كتاب «ثلاث هويات ووطن مفقود»: عندما عادت يافا إلى خريطة فلسطين

المرة الأولى التي عثرت فيها على اسم عارف حجاج، كان في إعلان لجمعية «أصدقاء الفن والثقافة العربية» عن محاضرة سيلقيها حجاج في مقر الجمعية في هايدلبرغ، ويقدم فيها كتابه باللغة الألمانية «وطن مفقود وثلاث هويات».
بداية دفعني الفضول إلى التعرف على كاتب فلسطيني يكتب بالألمانية، ويعيش منذ ستينيات القرن الماضي على أراضيها، حيث جاء إليها طالباً، ودرس العلوم السياسية والتاريخ في هايدلبرغ، ثم حصل من جامعتها العريقة على شهادة الدكتوراه. ولم تمض سوى دقائق معدودة حتى تحول الفضول إلى إعجاب، فعارف حجاج يتحدث لغة غوته بفصاحة يعجز عنها أبناؤها الشرعيون.
خلال المحاضرة قرأ حجاج مقاطع من كتابه، وأجاب بطلاقة على أسئلة الحضور الألماني. وعندما سجلت اعتراضاً على مصطلح «عرب إسرائيل» ووجوب استبداله بتعبير فلسطيني الداخل، أعرب حجاج عن اعتذاره على زلة لسان غير مقصودة، لكن أحد الشبان الفلسطينيين الحاضرين تدخل، قائلاً: عرب إسرائيل اليوم، هم من يعقدون صفقات السلام معهم. ضحكت مع عارف على ملاحظة الشاب التي قالها بالعربية، فلم تسترعِ انتباه الجمهور الألماني. وعند انتهاء المحاضرة، قلت له:
أنت تتحدث لغة غوته ببلاغة المتنبي، وكانت هذه العبارة فاتحة لحوار مطول بيننا، أردته لقاءً صحافياً، لكنه بدا أشبه بحوار بين صديقين حول طاولة مقهى.
وعمدت إلى حذف أسئلتي مكتفية بأجوبة حجاج، وعند الضرورة أضفت ملاحظاتي في نهاية المقطع.

في البدء كانت هايدلبرغ

عندما أتيت إلى ألمانيا كنت شاباً صغيراً، وبدت برلين لي حينها مدينة كبيرة، أما هايدلبرغ فقد أحببتها من النظرة الأولى، فشاعرية المدينة الغافية على كتف نهر النيكر، تخطف القلوب. وفي هذه المدينة الجامعية اكتشفت جمالية اللغة الألمانية وواجهت الأسئلة الوجودية، ولهذا كل عودة إليها، هي بمثابة رحلة في الذاكرة.
وأنا استمع إلى عارف يتحدث عن شبابه في المدينة، تذكرت سيدة مسنة جاءت إلى المحاضرة على كرسي متحرك، وانتظرت انتهاء النقاش، لتطرح سؤالها البسيط: هل تتذكرني يا عارف؟ وعندما اعتذر حجاج على خيانة الذاكرة، أجابته بأنها مونيكا. لحظتها غمرت السعادة وجه عارف المذهول من وقع المفاجأة، فمعرفته بمونيكا، زميلة الدراسة، تعود إلى خمسين سنة، صحيح أن السنين والأمراض غيرتها كثيراً، لكنها ظلت وفية للصداقة، وها هي اليوم تتكبد المشقة على كرسيها المتحرك كي تلقي السلام على رفيق السكن الجامعي القديم.
وكأن هايدلبرغ على العهد دائماً، فلا يمكنك أن تشرب من مائها إلا وتعود إليها، ولا يمكنك أن تدرس في جامعاتها إلا وتلتقي برفاق الدرب مهما طال الزمن.

بين الحقيقة والشعر

كتبت هذا الكتاب على شكل انطباعات شخصية وتأملات سياسية. وقد استعنت في كتابته بلغة غوته، الكاتب العظيم الذي كتب سيرته في كتاب «حياتي بين الحقيقة والشعر» أما انا فقد حاولت كتابة سيرتي المتواضعة بين الحقيقة والخيال. وقد خلقت في الكتاب شخصية نادر الفلسطيني المندمج في المجتمع الألماني، وعلى لسانه سردت تغريبتنا الفلسطينية، وعلى الرغم من أن نادر يبدو وكأنه قرين عارف، لكنه أكثر فضولا مني، وقادر على التعبير عن مشاعره بسهولة أكثر منه.
بالمقابل خلقت شخصية رامي وجعلته القطب الآخر لنادر، وهو شخصية مركبة من شخصيات عديدة أعرفها، وقد جعلته يعيش نوعا من الفصام مع الواقع، حيث إنه يؤمن بنظريات المؤامرة ويرفض الاندماج في المجتمع الألماني.

