لمْ يَخرُج كتاب L’écriture du désastre لموريس بلانشو عن العُزلة التي عاشَها صاحِبُه؛ فقد انتظرَ ردحاً من الزمن (أربعين سنة) حتى يَنقُله إلى العربية المترجم الأكاديمي عز الدين الشنتوف تحت عنوان «كتابة الفاجعة»، والصادر حديثاً عن دار توبقال للنشر ضمن سلسلة «نصوص أدبية». وتضع هذه الترجمةُ قطيعةً مع مجموعِ مُحاولاتِ التّرجمات التي كانَ يُنجِزُها كثيرٌ من الدارسين والمُترجمين لشَذراتٍ منْ عَمله للتّدليلِ تارةً، أو لِخوضِ غمارِ ترْجَمة النص كَكُلّ، ولكنّهُم كانُوا يصطدمون، بصعوبةِ التّعامُل مع أعمالِه التنظيرية والإبداعية.
ويُعدّ موريس بلانشو منظِّراً أدبيّاً وناقداً إضافَةً إلى كوْنِهِ روائيًّا؛ رغمَ أنّ شِعريتَهُ، في عمله الرّوائي Thomas l’obscur (1941) تُظهر سَرديةً مثيرةً للاهتمام. وإلى جانِب ذلك، كان بلانشو من مُنظِّرِي الفكر الأدبي الباحث في الـمُتَغَيِّر، وغيْرِ المُطمئِنِّ إلى المُؤكَّد، والصّعبِ داخل الواقع الثقافي والاجتماعي وصَهْرِه في الـمُجتمعات النّصية أدَباً ونقْداً. لذلك فقَدْ بدا تأثِيرُهُ واضحاً في كتاباتِ جورج باتاي، وجاك دريدا، انطلاقاً من تخريب وتفكيكِ الثنائيات الميتافيزيقية الثابتة التي تحْتَكِمُ إليها الـمؤسّساتُ والتّمثلات العقلية والاجتماعية (عقل ـ جنون، جسد ـ روح) التي تَعْمَلُ على بناءِ أدبٍ في أحلامٍ شُـموليّة أو تَخيِيلات تُسطِّرُ لنفْسِها خطّاً أحاديّاً متّزِنًا غيرَ قابلٍ للرّفضِ.
وإذا كانَتْ للكتاب سُلطتُه المستمدة من طبيعتِه ذات الأبعاد الفكرية والفلسفية والأدبية، ومن اسمِ مُؤلِّفه الذي راكَم نِتاجاً لهُ التعدّدُ الشُّسُوع، فإن للترجمة التي أنجزَها الشنتوف سُلطة أيضاً، بالنظر إلى كونِها الأولى منْ نوعِها التي تُعْنى بترجمةِ عملٍ فكري كامِلٍ لبلانشو.
