يفسر محمد شكري الدواعي التي وراء فعل الكتابة (كتابته هو)، ومن منطلق داخلي، يبعث على الخروج بانطباع مؤداه أن العالم الذي من حولنا، غالبا ما يسهم في توجيه وعينا نحو هذا الهدف أو ذاك، وينمي في دواخلنا تلك الرغبة الأكيدة في المكابدات للدفاع عن وجودنا المشترك، بما في ذلك الوجود المادي للكائن البشري، وعليه تصبح الكتابة أداة ناجعة وكاشفة في الآن نفسه عن عناصر المعادلة الصعبة التالية = الأنا/الغير – الوجود/العدم – الكتابة/المحو أو اللاكتابة إلخ.
يقول محمد شكري: «أردت التخلص من هذا التهميش من خلال الكتابة. كان هذا هاجسي في بداية الستينيات، لكن في ما بعد اكتشفت أن الكتابة يمكن أن تكون سلاحا أو احتجاجا ضد المظالم، يعني أن الكتابة أمست قضية ودعوى، لكن المشكلة في رفع هذه الدعوى تواجه الكاتب العربي بصفة عامة. هناك سيوف حادة معروفة، مسلطة على رقبته ونعني بها الدين والسياسة والأخلاق. ماذا عسى الكاتب أن يكتب إذا كانت هذه السيوف الثلاثة تهدده وهو يكتب؟ حاولت أن أتحدى في كتاباتي ـ نوعا ما ـ هذه الموانع أو الحواجز، ولذلك فإن كتاباتي في العالم العربي – على الأقل أخلاقيا – ملعونة جاحدة، لأنني انتقدت مجتمعي بدءا من أسرتي بحدة لا رحمة فيها» (مقطع من نص الحوار الذي أجريته مع الراحل محمد شكري في صحيفة «القدس العربي» عدد 791/ 24 نوفمبر 1991).
لعل ثنائية الأخلاقي/ اللاأخلاقي في كتابات شكري نوع من التقريع ليس غير، إذ كيف يستقيم المعنى الأدبي في النصوص المبدعة، أمام سيوف الأخلاق التي تخرجها جهات معلومة من أغمادها الصدئة، لتسليطها «أخلاقيا» على رقبة كاتب، صار غير موجود بين ظهرانينا حتى يتسنى له حق الدفاع عن نفسه ومشروعه.
فما هي الأخلاق بمعناها اللغوي البسيط؟ أليست الأخلاق احترام شكري وهو في رحلته الأبدية؟ فلو كان الرجل حيا يرزق لما رفع هؤلاء بصرهم نحوه، أحرى أن يحبروا عناوين زائفة، تروم المساس بشخصه لا بمنجزه الأدبي. لأجل تسويغ وشرعنة وضعية ما باسم مفاهيم أخلاقية داخل مساحات النقد الأدبي (وهو أمر شبه مستحيل) كان لا بد لهؤلاء من جلد شكري كل عام على الأقل وبسياط «نقاد» تغيب عنهم مرجعيات النقد الأدبي في أبسط أبجدياتها، فقد جبلوا على تكريس هذا البهتان، في محاولة لتمرير تقييمات قياسية لا تستجيب لها نصوص شكري السردية ، بدءا من «الخبز الحافي»، مرورا بـ«مجنون الورد» و»السوق الداخلي» و»غواية الشحرور الأبيض» ومسرحية «السعادة»، وسواها من النصوص السردية الأخرى ذات الصلة بالمشاهير الذين مروا من طنجة أمثال بول بولز وتيري وليامس وجان جينيه.
قد تغلب المناسبة لدى البعض على ما عداها من القيم الجمالية والرمزية، خدمة لأغراض، نترفع عن ذكرها في مقامنا هذا، فشكري واجه العالم من خلال أعماله السردية الأدبية بسلاح معجمي عار، إذ صمد طويلا في وجه العديد من التحديات ليقول كلمته. أليس هو القائل: «أنا إنسان عاش التشرد، وأكل من القمامة، فهل ينتظرون مني أن أكتب لهم عن الفراشات».
