كتاب «أوهاج السَّرد المغاير»: النَّص في التجربة النقدية

شهدت الرواية والقصة في مشغل الكتابة الإبداعية العربية في النص الثاني من القرن العشرين مظاهر تحول على المستوى التقني، حيث بدأت تفعِّل من حضورها في مغادرة القوالب التقليدية، من هنا رصد جاسم خلف إلياس عينات مختارة من هذه التحولات في كتابه الصادر عام 2022 «أوهاج السرد المغاير» وبعنوانه الفرعي»مقاربات في السرد العربي الحديث» متناولا فيه مجاميع قصصية لنخبة من الكتاب العراقيين، باعتبارها نماذج تطبيقية لتبيان الحضور الواضح في تجاوز النمطية المجترة، والكُتَّاب الذين توقف عند كتاباتهم هُم: قيس عمر، ثامر معيوف، عمار عبد الباقي، فارس الغلب، نزار عبد الستار، سفيان رجب. وقد قسّم الكتاب إلى مقدمة وستة مباحث.

إشكالية التجاوز وخلق القطيعة

استهل المؤلف إصداره بمقدمة، أكد فيها أن السرد المغاير لا بد أن يثير إشكاليات معينة، وتعد إشكالية التجاوز وخلق القطيعة مع السائد والمألوف من أبرزها، والمسألة التي دونها المؤلف، أن الكاتب العربي لكي يصل إلى المتعة المغايرة قد توسل بالعجائبي والشعري والتداخل الأجناسي، وأن التغيرات جاءت مبنية على دوافع اجتماعية وثقافية وسياسية، فظهرت أشكال سردية تكاد تكون عابرة لنوعها المتعارف عليه. وتحت عنوان «شعرية الرواية القصيرة» لاحظ إلياس أن انفتاح الرواية وابتعادها عن مسارها المحدد جعلها تقترب من السرد، بوصفه نوعا كتابيا يتخذ من التلاعب بالأحداث والشخصيات والزمان والمكان، منطلقا لارتياد أفق السرد التجريبي، ومن النص المفتوح بوصفه نوعا أدبيا يتخذ من البناء والتكثيف الدلالي، وهاتان ميزتان شعريتان معروفتان في الاشتغال الشعري، منطلقا لارتياد الأفق ذاته، ولأن علاقة التحولات السردية بالواقع علاقة ترابطية، لا بد من إعطاء رؤية واضحة عن هذه العلاقة.

إشكالية التجنيس

وفي إطار مناقشته «شعرية النوع الأدبي «يطرح الكتاب فرضية، يؤكد فيها على ضرورة تحديد النوع الأدبي الذي ينتمي إليه النص كمقدمة في الدراسات الأدبية، باعتبارها إشكالية برزت من إشكاليات العصر المتعددة ألا وهي إشكالية التجنيس. وأن معرفة النوع الذي ينتمي إليه النص تفترض وجود بعض الأسس التي تثبته وتحدده، وهذا ما تفرضه ضرورات البحث عن الأصول والتحولات النوعية. ولأجل أن يقارب الرواية القصيرة بوصفها انزياحا نوعيا، سعى في بحثه إلى تحديد شعريتها، وذلك بتفكيك مصطلح «رواية قصيرة» في ضوء نظرية النوع، لكنه يستدرك موضحا أن الأعمال التي تقع في حجم متوسط بين الرواية والقصة القصيرة، ظلت أعمالا مربكة للنقاد في مسألة تصنيفها، خاصة في ظل الأدب المعاصر، الذي تميل معظم رواياته إلى القِصر، ما دعا النقاد إلى التمييز بين ثلاثة أشكال من الفن القصصي: الرواية، النوفيلا، القصة القصيرة. وبعد أن يستعرض خصائص كل نوع، مستعينا بآراء النقاد والأكاديميين، يختار رواية «فارابا « للروائي عبد المنعم الأمير، نموذجا نصيا في التحليل والتدليل، لأنها حسبما يرى تتوفر على أغلب الاشتراطات الفنية، بدءا من التداخل النوعي بين القصة والرواية، وانتهاء بالتوصيف التجنيسي، الذي يضع كل نوع في موقعه المستقل عن الآخر، مرورا بتشظي الأحداث، الذي وسع فضاءها السردي، فأبعدها عند حدود القصة القصيرة، وقربها من حدود الرواية.

تمظهرات الأنساق الفنتازية في قص ما بعد الحداثة

في المبحث الثاني «تمظهرات الأنساق الفنتازية في قص ما بعد الحداثة» أشار إلى أن توظيف الفنتازيا في كشف الواقع المتردي، يعمل على تجاوز الواقع واحتمالاته، في حدث أو سلوك أو موقف يستحيل حدوثه واقعيا، ويؤدي كل من الحدث الفنتازي أو الشخصية الفنتازية في الوجود النصي الواقعي إلى تأكيد التمرد والغضب، مهما اتخذ من صيغ لا مألوفة. وفي موضع آخر يرى أن الفنتازيا تعد من الآليات الفاعلة في إنتاج نصية تعتمد التشويش والتغريب، وقد وجد في المجموعة القصصية «جذامير» للقاص قيس عمر ما يسعى إليه من مقاربة يرصد فيها توظيف الفنتازيا في كشف الواقع وتجاوزه، فالقاص قيس عمر ينحاز في مجموعته إلى تشاطر الواقعي مع الأنساق الفنتازية، كما وجد فيها نحتا نحو التحولات، للحصول على جماليات ذات طاقات تحتفي بمظهرها التجريبي، المتمثل بإيجاد صيغ وتراكيب غير مألوفة.