يَضَعُ عز الدين الشنتوف للكتاب، بعد الشُّكْرِ، مُقدّمةً موسَّعةً يتناولُ فيها جوانبَ من سيرة بلانشو، التي كان لطفولَتِه الأثرُ البالغ في مَا ستؤُولُ إليهِ حياتُه لاحقاً؛ بعد الخَطَأ الطبّي الذي تَعَرّضُ له أثناءَ عمليةٍ جراحيّة أُجْريَت لهُ، وما اسْتَتْبَعها من آلام نفْسيّةٍ وجسَديةٍ ستَبْرُزُ تجَلّياتُها في مُخْتَلِفِ أعمالِهِ الإبداعية. وهكذا، اسْتَعْرَضَ المُتَرْجمُ بعْضاً منْ مُؤلفاتِ بلانشو بدءاً برواية Thomas l’obscur، ثم مؤلَّفَي Le dernier mot، وL’idylle اللذين ضمّهُما في كتاب Le ressassement éternel الذي كشف عن سيرةٍ ذاتيةٍ يتبَدّى فيها مَوْضُوع اليُتْم والضّياعِ والتسَلّط، جرّاءَ وفاةِ الأبِ وزواجِ الأمِّ منْ رجل دولة مُتسلِّطٍ وفاسد. ثم ستَأتي كُتبٌ أخرى لاحقة منها Faux pas، وL’espace littéraire ، وLe livre à venir، وهيَ نُصوصٌ راهَنَ فيها بلانشو على فتْحِ الأدبيِّ على السياسي على الفلسفي على التاريخي، على علم الأديانِ المُقارن، ومحاولةِ الإجابة على سؤال «كيف يكون الأدبُ مُمْكِناً؟». وعلى امتدادِ هذه الإضاءةِ يكْشِفُ عز الدين الشنتوف عن مُتأمّلٍ يقِظٍ للمَحطّاتِ المُوَجِّهَةِ في حياة موريس بلانشو، مع إنصاتٍ عَميقٍ لمَا تَقُولُه أعمالُه الإبداعية والتنظيرية، وهي تتأمَّلُ ذاتَها، غير بعيدٍ عن أجواءِ الكِتاب المُتَرْجَم، الذي يَعُدُّهُ مؤلِّفُه الكتابَ الأخيرَ، على الرغم من أنّه ألّفَ بعْدَهُ كُتباً أخرى، على أَنّنا نخْتارُ بَعْضَ المداخِلِ لقراءَة هذه المقدمة:
1. «الفاجعة» مقابل
لـ Désastre :
بعْد أنْ ترجم كثيرُون Désastre بـ»الكارثة» أو «الخراب»، حاوَلَ الشنتوف تَتَبّعَ مَسيرِ وُرُود هذه الكلمة في مختلِف نصوص بلانشو، مُشيراً إلى أن أوّل حضورٍ لها كانَ في مقالٍ منشورٍ في مجلة «Comité»، حيث قصَد به تَغيُّرَ النّجمِ وخرُوجَهُ عن مداره، أو ما أسْماهُ أيضاً الخروجَ من الفضاءِ التاريخيِّ. وهكذا ستحضُر هذه الدلالَةُ في الشّعر، في كتابه La par du feu، ليُصبحَ «الشعر مملكة الفاجعة». ومَع هذا الكتاب، ستنفتح دلالة الفاجعة على التّجربة الخاصة لبلانشو فِكْراً وإبداعاً.
عنوانُ الكتاب مُلْتَبِسٌ؛ وهو ما يجعل الشنتوف لا يستسلمُ سريعاً لهذا الاصطلاح، بلْ تَراهُ يُسائِلُ الصّوغَ المفهومي للفاجعة: أهي حادِثَةٌ تاريخيّةٌ مَخصُوصَةٌ، أم هي حادثةٌ يمكِنُ أنْ تقع في الزّمان والمكان؟ وهل هي مُعطى واقعي؟ ثم هل الفاجعة هي موضوع الكتابة؟ أو أن الفاجعة هي فاعل الكتابة؟ كما يحتمل أن تكون الكتابة هي الفاجعة ذاتها، فقانون الفاجعة يجمع ويبعثرُ ليشكك في كل يقينية. فإذا كانت الفاجعة معتمة ومستقبلية عند ملارميه، فإنها عند بلانشو مطلقة ونكوصية، تبدأ من وصف العمل الأدبي، لتجعل الإطلاق سمتها المتحكمة، بمعنى أنها الباقية بعدما يقال كل شيء، بما هي «دمار للكلام وفشل بالكتابة» («كتاب الفاجعة»).
«كتابة الفاجعة» اختبارٌ حقيقيّ للشذرة من داخِل الشذرةِ ذاتِها، فهيَ لا تُتيحُ الإنصاتَ للّغة في أوضاعِها المختلِفةِ، من حيث انفجارُها وتشتّتُها اللانهائي، وإنما تعكسُ أيضاً جمالياتِ المُتقطّعِ.