ثلاث هويات

هويتي ثلاثية الأبعاد، فأنا فلسطيني المولد وأعيش حالياً في مدينة بون الألمانية مع زوجتي السويسرية. انتمائي للبلدان الثلاثة مركب أيضاً، حيث فلسطين تحتل القلب، ورأسي ألماني الهوى، فأنا أكن الكثير من الاحترام لقدسية العمل في ألمانيا، وأثق بالمنتج الألماني، بما فيه الفلسفة وعلم الاجتماع. وقد تأثرت كثيراً بعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وكتابه الشهير «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» وأشعر بعيداً عن الدين، بأن ألمانيا هي جمهورية بروتستانتية فيما يتعلق بالعمل والأخلاق والمشاعر، لكن الجميل في البروتستانتية، أنك تستطيع الخروج من الكنيسة متى أردت ذلك. أما سويسرا فأنا فيها زائر، وإحساس السائح لا يغادرني رغم استمتاعي بجمال الطبيعة فيها، لكنني كأي سائح أشعر بالحاجة للعودة إلى بيتي.

معنى الوطن

لا بد أن يحيل سؤال الهوية إلى تعريف الوطن، لكنني لا أعرف إحساس الوطن الذي فقدته، وأعجز أحياناً عن مقاربة إحساس عاطفي كهذا بعقلانية. بالنسبة لي فلسطين هي التزام سياسي، فقد وقع علينا كفلسطينيين ظلم كبير، لم نشفَ منه بعد.
لكن فلسطين أيضاً هي التزام عاطفي، فالبلاد كانت دائماً حاضرة في حكايات أمي وأبي عنها. ولطالما كان مسقط رأسي في مدينة يافا، محرضاً لكثير من الأسئلة في المطارات والدوائر الرسمية، ومحرضاً لكثير من النقاشات خارجها.
ورغم أن اسم يافا يحيل دائماً إلى برتقالها، لكنني لم أتذوق برتقالها إلا متأخراً، فالمدينة التي غادرتها طفلاً، عدت إليها كهلاً بجواز سفر ألماني، ولم أجدها على خريطة فلسطين، ولعلي استطعت لمرة واحدة إعادتها إلى الخريطة، عندما تسلمت شهادة الدكتوراه في ألمانيا، حيث أصررت رغم كل الصعوبات البيروقراطية، أن تكتب يافا في فلسطين، كما كانت تسمى يوم ولدت فيها سنة 1943.

المأزق الفلسطيني

أنا الفلسطيني عشت أجنبيا في بيروت والكويت، بالمقابل منحتني ألمانيا صفة مواطن ألماني، يتمتع بكامل الحقوق والواجبات. أما المأزق الذي أعيشه كفلسطيني، يتمثل في عدم مصداقية ألمانيا في التعامل مع إسرائيل، وهذا يعود إلى شعور جماعي بالذنب يلازم الألمان منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم وحشية ما ارتكبته النازية بحق اليهود، لكن هذا لا يمكن أن يبرر التغاضي عن الجرائم التي ترتكبها دولة إسرائيل اليوم بحق الفلسطينيين. وأكثر ما يزعجني هو النفاق لدى بعض الألمان في كيل المديح لإسرائيل، عندما يعرفون أنني من يافا. وعندما أستوقفهم موضحاً أنني من فلسطيني يافا، يغيرون اللهجة تماماً، ويبدؤون بإدانة إسرائيل. النفاق الألماني يقابله نفاق من نوع آخر لدى الحكومات العربية، التي تكره الفلسطينيين وتحب فلسطين. ولطالما استخدمت القضية الفلسطينية من قبل السلطات العربية كواجهة لقمع شعوبها. في المقابل فأنا ألقي اللائمة على بعض الفلسطينيين، لأنهم يغفلون ضحايا الشعوب المجاورة، فلا يمكن لمن يعاني من الظلم أن ينكر الظلم الواقع على الآخرين من حوله، والفلسطينيون ليسوا أول الضحايا ولن يكونوا آخرهم، ومن هنا فإن التضامن مع ضحايا الاضطهاد في كل مكان، حق وواجب أخلاقي بالدرجة الأولى.

