نشر موقع الفيلسوف الجديد New Philosopher مقالاً بعنوان Grandster in the Family للكاتبة أنطونيا كايس، وترجمت ريوف خالد المقال إلى العربية بعنوان «المحّاح في العائلة» ونُشِر في موقع «معنى» باللغة العربية. يصعُب الوصول إلى تفسيرٍ حميد لهذا المقال الذي يعرض كتاباً بعنوان: المحاح: استعمال الحديث الأخلاقي وإساءة استعماله Grandstanding: The Use and Abuse of Moral Talk، فهذا العرض – لا الكتاب، الذي يصدر في مايو 2020 – يُمهِد بالحديث عن عائلة غوتشي – صاحبة علامة اﻷزياء التجارية الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه، حيث أصابت سلسلة من الكوارث ورثة غوتشو غوتشي – مؤسس الشركة – بعد تقاعده، فانتهى أحد ابنائه إلى السجن، وقُتِل أحد أحفاده في مقر عمله. يقول المقال إن غوتشو غوتشي لم يتعمد إطلاق سلسلة من الأحداث أدّت إلى المصائر المأساوية لعائلته، وقد يكون هذا صحيحاً، لكنّ هذا ليس لُبَ المسألة، فعِلةُ مقال كايس الرديء أنّه يستخدم هذه المأساة العائلية ليُقارن بينها وبين الشخص المُزعج في العائلة الذي يزايد على بقية أفراد الأسرة ويعتبرهم غير خلوقين لأنّهم لا يتفقون معه في الرأي.
حسب كاتبة المقال، فإن كاتبّي الكتاب جستِن توسي وبراندون وارمك يُعارضان مبدأ المحاح – كما في الترجمة العربية، والمحاح يعني الكذاب الذي يقول ولا يفعل، لكن المصطلح المستخدم باﻹنكليزية يُشير غالباً إلى الشخص الذي يقف موقفاً عظيماً إزاء قضية يعتبرها أخلاقية لكنّ غيره قد لا يتفق معه فيها، وغالباً ما يُرى هذا السلوك في المواقف السياسية وعادة ما نُسميه (المزايدة) – مستخدمين تنظيرات نيتشه في مسألة الأخلاق: أصحاب المواقف اﻷخلاقية خسروا وفق مبادئ مجتمع القوة (مجتمع السادة) فقرروا تحريف المبادئ التي يكتسب بها المرء المكانة في مجتمعه ليحصلوا بشكلٍ غير شرعي على القوة خالقين (مجتمع العبيد)، مما يؤدي بنا – بطبيعة الحال – إلى نتيجة طريفة مفادها أنّ عين راند Ayn Rand هي في الغالب أكثر تلاميذ نيتشه نباهة، لأن ما تقوله المقالة بصراحة هو هذا: البطريارك الذي يخُلف إرثاً من الدم والدمار يؤدي بأحد أحفاده إلى الموت قتلاً خيرٌ من البطريارك الذي يُزعج أفراد العائلة على طاولة العشاء بتخريفاته اﻷخلاقية. (مع لمسة من الروح الريادية اﻷمريكية، فغوتشي «أسس عملاً مبنياً على الشغف» وأنشأ علامة تجارية لها مئات الفروع في أنحاء العالم. أي أنّ غوتشي وفق التفسير الراندي للنيتشوية يُمثِل الأوبرمنش.)
ويزيد اﻷمر هزلاً أنّ المقال يأتي نفسه في باب المزايدة اﻷخلاقية – ولنستخدمها بدلاً عن المحاح هنا – إذ أنّه منشورٌ في باب: أفكارٍ لتغيير حياتك Ideas to Change Your Life في مجلة الفيلسوف الجديد New Philosopher، كما أنّ من ضمن تبويباته: أوهام وأنت والفلسفة. التفسير الراندي للنيتشوية ليس وسيلة يعيش بها اﻹنسان حياته، إلّا إذا ارتضى لنفسه أن يكون وحشاً من أشنع وحوش الطبيعة.
