شكلت الثورة الجزائرية المسلحة التي اندلعت عام 1954 أحد معالم القرن العشرين الأساسية في كل من العالم الثالث وفي افريقيا والعالم العربي. إذ نشبت في وضع بالغ التعقيد، لأن الجزائر لم تكن مستعمرة فرنسية تقليدية كما كانت فيتنام أو سوريا، بل كانت مستعمرة استيطانية فعشر السكان البالغ حينذاك عشرة ملايين نسمة، أي مليون نسمة، ينتمون إلى الأقلية الأوروبية التي تدفقت إلى الجزائر منذ عام 1830، وبعضهم مولود هناك ولا يعرف أرضاً غير الجزائر لكنه في النهاية سليل مستوطنين ارتكبوا جرائم على مدى قرن ونيف فقد استولوا على أخصب الأراضي واستأثروا بالموارد وغيّبوا الجزائر الأصلية وادعوا تمثيلها عبر شعار « الجزائر أرض فرنسية «.
كان المستوطنون يشكلون مجتمعاً كاملاً يضم الفقير والغني، الطيب والشرير، بعضهم يميني متطرف وبعضهم الآخر يساري. لكنهم جميعاً مستوطنون أو ينحدرون من سلالة مستوطنين، فهم من نسل الجريمة الأصلية التي ارتُكبت قبل قرن ونيف. وعندما دقت ساعة الحساب، أي الثورة الجزائرية المسلحة، اكتشف المنحدر من نسل المستوطنين أن الوقت قد حان ليدفع ثمن جريمة لم يشارك بها ولا تربح منها. وكأن الأمر يشبه التشوهات الجينية التي يرثها الأبناء عن الآباء. فانطبق عليهم المثل العربي «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون».
ينتمي البير كامي الكاتب الفرنسي الشهير إلى الأقلية الأوروبية التي استوطنت في الجزائر بعد احتلالها، فقد ولد في مقاطعة قسنطينة في الشرق الجزائري، من أب فرنسي وأم إسبانية في بيئة شديدة الفقر. تعلم بمنحة دراسية في كلية الآداب في جامعة الجزائر. ثم اشترك في مقاومة النازية فأصدر مع آخرين نشرة Combat «الكفاح» التي تحولت إلى صحيفة بعد التحرير، وفيها نشأت علاقته مع سارتر بعد أول لقاء بينهما عام 1943 واستمرت طيلة الاحتلال النازي فقد جمعهما الموقف من النازية والفلسفة الوجودية. لكن بعد تحرير فرنسا من النازية تعرضت علاقتهما لاختبارين قاسيين. الأول كان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة وبداية الحرب الباردة ووصول الأمريكي كوسلر مؤسس الحرب الباردة الثقافية. فقد انحاز كامي إلى الرأسمالية، في حين انحاز سارتر للأنظمة الشيوعية، أما الاختبار الثاني وهو الذي يعنينا فهو الثورة الجزائرية التي اندلعت عام 1954 وهنا كانت القطيعة التامة بين الطرفين.
كان البير كامي، من خلال معايشته للجزائريين، يدرك حجم الظلم الذي يتعرضون له، لذلك كان يطالب بالعدالة ويدافع عن حقوق الفلاح الجزائري. كتب كامي سلسلة مقالات عن المجاعة والفقر عند الجزائريين، في منطقة القبائل وطالب بتوفير المدارس والطعام وأيضاً وضع حد أدنى للأجور، لكنه لم يتخيل حلاً خارج الجمهورية الفرنسية. لم يتخيل حلاً يعيد المسألة إلى ما قبل عام 1830. كما لم يدرك أن شعوب العالم الثالث بدأت تمردها ولن تقبل بالحلول الترقيعية.