شرق وغرب

على الرغم من ألفة ألمانيا، لكنها لا تصلح تماماً كي تصبح بلادي. فأنا أشعر بها فاترة، ولا أتحدث هنا عن الطقس، بل عن المزاج. فما زلت ابناً شرعياً لدفء الجنوب، وما زلت أحن إلى التعاضد العائلي في بلادنا. ورغم أني أشعر بثقل حس الفكاهة الألماني أحياناً، إلا أن الأفكار تأتيني غالباً باللغة الألمانية، التي تعلمتها شاباً وتشبعت بثقافة أهلها. واللحظات النادرة ربما التي أشعر فيها بالغربة، هي التي أواجه فيها بأحكام سطحية تتعلق بالإسلام، وكأنني أنا المسلم العلماني مسؤول عن كل التجاوزات التي ترتكب باسم الإسلام. في السابق عندما كنت شاباً في ألمانيا، كان يتوجب عليَّ الإجابة على الكثير من الأسئلة المعقدة حول الإسلام، كما لو كنت فقيهاً إسلامياً، إلى درجة أنني سألت والد صديقي الألماني يوماً، إن كان يعتقد أن شاباً مسيحياً في عمري، قادر على الإجابة على أسئلة مماثلة تتعلق بديانته، حينها فقط أدرك الرجل الفضولي ما أقصد إليه، وتوقف عن استجوابي.
اليوم لحسن الحظ نبت لي جلد سميك، وصرت أكثر معرفة ودراية، وربما أقل حساسية. ويمكنني القول إنني مندمج إلى حد بعيد في المجتمع الألماني ومنخرط في كثير من النشاطات واللقاءات، لكنني أرفض عن وعي الذوبان الكامل، وما زالت هويتي فلسطينية بالدرجة الأولى.

المترجم الخائن

أنا أعيش بين ثقافتين، وعندما عملت مترجما في وزارة الخارجية الألمانية، كنت بمثابة جسر يصل بين عالمين. وقد ترجمت للكثير من الرؤساء العرب، وعايشت العديد من المستشارين الألمانيين، لكن يبقى هلموت شميث الأقرب إلى قلبي، فقد كان مثقفاً لبقاً ومتحدثاً بليغاً. وخلال رحلة عملي كمترجم في وزارة الخارجية الألمانية، واجهت مواقف تستعصي على الترجمة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأشياء مجردة أو تقاليد اجتماعية ومفاهيم حياة. صحيح أنني كنت مترجماً أميناً لكنني لم أكن يوماً مترجماً حرفياً، وقد سمحت لنفسي أحياناً بخيانات مشروعة لإنقاذ مواقف محرجة، كما حدث يوماً في لقاء بين المستشار الألماني وزعيم عربي أثنى على إنجازات هتلر العظيمة للأمة الألمانية، حينها قفزت فوق العبارة كمن يقفز فوق لغم أرضي. وبينما كان عارف يتحدث معي عبر الفيديو من مكتبه، لمحت على الجدار خلفه صورة للزعيم السياسي المفضل لديه، لحسن الحظ لم يكن واحداً من الزعماء العرب الذين ترجم لهم، بل كانت صورة المستشار الألماني هلموت شميث.