2. تجربة الكتابة وكتابة التجربة:
يَتَنَبّهُ الشنتوف إلى انْهِمام بلانشو، فكرياً، بالكتابة بِما هي «تجربةُ بحْثٍ وحركةٍ مُوَجَّهَة نحْو نقطةٍ دائمةِ الاحتجابِ، تُعَدُّ أصْلَ الكتابة» («كتابة الفاجعة»). على هذا الأساس، تُسائِلُ الكتابة، عند بلانشو، فضاءً وُجوديّاً مُقلقًا في طُمأنِينَتِه، متأمّلةً الأثرَ الخفِيَّ للمحو على الـكتابة؛ بِحيْثُ يتيحُ الـمحو التّحرّكَ داخِلَ الفراغ بكلّ حرية، لِتَتَحرّى مكان البدايَة ولحْظَةَ الـمآلِ. ويرى الشنتوف «أن مفهوم الكتابة عند بلانشو لا يتَأتى إلا منْ خلال الكتابة ذاتِها، بمعنى ينظر للكتابة بالكتابة، ويختار التخييل والتنظير صيغتين متوازيتين» (من حوار ليندا نصار مع المُترجِم، والمنشور في «العربي الجديد»). وحينَمَا يُركّزُ على تجربةِ الكتابة لا يَنْظُر إلى أنّ الكتابَةَ هي تَقَوْقُعُ الأدب على ذاته، بل هي انفتاحٌ على التجربة الإنسانية كلّها، ولذلك فالأدبُ، بالنسبة إليه، هو التجربةُ نفسُها، بما هيَ تجربة كليةٌ داخِلَ فضاءٍ يُمثّل مُنعقَد الاشتِباهِ. في هذا المَعنى يتجاوزُ مفهوم التجربة ذلكَ التعارضَ القائمَ بين ما هو داخلِيٌّ وما هو خارجيٌّ، أو بينَ الذات والموضوعِ. وبالنظر إلى أنّ الأدبَ ليسَ، فقط، حالةً نفسيّةً أو استبطاناً ذاتيّاً لموضوعٍ ما؛ فالأنا لا تَعْثُرُ على صورَتِها في العالم، كما أنّ العالَمَ لا يَصيرُ عالَم الذّاتِ. أما أصَالةُ التعبيرِ ومعناهُ فلا يجِدُها إلا حينَما تَمّحي هذه الأصالةُ في التّواصُلِ الكونِيّ. ويعني ذلكَ أنّ الفضاءَ الأدبِيّ لا يَرومُ تشيِيدَ حقيقةِ العالم، بل يَظَلُّ في حالِ تَرَقُّبٍ للمُمْكنِ.
3. الشذرة رهاناً للكتابة:
«كتابة الفاجعة» اختبارٌ حقيقيّ للشذرة من داخِل الشذرةِ ذاتِها، فهيَ لا تُتيحُ الإنصاتَ للّغة في أوضاعِها المختلِفةِ، من حيث انفجارُها وتشتّتُها اللانهائي، وإنما تعكسُ أيضاً جمالياتِ المُتقطّعِ. وإذا كانت كتابةُ الفاجعة تتأسّسُ على الشذرة، بما هي كتابَةٌ تدعُو إلى التناقُضِ؛ إذْ تزْرَعُ المزالِقَ بيْنَ كلّ كلمةٍ وتَحْمِلُ بناءَ الجُملة ضِدّنا، فإنّ الخصيصةَ الأساسَ للكتابة الشذرية تتبدّى وراءَ لغةٍ مُفكّكة، يُعلنُ إيقاعُها، بسخرِيّة، تناقُضاً مرتبطاً ببرَاعَةِ الشذريّ (لكنها، في الحقيقة، لا تتناقَضُ مع بعضها َبعْضا لأنّها مُسْتَقِلّة). وهكذا، فإنّ الشذراتِ تصطدِمُ بالأفكارِ، وَتُهَيّئُ للبياضِ الذي يفْصِل بيْنَهَا. إنّ الشذرة، كما يمارسُها بلانشو، ليستْ لها حُدودٌ داخليةٌ، لكِنّ كثافَتَها تحْمِلُ في طيّاتِها الحُبْسَة عندَ التّوقّف. لا امتلاءَ أو فراغَ للفراغِ الضيّقِ.