كتابات شكري، تكشف عن التناقضات الصغيرة والكبيرة في الحياة اليومية لدى الشخوص ضمن صيرورة اجتماعية، بغض النظر عن الاختلاف في وسائل وأساليب التوصيف التي يسخرها في صوغ أعماله الأدبية. يقول شكري: «إن التعبير عن حدث إنساني ما بالمفاجأة نفسها التي يباغتنا بها، لا يمكن أن يعطينا إلا أدبا غامضا، منفعلا، شعورا يدفعنا إلى اليأس إذا لم يتم الانتصار، لأن العنصر الأدبي فيها شبيه بيقظة الهلع من النوم على خدعة حصان طروادة. قد تنشط وجودنا بعض الأعمال الأدبية في زمانها، لكننا لن ننظر إلى مستقبلها، إلا من خلال ماضيها المحض، إذا لم يحملنا إلى آفاق زمانية جديدة. الوعي بالزمان والمكان والحدث لا يكفي الشرط الإنساني المطلوب في أي عمل أدبي». (غواية الشحرور الأبيض.
يسعى شكري في سردياته إلى ارتياد عوالمه السفلية، حيث التجليات الحقيقية لمتواليات الكتابة التي تميط اللثام عن الأمكنة السرية والفضاءات المغلقة، لكن توصيفها لا يتم إلا داخل اللغة، وكأن لسان حال شخوصه يقول بحتمية الخروج عما هو نمطي وآسر في الكون. لذا، فإن محمد شكري رديف لكلمة الحرية غير المقيدة لا بالزمان ولا بالمكان. محتوى الحرية لديه يعني خلع كل الأقنعة وهتك كل الأستار التي تحول دون بلوغ الإشباع والارتواء ومعانقة، وهم الأنثى وملاحقة سراب الجسد، مع امتلاك ناصية الأزمنة الحبلى بمواعيد السهر التي لا تقوم لها قائمة إلا بالشعور باللذة الحسية. هكذا تكتسي المرأة في «الخبز الحافي» بعدا استثنائيا بحيث تتلبس لبوسا، تتصادى مع الأسطورة؛ الباعث عليها الرغبة في التخلص من سلط قهرية والالتصاق بعوالم الليل والذهاب بعيدا في اختيار «المحرم» بمعناه الأخلاقي باعتباره الملاذ الأخير، هروبا من الواقع الاجتماعي بكل قسوته وجبروته.
من هذا المنطلق وغيره، نجد السارد في «الخبز الحافي» يعلن تمرده على قوى الاستبداد التي تمارس كل أصناف القهر، الأمر الذي يحمله على قلب المعادلة والوقوف ضد المجتمع، وإعلانه عن الرغبة في معانقة اللذة الحسية، وارتياد آفاقها رغم إفلاسه. «في الليل يصير للحياة طعم الخلود» (الخبز الحافي). تعيش الشخصية الرئيسية (محمد) أجواء اللذة المؤثثة بعطر النساء وروائح السجائر داخل أقبية وأمكنة سفلية، تمنح الدفء والمتع المتجددة لروادها.
المرأة التي صاغ شكري (الكاتب المفترض) وعيها في منجزه الأدبي ونصوصه السردية جنسيا وعاطفيا واجتماعيا وثقافيا، امرأة مقبلة باستمرار على الفواجع وألم الرغبة في استنزاف الجسد. وهو بهذا كان حريصا على جدل واقع يحكمه البحث المستمر عن المستحيل، موظفا أسلوبه البسيط في التعبير عن المواقف التي تعرضت لها هذه الشخصية أو تلك، باعتماده الفصحى والدارجة بمختلف تجلياتها ورطانتها، بعيدا عن ثنائية الحلال والحرام التي تجد صداها ومسوغها في المعتقدات الدينية والأخلاق والأنماط العليا التي تحكم لاوعي الأفراد والجماعات.
كاتب مغربي