قدمت معركة ديان بيان فو، حيث استسلمت القوات الفرنسية أمام الفيتناميين، درساَ بليغاً استوعبته جبهة التحرير الجزائرية سريعاً وأدخلته إلى وعي الفلاح الجزائري فأعلنت الكفاح المسلح. أما البير كامي فقد بقي في مكانه بعد اندلاع تلك الحرب، ففي عام 1955 «تخلف كثيراً عن الموقف الفعلي للمأساة. لقد حاول كما في مقالاته السابقة، تناول الأسباب العميقة لمأساة اليوم وخرج عن أسلوبه المعهود ليقول إنه يشعر بأنه أقرب إلى فلاح جزائري، أو راع قبلي منه إلى رجل أعمال من مدننا الشمالية، وتحدث عن الفرص الضائعة، وعن الحاجة إلى وضع النزعة الاستعمارية في المتحف». كما حاول رد ما يفعله الفلاح الجزائري من «ارهاب» إلى اليأس. بمعنى آخر لم يستوعب ما جرى منذ انطلاقة الثورة الجزائرية في نوفمبر/تشرين الثاني 1954. لم يستوعب أن الفلاح الجزائري لم يعد بحاجة لمن يشرح وضعه ويتحدث عنه، لقد قبض على مصيره وباتت جبهة التحرير هي الناطقة باسمه. لم يستوعب أن هذا التمرد ليس من أجل بعض الإصلاحات هنا وهناك، وليس أيضاً من أجل الاندماج بالجمهورية الفرنسية، بل هو تمرد يريد أن يصحح التاريخ، الذي انحرف عن مساره عام 1830. يريد أن يعيد الجزائر أمة حرة مستقلة قابضة على مصيرها. لقد فات البير كامي استيعاب كل هذه الحقائق، أو منعه موقعه عن استيعابها على عكس شريكه في المقاومة ضد النازية سارتر الذي اصطف دون قيد أو شرط مع الجزائريين، الذين يحملون السلاح وأعلن أنه معهم في كل ما يفعلون، ولو أُطلق عليه اسم الإرهاب، وهذا سبب توتراً متزايداً في العلاقة بين الرجلين لينتهي الأمر بالقطيعة التامة.
شكل اختلاف الانتماء سبباً رئيسياً لهذا الخلاف الفكري بين سارتر وكامو، فسارتر لم يكن ابن الأقلية الأوروبية في الجزائر. أما البير كامي فهو مولود هناك كما ذكرنا. هناك أمه وأقرباؤه وممتلكاته وعالم الطفولة بين أقرانه الأوروبيين، عالم كامل مهدد بالزوال، إن عادت الجزائر جزائرية. كان يحاول الجمع بين عالمين لا يمكن أن يجتمعا فحضور الفلاح الجزائري يعني نهاية المستوطن الفرنسي. وحضور الجزائر يعني نهاية الاستعمار. كان كامي يحس بأن ما يجري هو تمزيق لشخصيته، فمن جهة أولى هناك العدالة، وهو يدرك بسبب حساسيته ككاتب عايش الظلم وقاوم النازية، أنها على جانب الجزائريين، مهما كان تعبيرهم عنيفاً، ومن جهة أخرى هناك عالمه الشخصي كفرد في عائلة تنتمي إلى عالم المستوطنين، فالعدالة في جهة، والعائلة في الجهة الأخرى. حاول اختراع حل لهذا التمزق الشخصي، دون أن يخسر انحيازه للعدالة، ودون أن يساهم بتدمير عالمه الشخصي، بإدانة إرهاب الطرفين، واضعاً على قدم المساواة مليوناً من المستوطنين اغتصبوا خلال قرن ونيف أخصب الأراضي واستولوا على أغلب المدن، وتسعة ملايين من الجزائريين تعرضوا لكل أنواع الظلم والمهانة والإذلال منذ قرن ونيف، إذ اغتصب المستوطنون أرضهم ودمروا ثقافتهم.
بسرعة تلاشت الآمال التي كانت معقودة على مجيء غي مولييه رئيساً للوزراء في فرنسا عام 1956، خاصة بعد عملية القرصنة الجوية الشهيرة التي اعتقل الفرنسيون بواسطتها قادة جبهة التحرير الجزائرية الستة ومنهم أحمد بن بيلا، فانتهى أي احتمال لحل المسألة بالتفاوض، وتصاعدت المعارك بين الجزائريين والجيش الفرنسي مدعوماً بالمستوطنين.