الاستعانة بنيتشه هنا تأتي في إطار ليبرالي يُحاول محاربة المزايدة اﻷخلاقية في صورتها الحالية التي صار الليبراليون أنفسهم يجدونها غير مريحة، وتُعرف بمصطلحات كثيرة لعل أشهرها: الصوابية السياسية Political Correctness. لكنّ الاستعانة بنيتشه توضح تماماً المجتمع الذي يُريد الليبراليون تمكينه: مجتمع فاشي قائم على القهر والقوة الغاشمة والعدوان.
سقط القناع
مصطلح الليبرالية مصطلحٌ واسع الاستخدامات، وتختلف معانيه من مكانٍ لآخر. بالنسبة للبعض، قد يعني مصطلح ليبرالي أن يكون المرء يسارياً – كما يشيع في أمريكا، مع أنّ البون بين اليساري والليبرالي شاسع. بالنسبة للبعض اﻵخر، فإن الليبراليين هم دعاة التغريب الذين يسميهم بعض الشيوخ «بني لبرال». وبالنسبة للبعض، فإن الليبرالية هي الصيغة الأكمل للتعايش الاجتماعي، ويعتقد البعض أن تطبيق الليبرالية في البلاد العربية سيجعل صحراءها تتفجر أنهاراً.
ثمّة مصطلح هو النسوية البيضاءWhite Feminism يُستخدم لوصف نوع النسوية الذي تمارسه النساء البيضاوات عادة، ويقوم على مبادئ استعمارية، حيث تكون فيه النساء البيضاوات صف الاحتياط للقوى الاستعمارية – البيضاء، بطبيعة الحال.
وبشكلٍ مبسط، فإن الليبرالية تقليد سياسي (واقتصادي واجتماعي) أساسه الرأسمالية، يهدف إلى الحفاظ عليها، وعلى المبادئ الديموقراطية وفقاً للنموذج الغربي، لكنّه ليس ذا توجهات اجتماعية محافظة في الغالب، بمعنى أنّ الليبراليين لا يتفقون مع المحافظين في مبادئهم الاجتماعية – مثل التفرقة العنصرية واﻷصولية الدينية – لكنّهم يتفقون معهم في مبادئهم الاقتصادية: اقتصاد السوق الحر القائم على النمو المستمر بغض النظر عن قدرة الكوكب على توفير مصادر للنمو وبغض النظر عن الكلفة الحياتية البشعة التي يقتضيها نمط الاقتصاد الذي يدعون إليه.
بطبيعة الحال، فقد تطورت الرأسمالية منذ بداياتها، ونحن اﻵن في المرحلة التي يُطلق عليها الرأسمالية المتأخرة Late Stage Capitalism حيث وصلت التناقضات الداخلية في اﻷنظمة الرأسمالية إلى مرحلة لم يعد ممكناً معها اﻹبقاء على الوجه المرح للرأسمالية، ولا صار ممكناً حتى الادعاء بأن السوق محايد ويؤدي دائماً إلى تقديم أفضل الخدمات وأفضل البضائع، وأنّ الرأسمالية هي الحل الوحيد للارتقاء الاجتماعي والحفاظ على مستوى حياة لائق لعموم الناس. مع التطورات المختلفة للرأسمالية، تطورت تياراتها الرئيسية المحافظة والليبرالية وتفرعت، ومن أشهر وجوه الليبرالية الغربية في العالم كله ما يُعرف بالليبرالية الجديدة: الليبرالية التي تحاول الحفاظ على النظام الرأسمالي من تناقضاته الداخلية باستخدام اﻷقليات والفئات المهمشة داخل المجتمع، وتمكينهم من الحصول على مناصب مرموقة – طالما يلتزمون بالحفاظ على المبادئ الليبرالية – باسم المساواة، من دون مساءلة البنى واﻷنظمة التي أنشأت أشكال التفرقة بين الناس، وكأنها تضع أحمر الشفاة على وجه خنزير كما في المثل الغربي (You can put lipstick on a pig, but it’s still a pig). ولعلّ أشهر مثالٍ يوضح طبيعة الليبرالية الجديدة البائسة الميم السائد لوصف الليبرالية: More torturers of color, please! (أي: مزيداً من الجلادين الملونين)، فالليبرالية لا ترفض التعذيب، وإنمّا ترفض أن يكون كُل الجلادين من البيض عملاً بمبادئ المساواة وتمكين اﻷقليات.