ويتَتَبّع الشنتوف، في مقدمته، مَسألة الكتابة الشذرية لدى بلانشو، ويرى أنها ممارسةُ كتابةٍ بدأت عمليّاً مع L’attente l’oubli في سياق الكتابة الروائية، قبلَ أن يمزجَ كتاباهُ Le pas au-delà، وL’écriture du désastre بين التأمّل النظرِيّ والإبداعِ السردي والشعري («كتابة الفاجعة»)، ثم يخلُصُ المُترجم إلى أنّ اللغة الغامضة، عند بلانشو، هي نفسها الخطاب؛ حيث إنّ اللغة لا تتحَقّقُ ما لمْ يتحقّق الخطاب ويكتمل.
وفي المقدّمة النّظرِيّة المُستفيضَة التي وَضَعَها عز الدين الشنتوف لهذه الترجمة (أربعون صفحة)، تشريحٌ وتحديدٌ لمجموعة من المفاهيم – المفاتيحِ التي تُشَكِّلُ عائقاً في الإنصاتِ لهذا العمل، ومنها: الحاصل، والمحايد، والمحو، والاستكانة، وهي إشكالاتٌ تقِفُ في وجه مغامرة قراءة العَمَل، بعْدَ مغامرة ترجَمَتِه، إضافةً إلى ذلك، تنبَّهَ الشنتوف، في مقدمته، إلى ثلاثِ لحظاتٍ مِفْصلية وسَمَت الحياة الأدبية لموريس بلانشو، وهي لحظة هوسرل، ولحظة هيدغر، ولحظة لحظة ليفيناس. وقد راهنَ من خلالها المترجم على استِجلاء أثَرِها في الممارسة الإبداعية والتنظيرية للمؤلِّف. لا يكتُبُ موريس بلانشو في «كتابة الفاجعة» على نَمطٍ أو أسلوبٍ واحدٍ، وإنّما ترَاهُ في كلّ شذرةٍ يُدمِّرُ ما بناهُ وأسّسَ لهُ. ومَعَ هذا التّراوُح، جيئةً وذهاباً، هدْماً وبناءً، يصطدمُ القارِئُ بصعوبةِ اللّحاقِ بهَذا المُنْفَلِتِ، فيستشْعِر قلقاً في العبارةِ، وتِيهاً في المَعْنى، ولعل هذه الخصيصات أبرز ما يسم هذه الكتابة بالفرادة. لقدْ أخرجَتْ هذه الترجمةُ موريس بلانشو إلى دائرة الضوءِ عربيّاً، وضَمِنَتْ استمراريةَ كتابَتِهِ، بلْ يمكِنُ عدّ نقل هذا العَمل إلى العَربِية فاجِعَةً أخرى تنْضافُ إلى فاجِعَة تلقّيه. ولا شكَّ في أن ترجمةَ عملٍ فكريّ، بهذا الحجم والنوع، قد تطلبَت من المُترجم جُهداً كبيراً في القراءةِ والفَهمِ والتأويلِ، والاطلاع على مجموع كتابات بلانشو، وما كُتِبَ عنه، إضافةً إلى ما تطرحُه الترجمة من إشكالات، وهو ما سَيسمَحُ للسؤال النقدي بالتوَجُّه نحْوَ مُمْكِناتهِ القُصْوى.
قراءة مميزة تظهر قيمة الترجمة التي أنجزها الدكتور الشنتوف.
شو حلو الكتاب
بس ماكو يجي عل العراق