رداً على عمليات التعذيب والقتل العشوائي وحرق القرى وترحيل الفلاحين الجماعي إلى معسكرات اعتقال لجأت جبهة التحرير إلى عمليات عنف داخل المدن التي يسيطر عليها المستوطنون فهاجمت البارات بالقنابل، وفتحت النار على تجمعات المستوطنين في الشوارع. صمت البير كامي عما يجري في الجزائر أو «أصيب بالشلل» على ما وصفه البير ميمي رفيقه أيضاً في الكفاح ضد النازية في نشرة كومبا، «لأن كل ما يمس شمال افريقيا يصيبه بالشلل». فالشلل هو تعبير عن تلاشٍ للمنطقة الوسطى التي كان يقف عليها كامي والتي تدعو إلى رفع الظلم عن الجزائريين، وصولاً لإعطائهم المواطنة الفرنسية الكاملة، دون الانفصال عن فرنسا. لكن هذا الشلل لن يستمر للأبد ففي اليوم التالي لتسلمه جائزة نوبل للأدب التقى كامي بعدد من طلاب جامعة استوكهولم، وبعد أن أمطره طالب جزائري بالأسئلة قال البير كامي «دنت دائماً وأبداً الإرهاب.. ويجب أن أدين أيضاً الإرهاب العشوائي في شوارع الجزائر ـ على سبيل المثال – الذي يمكن في يوم ما أن يضرب أمي أو أسرتي. إنني أؤمن بالعدالة. لكنني سأدافع عن أمي قبل دفاعي عن العدالة». لم يعد ثمة منطقة وسطى بين العدالة والأم. اختار البير كامي الاصطفاف إلى جانب أمه على حساب العدالة، أما سارتر فقد انحاز إلى العدالة فكتب «عارنا في الجزائر» وأيضاً كتب مقدمة كتاب فرانز فانون الشهير «معذبو الأرض» معلنا وقوفه دون قيد أو شرط مع «الإرهابي» الجزائري. لقد انتهى البير كامي من التمزق الذي عاناه بسبب الثورة الجزائرية بأن أعاد وضع نفسه داخل القبيلة وأعلن أنه منحاز إلى جماعة المستوطنين.
وصف الكاتب البير ميمي أزمة البير كامي «المستوطن المنتمي إلى الجناح اليساري يتعاطف مع ورطة المستعمَر، ولكنه عاجز أصلاً عن دعم نضاله من دون الهجوم على وجوده هو ووجود طائفته، هناك، في اعتقادي، مواقف تاريخية مستحيلة، وهذه إحداها». ولتكتمل المفارقة التاريخية فإن سارتر وقع في المأزق نفسه عام 1967 فاختار الانحياز إلى إسرائيل ابنة «القبيلة الغربية» على حساب العدالة! وبذلك أكد أن هناك حدوداً لتعاطف المثقف الغربي مع قضايا العالم الثالث. وفي الوقت نفسه أعاد التأكيد على أزمة البير كامي، التي باتت تشير لأزمة المثقف الذي ينتمي إلى جماعة مسيطرة، سواء كانت قبلية أم طائفية أم عرقية، حين تندلع الثورة ضد جماعته، لنسمي هذه الأزمة «أزمة الخيار بين الأم والعدالة».
*جميع الاقتباسات الواردة في المقال من كتاب كامي وسارتر من سلسلة عالم المعرفة رقم 334 ديسمبر/كانون الأول 2006. من تأليف رونالد أرونسون، وترجمة: شوقي جلال.
كاتب سوري
أتصور أن ألبير كامو كان يعتقد أنالبديل عن الفرنسيين في الجزائر هم الاسلاميون … لم يصدقه أحد … و كان ماكان ،،،،،،، في قديم الزمان . نعم كامو كان على حق
https://www.bbc.co.uk/programmes/p004y25x
اي حق .
ثورة شعب يريد التحرر من استعمار استيطاني احلالي بلا أخلاق بلا قيم انسانيه مارس ابشع وافظع ما توصًل إليه العقل الهمج .
وتقول اسلاميه اي درك هذآ