فلسطين بطعم البرتقال والزيتون

في الفصل الأخير من الكتاب يسرد عارف حجاج تفاصيل زيارته إلى مدينة يافا وهو في العقد السابع من عمره، حيث لم يعد في سنه المتقدمة يثير الشبهات لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية. بداية يصاب بالصدمة من المسح الكامل للوجود الفلسطيني في يافا، وكأن 4000 سنة من عمر المدينة كان يهودياً بحتاً. أما الأمكنة التي يرد فيها ذكر الفلسطينيين فهي مواقع التفجير، وكأن الفلسطيني لا يكون إلا إرهابياً في إسرائيل. في آخر الرحلة يعثر عارف على بستان عائلته، لكن لا شيء يشبه صور الذاكرة وحكايات الأهل والأقارب. فالبئر أصبح حمام سباحة، وأشجار الزيتون اقتلعت وزرعت مكانها كتل إسمنتية. والغرباء صاروا أصحاب الأرض، وحتى قبور السكان الأصليين جرفتها البلدوزرات الإسرائيلية كما جرفت كل شيء حي. لا أدري لماذا تذكرت، وأنا أقرأ هذا المقطع الأخير من الكتاب، زيتون الجليل الذي ذقته قبل سنوات وابتلعت بذرته على أمل أن تنبت شجرة زيتون فلسطيني في أحشائي، كما في حكايات الجدات. ولأن زيتون الجليل لا بد أن يحيل إلى برتقال يافا، سألت عارف عن طعم البرتقال، فأجابني قائلاً: طعم برتقال يافا حلو المذاق لكنه ممزوج بالمرارة، وعندما تناولته صارت الحكايات تتماوج في رأسي بين الحقيقة والحلم. صحيح ألا بذور للبرتقال كي أبلعها لكنني شعرت بالغصة، وكأن يافا تقشر روحي كالبرتقال، بل شعرت كأن جلدي صار كجلد البرتقال.
الحقيقة أنني لم أر دمع عارف وهو يتحدث، لكنني شعرت بها، فالمترجم المرموق لا يتخلى عن الموضوعية والدقة، ولا يستسلم للعواطف الجياشة بسهولة.
لكنني وأنا أقرأ مقطع يافا، شعرت بأحاسيس دفينة بين الكلمات المنتقاة بحيادية. وعندما وصلت إلى نقطة النهاية، أغلقت الكتاب وأجهشت ببكاء طويل.

حاشية: لا أدري إلى أي مدى نجحت حقاً في سبر أغوار شخصية عارف حجاج، لكنني حاولت أن أتبع طريقته في الترجمة، حيث لا تنقل المشاعر والأفكار بحرفية لكنها تنقل بأمانة، ويمكنني أن أضيف بكثير من الحب أيضاً.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول شريدة سورية فلسطينية (ألمانيا):

    الكتاب باللغة الألمانية Heimatlos mit drei Heimaten
    يعني بالعربي «شريد بثلاثة أوطان» أكثر مما يعني «ثلاث هويات ووطن مفقود»

    1. يقول آية الأتاسي:

      ترجمة العنوان حصلت بموافقة دكتور عارف حجاج، وكما كتبت في نصي الترجمة لا تكون حرفية، هناك جانب أدبي يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار.

  2. يقول م. حمامي:

    بالنسبة الى موضوع المسح الكامل للوجود الفلسطيني في يافا فقد رأيته بأم عيناي عند زيارتي يافا مولد رأسي ومرسى أحلامي دائماً بعد غياب 50 عاماً من التهجير – كنت أمشي مع زوجتي في شارع اسكندر عوض , الذي عرفته وعمري 8 سنوات , ورأيت بعض الاسرائيليين مع سلّم طويل وأحدهم يثبّت قطعة حجرية وسط الزخارف الحجرية التي زيّنت أبنية هذا الشارع القديم المشهور , واقتربت من السّلم ورأيت عدة قطع حجرية منقوشة بأحرف عبرية – وتواً عرفت انها عملية تزوير , وعرفت بعدها انهم يقومون بعملها بكل مكان لطمس الهوية اللفسطينية – ولن يفلحوا . فلسطيني حر

  3. يقول سفيان العفتان دير الزور باريس:

    ترجمة ثلاث هويات أصح من شريد.لان شريدا ترجمة حرفية لا ترجمة معنى.اضافة إلى أن السيد عارف حجاج قالها بلسانه أنه من جذور فلسطينية وجنسية ألمانية وزوجته سويسرية.

  4. يقول محمود خزام:

    لغتك العربية أضفت كعادتها ذلك الجمال ودلاله ودلالت ، حين تنقلين للقارىء والمتلقي مادة مترجمة لكتاب او عن كتاب كما تفعلين الآن عبر هذا الحوار الشجي الآسر مع الكاتب والمترجم الدكتور عارف حجاوي وكتابه…
    التحية لك وللكاتب ..والتحية موصولة أيضا القدس العربي والزملاء القائمين عليها..

اشترك في قائمتنا البريدية