ويبدو أنّ العالم يغلب الميمات، فمع اﻷخبار التي ذاعت عن تدهور صحة حاكم كوريا الشمالية كِم يونغ أون واحتمال أن تخلفه في منصبه أخته بعد وفاته، فإن بعض الليبراليين الجدد الغربيين يحتفلون بوصول المرأة في كوريا الشمالية إلى أعلى المناصب الديكتاتورية، فالقضاء على الديكتاتورية – التي ظل الليبراليون أنفسهم لعقود يقولون إنّها ديكتاتورية – ليس هدفاً يهمهم تحقيقه ما دامت الديكتاتورية ذات وجه أنثوي.
الكارينية
الكارينية Karenism هي مصدر (كارِن) الصناعي، وكارِن مصطلح ذاع في اﻵونة اﻷخيرة لوصف نمط من النسوة – البيضاوات عادة – اللواتي يتعاملن مع العالم بمنطلق أنّ الجميع عبيدٌ في مزرعة والديهن، ويتصلن بالشرطة للقبض حتى على اﻷطفال الصغار. نمط كارِن معروف منذ عقود، لكن المصطلح نفسه جديد، وذيوعه بشكلٍ كبير جاء بسبب الحاجة الكبيرة لكلمة تصف هذا النمط من السلوك: الاعتقاد الراسخ لدى كل كارِن بأنّها صاحبة حق، والوشاية، والعنف اللفظي والاجتماعي، والقمع. الكارِنات هن الاحتياطي الاستراتيجي لكُل الحركات القمعية.
ثمّة مصطلح هو النسوية البيضاءWhite Feminism يُستخدم لوصف نوع النسوية الذي تمارسه النساء البيضاوات عادة، ويقوم على مبادئ استعمارية، حيث تكون فيه النساء البيضاوات صف الاحتياط للقوى الاستعمارية – البيضاء، بطبيعة الحال. من أمثلة النسوية البيضاء، التركيز على محاولة إنقاذ النساء الملونات من عنف الرجال الملونين وتجاهل عنف الرجل الأبيض ضد النساء الملونات، سواء بشكلٍ مباشر مثل حرب أفغانستان والعراق، أو بشكلٍ غير مباشر مثل سياسات اﻹفقار والتهميش ورشوة القوى المحلية المعادية للنساء من أجل الحفاظ على المجتمعات العالمثالثية في حالة من الحاجة المستمرة تدفع بالنساء إلى قبول أقل القليل من اﻷجور بشكلٍ يجعل حياتهن نوعاً من السخرة في خدمة شركات المنتجات الاستهلاكية الغربية. السخرة التي تعانيها النساء الملونات في العالم الثالث تزود النساء في العالم اﻷول بحقائبهن الملونة التي تحمل شعارات عن تمكين المرأة واستقلالها، كما أنّ النساء اللاجئات والفقيرات والمهمشات داخل المجتمعات الغربية يزودن النسوية البيضاء بطبقة خاصة داخل طبقة البروليتاريا هي المربيات والخادمات والمساعدات المنزليات اللائي يحصلن على أجور تكفيهن بالكاد لمنع أطفالهن من الموت جوعاً، فيما تعيش النساء البيضاوات كل أحلامهن.
من مساوىء الليبرالية الجديدة أنّها تستولي على المطالب اﻷساسية للعيش الكريم لكل الناس وتفرغها من محتواها وتجيرها لحسابها، ثم تتخلص منها إذا وجدت أنّها صارت تمثل عبئاً عليها.