أسطرة الواقع وأسئلة الوعي

وتحت عنوان «أسطرة الواقع وأسئلة الوعي» يستقرئ في المبحث الثالث المجموعة القصصية «رائحة السينما» للقاص نزار عبد الستار، راصدا آليات تحويل الواقع إلى بنى أسطورية تتناظر رموزها مع اللغة تناظر العلامة والمدلول، تناظر المعنى والمعنى. والقاص عبد الستار كما يراه المؤلف من القصاصين الذين تميزوا بجرأتهم في رفض الواقع المأساوي في مواضعه الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو عندما يرفض هذه البنى بوصفها موضوعاتية، فلا بد من رفضه للبنى النصية التي تتقوقع تلك البنى في داخلها.

غواية التجاوز والقطيعة

المبحث الرابع حمل عنوان «غواية التجاوز والقطيعة» تناول فيه تجربة القاص فارس الغلب، باعتباره من أبرز كتاب القصة، لأنه يشتغل على إحداث القطيعة مع السائد والمألوف، وفي مجموعاته القصصية هناك اقتراب من الفضاء الشعري المؤثث بالمتغيرات الجمالية، التي جمعت بين الخيال والواقع، وبين الترميز الشفاف والاغماض، وتم تشخيص غواية القص عند فارس الغَلب، ضمن كشوفات إجرائية نقدية على النصوص السردية في مجموعته «خربشات سعيد بن هدالج» مبينا بنيتها الجمالية من خلال تشخيص غواية التقانات السردية في مستويين خارجي وداخلي.

كفاءة تحولات القص القصير

المجموعة القصصية «سكان الهلاك» للقاص ثامر معيوف، تناولها الكتاب في المبحث الخامس، باعتبارها نموذجا نصيا لتحولات القص نحو المظاهر السحرية، وفاعليتها في التعبير عن «كفاءة تحولات القص القصير» ومغادرته للمألوف والتقليدي. وفي هذا السياق أشار المؤلف إلى أن كتاب القصة القصيرة في العراق منذ العقد السادس من القرن العشرين، عملوا على إزاحة الاشتراطات الفنية للقصة القصيرة الجاهزة، واتجهوا إلى التحولات العميقة التي تنأى بها عن مشهدها التقليدي.

تحولات القص المغاير

يرى المؤلف أن التحولات النوعية التحتية، أو المجاورة، قضية محورية في التجريب القصصي، لأنها تعمل على إزاحة البناء من المغلق إلى المفتوح، فتقترح مكونات نسيجية متفردة، تعتمد على متغيرات جزئية أو كلية، فينهض هيكلها الحكائي على تقانات تتضافر فيها اللغة والرموز والدلالات، لتأثيث تشكيل نصي لا يؤسس حبكة معقدة، بقدر ما يصوغ قصا مغايرا للمألوف، ومن هذه الرؤية وجد أن القاص سفيان رجب في مجموعته القصصية «وسادة الكسل» قد انطلق في رؤية مغايرة، تبحث عن الجديد في البنية القصصية، لا بوصفها موضة عابرة، بل ممارسة كتابية تواصل محاولاتها للتخلص من هيمنة السرد التقليدي.

إشكالية التجنيس المرواة والمدونة

وتحت عنوان «إشكالية التجنيس.. المرواة والمدوَّنة» اشتغل المؤلف على قراءة نصوص عمار أحمد عبد الباقي، التي موضعها تجنيسيا، تحت مسمى «المرواة» وأصدر ضمن اشتغاله هذا عددا من المؤلفات، منها «عليَّ بالقوس إذن.. أيتها الجوانح» و»بيبونا». وعن محاولات عبد الباقي في اجتراح تجنيس جديد، يقول عنه المؤلف «إذا كان هذا الاجتراح فيه من التوجس والحذر الكثير، لأن عبد الباقي يضعنا على تماس دائم مع الجذر اللغوي لهذه المفردة وأعني (رواية) فإن محاولاته تبقى خارج السياقات المتعارف عليها في التجنيس.
جاسم خلف إلياس ناقد أكاديمي متمرس، سبق أن أصدر العديد من الكتب النقدية، التي وقف فيها برؤية الفاحص أمام إصدارات إبداعية عراقية وعربية في حقول الرواية والقصة القصيرة والشعر، وفي كتابه هذا يؤكد أنه سعى إلى تشخيص الخصائص النوعية للرواية القصيرة، إذ خضع السرد في تحولاته لآليات الاشتغال بأنواعها المتعددة، بوصف الرواية نوعا أدبيا قلقا في صيرورته التاريخية.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية