويحافظون على كل شيء البشر والشجر والحجر لا يمارسون الهدم داخل بلادهم

  4. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    عودة ادا سمحتم لنا شكرا لكم وكدالك سيدتي الكاتبة الباحثة بلغة الفن أسمحي لي سيدتي ونحن نلح عليك بأن تكتبي عن احمد البيضاوي الموسيقار المغربي وأقول أيضا بأن من المغنيين الغربيين المتميزين من يستمعون للاغاني العربية المتميزة جد ا رغم انهم لايفهمون اللغة العربية لكن النغمات الموسيقية التي جمعت بين النغم العربي والنغم الغربي أي النوطة ان صح التعبير شكرا وكدالك على سعة الصدر ومع احتراماتي للاخوة القراء

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      سوف أكتب عنه إن شاء الله.. شكرا جزيلا لك

  5. يقول هيثم:

    مقال ممتع يتضمن عبق الموسيقى و حلاوة الغناء و نفحة التاريخ و غزارة المعلونات ناهيك عن دقة التحليل و جمال التعبير. لا يسعني الا أن أرفع القبعة عاليا للدكتورة مروة متولي . مع جميل الشكر و التقدير.

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا جزيلا أستاذ هيثم. إن شاء الله أكون عند حسن ظنك دائما.
      سلامي لحضرتك

اشترك في قائمتنا البريدية