لمقارعة هذا النوع من النسوية اﻷنانية الاستعمارية يستخدم البعض مصطلح Intersectional Feminism، أي النسوية التي تركز على قضايا النساء من مختلف الخلفيات الاجتماعية والطبقية. النسوية الكلية تُعادي الإمبريالية بطبيعة الحال، وتعادي فكرة تشجيع النساء المؤيدات للفاشية لمجرد أنّهن نساء. وبطبيعة الحال، فإن نساء النسوية البيضاء قد استأن من وجود تيارات نسوية هُن مستثنياتٌ منها، فرُحن يحاولن الاستيلاء على مصطلح النسوية الكلية لصالحهن، من دون أن يُغيرن آيديولوجياتهن. هذا السلوك هو الكارينية: إدراك وجود شيء «جيد»، ومحاولة الاستيلاء عليه لأجل المظاهر، من دون أي اعتقاد بأهمية التغلب على الظلم. الكارينية مبنية على المظاهر: من المهم للمظهر الاجتماعي الحفاظ على صورة المرأة المستقلة ذات الرأي والفكر، لذلك فإن أي كارِن ستسمي سياساتها الاستعمارية وسلوكها الواشي واستدعاءها للشرطة لتقبض على أي مواطنين آخرين يعارضونها ثورية.
والكارينية ترفض رفضاً قاطعاً أي حقائق غير ملائمة، من قبيل كون النساء البيضاوات مساهمات فعالات في العبودية وفي الحركات الفاشية والنازية، فهن جميعاً آنسات في محنة Damsels in Distress إذا تعلّق اﻷمر بالأشياء السيئة التي ساهمت جداتهن فيها، ومقاتلات محنكات ذوات استقلالية إذا تعلّق اﻷمر بالأشياء الحسنة التي ساهمت فيها جداتهن – واﻷشياء الحسنة التي ساهمت فيها جداتهن تتلخص في شيء واحد: كسب حق التصويت للنساء البيضاوات فحسب.
الكارينيات غالباً محافظات سياسياً، غير أن أخواتهن الليبراليات قد هبّبن هبّة امرأة واحدة للدفاع عنهن، ووصف كُل من يستخدم مصطلح كارِن لوصف أي كارِن بالميزوجينية والعنصرية، بل إنّ هُناك من حاولن استحداث مصطلح جديد لوصف ناقدي النسوية البيضاء يتهمهم بكراهية النساء البيضاوات خصوصاً، في استعراض طريف لأقبح خصائص الليبرالية والكارينية، فلا حرج عند هاته وهؤلاء في استخدام الميزوجينية فزاعة لحماية مصالح فئوية، إذ أنّ إفراغ الخطابات الحقوقية من مضامينها من أجل خداع الناس حسني النية تكتيك ليبرالي قديم. غير أنّ لحُسن النية – بل للسذاجة نفسها – حدوداً، والميزوجينية الحقة هي في تمييع قضايا النساء وسلبها روحها، ومصادرة أصوات النساء السوداوات والملونات والمتحولات والفقيرات والمعنفات.
من مساوىء الليبرالية الجديدة أنّها تستولي على المطالب اﻷساسية للعيش الكريم لكل الناس وتفرغها من محتواها وتجيرها لحسابها، ثم تتخلص منها إذا وجدت أنّها صارت تمثل عبئاً عليها. خير مثالٍ على ذلك ما حدث لحركة #Metoo التي بدأتها مجموعة من النساء السوداوات، ثم استولت عليها ممثلات هوليوود مثل أليسا ميلانو لحسابهن بعد سقوط هارفي واينستين، وتحولت حركة «أنا أيضاً» إلى حركة تجارية ومظهرية بحتة، لا تقوم بعمل أي شيء على أرض الواقع – مثل حماية حقوق الممثلات، ناهيكم عن حماية حقوق العاملات في كل مكان – بل إنّ حجم التغطية الإعلامية التي حصلت عليها الحركة قد غطى على جهود المجموعات النسوية الفاعلة على اﻷرض التي تحاول إصلاح بيئات العمل وحماية النساء من الاستغلال.
ومؤخراً، فقد قررت قائدات كبيرات من الحملة – ومنهن أليسا ميلانو نفسها – أن يدعمن جو بايدن في الانتخابات الرئاسية اﻷمريكية، وجو بايدن مغتصب ومتحرش، اﻷمر الذي لا ينفع معه أي تجميل، لذلك نزعن عنهن ضمادة التضامن النسوي في حركة كارينية أصيلة، وتنكرن للحملة اللائي أعادتهن إلى الواجهة في السنوات الماضية، في مونولوغات عمومية خلاصتها: مرشحنا يتحرش بمن تعجبه، واللي عنده معزة يربطها.
عندما تقع الليبرالية الجديدة في مأزق ويكون عليها مواجهة تناقضاتها الداخلية، فإنّها لا تتجه إلى اليسار أبداً – باحثة عن حلول اقتصادية واجتماعية كُلية للمشكلات التي أنشأها النظام الكلي، بل تتمترس في خنادقها الطبقية، وتنقلب إلى المُحافظة الريغانية-الثاتشرية أو ترتد إلى النيتشوية الراندية.
كذلك، ينبغي القول إنّ للنسوية البيضاء والكارينية صف احتياطٍ عريضاً بين الرجال، لأنّها توفر لهم مجالاً واسعاً لتلقي الثناء بوصفهم رجالاً غير سُميين، في الوقت نفسه الذين يتجنبون فيه أي مساءلة حقيقية لامتيازاتهم الذكورية والطبقية والعرقية، ولا يضطرون للتعامل مع النسوة المزعجات اللائي يرين أنّ الرأسمالية هي العدو الحقيقي لكل نساء العالم – باستثناء نساء الطبقة الاستغلالية.
نيتشه الليبرالي
عندما تقع الليبرالية الجديدة في مأزق ويكون عليها مواجهة تناقضاتها الداخلية، فإنّها لا تتجه إلى اليسار أبداً – باحثة عن حلول اقتصادية واجتماعية كُلية للمشكلات التي أنشأها النظام الكلي، بل تتمترس في خنادقها الطبقية، وتنقلب إلى المُحافظة الريغانية-الثاتشرية أو ترتد إلى النيتشوية الراندية.
والتنظيمات السياسية الليبرالية أشد بؤساً ونفاقاً، فرد الحزب الديموقراطي اﻷمريكي – مثلاً – على تزايد موجات الفاشية في العالم، وفي الولايات المتحدة اﻷمريكية خصوصاً، أن بحث في قعر البرميل الليبرالي وخرج بجو بايدن. بايدن محافظ، لكنّه كان نائباً لباراك أوباما، لذلك يُفترض أنّه ليبرالي. قضى بايدن حياته السياسية في إقرار القوانين الهادفة إلى التضييق على حياة الفقراء والسود والملونين بمختلف اﻷشكال، ولم يقف – ولو حتى من باب النفاق – بجانب أي قضية تقدمية. وأيام أوباما، فقد جاء اختياره من أجل تهدئة الفئات الأكثر محافظة داخل الحزب الديموقراطي.
وحالياً، يبحثون له عن نائب – أو نائبة – لذلك فإن هيلاري كلنتون تعيش مرحلة من التلميع اﻹعلامي تفوق ما عاشته في السنوات الماضية – التي قضتها في لوم كل من لم يُصوت لها ومطالبتهم بالاعتذار عن ذلك. كلِنتون تنتمي إلى قعر البرميل الليبرالي مع بايدن، ومعهم كذلك إليزابِث وارِن، التي يُرشحها الكثيرون – كذلك – لتكون نائبة لبايدن، فتكون أحمر الشفاة الذي يُفترض به أن يُجمِله.
قد تبدو هذه الخيارات مُحيرة للوهلة اﻷولى، لكن الحقيقة تبقى أنّ الليبراليين الجدد قد رأوا صعود الفاشية حولهم في كل مكان، وبدل أن يدفعهم هذا إلى مقارعتها، قرروا الرجوع إلى الوراء، وعندما يخسرون في الانتخابات، فإنّهم سيتواطؤون مع الفاشيين بشكلٍ أكثر فجاجة، وسيلومون أي تيارٍ إلى يسارِهم قليلاً، حتى الاشتراكيين الديموقراطيين الذين هم في حقيقتهم فرعٌ من الليبراليين، على فشلهم الذريع في تقديم أي خطٍ فيه نوع من الاتساق الداخلي، فكل سياساتهم المالية مشابهة لسياسات المحافظين، وتبقى سياساتهم الاجتماعية مشابهة لسياسات المحافظين مع موجة من النفاق، فلديهم طبقة من الشغيلة الثقافيين، والطبقة الإدارية المتخصصة Professional Managerial Class المستفيدين من تمكين البرجوازيين من الفئات التي لا يقبلها المحافظون عادة، وهذه الطبقة هي ما تحافظ على الليبرالية من الانقراض السياسي.
هنا، نعود إلى مقال المُزايدة، فكاتبة المقال وكاتبا الكتاب، في مواجهة موجات صعود الفاشية في زماننا هذا، يعودون إلى راند ونيتشه، لأن نمط الحياة الذي تدعو له الليبرالية واﻷساس الفكري لها، لم يكُن له أن يكون من دون عنفٍ استعماري وقمع وتدمير للبيئة والناس وإعلاء من شأن الإنسان النوردي-الجرماني-اﻷنكلوسكسوني حتى صار هو اﻹنسان، وكُل إنسانٍ آخر إنسان بشَرْطَة. الليبرالية ورثت كُل هذه الحمولات التاريخية، ولم تُسائلها أو تتخلص منها، بل اعتبرت أنّها تجاوزتها، ونصبت نفسها وريثة لعصر التنوير، ومحررة للإنسان في كل زمانٍ ومكان من أغلال الشمولية، وترياقاً للفاشية. نفس هذه الحمولات التاريخية هي ما أنتجت النازية والفاشية لذلك يسهل على الليبراليين القفز فوراً إلى أفكار الدم والدمار والقتل والعنف وتدمير الطبيعة.
تغير اﻷخلاق
الشخص المزعج على طاولة العشاء للعائلة كان في الغالب شخصاً معارضاً للعبودية، يُزعِج أفراد العائلة كُل يومٍ بمطولاته اﻷخلاقية عن لا أخلاقية العبودية. هذا الشخص المزعج كان الشخص المُعارض للفصل العنصري، الذي يُضايق أفراد اﻷسرة بحديثه الذي لا ينتهي عن لا أخلاقية أي مجتمع يفصل بين فئاته ويُفضل إنساناً على إنسان للونه أو عرقه. هذا الشخص المزعج كان في الغالب معارضاً لقمع النساء، يُبدد سلام العائلة بحديثه عن كون المرأة إنساناً ذا إرادة وقدرة على تحقيق هذه اﻹرادة في العالم، لا أداة للخدمة واﻹنجاب. هذا الشخص المزعج على طاولة العشاء كان في الغالب أحد اﻷسباب التي جعلت العالم أقل سوءاً مما كان عليه.
والليبراليون يُريدون أن يقمعوا هذا الشخص. الليبراليون لا يُريدون أن يقمعوا الشخص المزعج على طاولة العشاء الذي يُريد أن يحوِّل السود والملونين إلى مواطنين من الدرجة الثانية بشكلٍ صريح – لا كما هو الوضع الآن، حيث المساواة واقع اسمياً، لكن النظام عنصري فعلياً. وهم لا يُريدون أن يقمعوا الشخص المزعج على طاولة العشاء الذي يُصِر على أنّ مُشكلة الكوكب هي وجود عدد كبيرٍ من البشر عليه، وأن الحل للحفاظ على البيئة هو إبادة اﻷشخاص الملونين. لا، بطبيعة الحال. هذا الشخص لا بأس به، فهو يُريد – آخر اﻷمر – أن يُحقق النبؤات النيتشوية والاستعمارية التي تقوم عليها الرأسمالية.
الوعد الانتخابي الوحيد الذي يُقدمه الليبراليون في ظل الديموقراطيات الغربية هو هذا: درجة أخف من السياسات المحافظة. قمع، ولكن ليس إلى آخر الخط. إفقار، ولكن مع ورقة تين من بعض البرامج الاجتماعية بائسة التمويل.
ولا يتعلق الأمر بالنفاق، فالمُزايد ليس سيئاً لأنّ كلامه يُناقض أفعاله، ولا لأنّه يقول كلمة حقٍ ويُريد بها باطلاً. الليبرالية لا تناوئ النفاق، فهي منافقة. ولا تناوئ استخدام القضايا الحقة لأهدافٍ خبيثة، لأنّها لا تفعل غير هذا. الليبرالية تناوئ فكرة أن يكون المرء ذا موقفٍ أخلاقي، لأنّها لم تعد قادرة على تحمل تناقضاتها الداخلية، لهذا تُكشِر عن أنيابها، وتعود إلى جذورها، وتقول: هل تعلم أنّه من المعادي للأخلاق أن يكون للمرء موقف أخلاقي؟
والعمل؟
لكن هذا يؤدي بالليبرالية إلى أزمةٍ تعصف بها، فإذا كانت غير قادرة على اﻹيفاء بوعودها اﻷخلاقية، وإذا كانت اﻷزمات التي تعصف بالسوق الحر وتجعل من تحقيق وعودها للمجتمعات الغربية بحياة كريمة – على حساب العالم الثالث – غير ممكنٍ، مما يؤدي بها إلى الكشف عن أنيابها، فما جدوى وجودها في ظل وجود التيارات اليمينية الأخرى؟ المحافظون كذلك يستطيعون إدماج عناصر من مجتمعات مهمشة في صفوفهم. النازيون أنفسهم يفعلون ذلك.
الوعد الانتخابي الوحيد الذي يُقدمه الليبراليون في ظل الديموقراطيات الغربية هو هذا: درجة أخف من السياسات المحافظة. قمع، ولكن ليس إلى آخر الخط. إفقار، ولكن مع ورقة تين من بعض البرامج الاجتماعية بائسة التمويل. حروب، ولكن من دون مناطحة خصم يستطيع الدفاع عن نفسه كالصين أو روسيا. معسكرات اعتقال للاجئين، ولكن من دون تغطية إعلامية وبحراس من مختلف الخلفيات العرقية. اغتيالات على أراضي دولٍ ذات سيادة، هجمات بطائرات درون، تخريب اقتصادي أشد وطأة للدول اﻷفقر في العالم، وعرقلة لكل حملات التحرر ذات الميول اليسارية في كل دول العالم. كُل هذا وأكثر بمعاونة الطبقة الإدارية المتخصصة والشغيلة الثقافيين الذين يشكلون الطبقة التي تُشغل معظم وسائل اﻹعلام (المرموقة) في معظم أنحاء العالم والطبقة التي تُخاطبها.
ومن ضمن هذه الطبقات أولئك الذين يتحدثون عن الجعجعة اﻷخلاقية، لا في معرض مساءلة إساءة استخدامها في عرقلة أي سياسيين ذوي برامج انتخابية نافعة للبروليتاريا – مثل استخدام معاداة السامية ضد جيريمي كوربِن في بريطانيا، والميزوجينية ضد برني ساندرز في الولايات المتحدة اﻷمريكية، أو إغراق أصوات النساء المناوئات للكارينية والنسوية البيضاء، أو استخدام المظالم الفئوية للتغطية على المظالم العامة، أو إطلاق ما يُعرف بـ «أولمبياد القهر»، حيث يتبارى المقهورون في عرض مظالمهم لعلّ آلهة الليبرالية تشملهم بنظرة عطف، أو تغليب فئة مقهورة على فئة مقهورة أخرى بحيث يرى المقهور في المقهورين اﻵخرين منافسين على الفرص الشحيحة للحياة الكريمة لا أخوات وإخوة في اﻹنسانية ورفيقات ورفاقاً في الكفاح ضد القهر والقهارين. ما بين هؤلاء – أي الطبقة الإدارية المتخصصة والشغيلة الثقافيين – وبين التحول بشكلٍ كامل إلى منظرين للفاشية، مباركين لها، إلّا أن يعرض عليهم الفاشيون الحفاظ على مناصبهم ومكتسباتهم الطبقية في ظل نظام فاشي قمعي يذبح الناس، حينها، حتى المظاهر التي هي أعز ما لدى الليبراليين لن تعود مهمة.
كاتبة يمنية