تسألني أمّ حريصة على صحّة ولدها في محلّ عملي، وكانت مصابة بنوع من الوسواس، عن أيّ خريطة تتّبعها للمحافظة على ابنها كي تجنّبه العلّة والمرض، وأجيبها بالحكمة في الحديث الشريف: «كفى بالسلامة داء»، وببيت شعر للجواهري:
«إن الحياةَ معاناة وتضحيةٌ حُبُّ السلامةِ فيها أرذلُ السُبُلِ»
ثم يبدأ حديثي مع السيّدة بالعلم بعد الأدب، وأبيّن لها أن قيمة المرء تقع في جوهره، ومركز هذا ليس في العين أو القلب، أو الذراع والكتف، وإنما هي في لُبّه، أي في ما ندعوه بالشخصيّة أو الكينونة، وأسهل تفسير لها هي ثقة المرء بنفسه، وأشرح للسيّدة بعد ذلك بالتفصيل كيف تربّي ابنها ليكون عِماده ثابتا كالطود.
الإنسان ليس بطّةً تُكال بالميزان، وإنما هو عظمٌ صلد غير مجوّف، يملؤه مقدارُ احترامك لنفسك وتقديرك للآخر، وهذا أسهل تعريف للثقة بالنفس، وقل لي كم هي ثقتك بنفسك أقل لك من أنت، فهي تملؤك أو تُفرغك فتغدو لا شيء أو أقلّ من ذلك، كما أن الثقة بالنفس تصوّرنا للآخرين مثل منحوتة يُقاس كلّ شيء فيها ويُحسب ويُنتقد من أربعة جوانب، وليس من جهة واحدة مثل الصورة الشخصيّة، ويقول لك المعلّمُ الذي جُبِلَ على تعلّم الحكمة وتعليمها إنك إذا علوتَ فلا تعلو بواسطة المال لحسن الحظّ، بل بما في ذاتك من همّة وتقدير للأمور بما يتطلّبها من جهد وتفكير ودنانير كي تُنجز وتتمّ بأحسن حال، وهذا تعريف آخر للثقة، وأصلها شعور قلبيّ وليس ذهنيّ، ويمتّ بالصلة إلى علم الاجتماع أكثر منه إلى علوم الطبّ النفسي والوراثة، أي أنه شعور طبيعيّ لدى البشر يمكننا غرسه في أعماق الشابّ أو الصبيّ، وحتى الطفل، كما أن الأبوين يستطيعان نزعه عنه بكل سهولة، بواسطة الضرب والإهانة وغير ذلك، مما يؤدي إلى أن يختلّ إيمان الابن بقوّته وجدارته في مواجهة الصعاب، بدرجات تتفاوت تبعا لما تبخّر من محيط ثقته بنفسه. الطرق الشديد يفلّ الحديد، وأعني به ضرب الطفل والصبيّ، وهذا شائع عندنا، وإذا بهذا المحيط الذي حَبَتْه لنا جِبِلّتنا يتبخّر في رمشة عين، وتغدو ثقة الطفل لمّا يكبر بقوّته وشلا لا يكفي لمجابهة هبّة ريح حين تقلّبَ صروف الزمان، فترميه هنا وهناك وهنالك، ولا مستقرّ له في مكان، فكيف يكون الحال عندما تدرك المرء ما هو استثنائي من تلك الظروف، أو ما هو خيالي؟
أحد السائقين الذين عملوا معي، وساعدوني على التنقّل بين أنحاء البلاد الرحيبة، روى لي مرّة كيف أنّه اختار أن يؤدّب ابنه بالضرب، على سُنّة أبيه وعمّه وأجداده. قال: «ولمّا تعبتْ ذراعي وكان تقديرها أن الصبيّ لم يزل في طور عدم الطاعة، هاتفتُ أخي وابن عمّي وطلبتُ منهما المجيء عندي لغرض معاونتي في تأديب ابني. واجتمعنا نحن الثلاثة في ذلك اليوم عليه، وكان حفلا تأديبيّا اشتركنا فيه، إلى أن طفرتْ من عيني ابني الدموع، وأيقنتُ عندها أن رسالة تأديبي قد بلغت فلذة كبدي.
كم يهتمّ الآباء بصحة الابن، وبالملبس والمأكل، إلخ، ويغفلون، أو أنهم لا يعرفون شيئا عن عملية زرع قوّة القلب والإرادة الحديد في النفس، وهي من أصعب الأمور في علوم التربية والتعليم، لأنها الأهمّ. ضرب الأبناء يجعل منهم كائنات مسخ لا تنتمي إلى الحيوان والنبات، بل حتى الحشرات لأن لا أحد منها يستعمل القسوة مع بنيه، أو بني جلدته، كما لو أن جميع الكائنات تعلم أن التأديب بواسطة الضرب وإلحاق الأذى يؤدّي بالنتيجة إلى ضعف الثقة بالنفس، ومن هذه الدرجة تنحدر نفسُ الكائن في دفع الأذى عنها إلى أسفل السافلين. كما أن الثقة بالنفس ينتج عنها شخصٌ صلبٌ يحترم ذاته ويقدّرها. في ماضينا السعيد كانت دروس الكشّافة من ضمن الجهود التي يبذلها المربّون في الدولة لاستنهاض الهمم لدى الشباب. السفرات المدرسيّة والتمارين الرياضيّة والتدريب على فنون القتال، وشيئا فشيئا يستطيع الصبيّ أن يقطع حبل سرّته بأبويه، وببقيّة أفراد الأسرة، إلى أن يستوي واقفا على قدمين راسختين، وكأنها الولادة الحقيقيّة للمرء…
كم يهتمّ الآباء بصحة الابن، وبالملبس والمأكل، إلخ، ويغفلون، أو أنهم لا يعرفون شيئا عن عملية زرع قوّة القلب والإرادة الحديد في النفس، وهي من أصعب الأمور في علوم التربية والتعليم، لأنها الأهمّ.
الحياة ليست نُزهة في حديقة، ولا سيرا حثيثا وخفيفا يشبه الركض في أرض معبّدة تدفعك الريح إلى أمام على طول خطّ سيرك، فهذا مفروش بالورد في بعضه، وتقطعه فجأة حفرة تملؤها الهاوية وعليك أن تثبَ فوقها، وبعد مترين يلاقيك حاجزٌ من الإسمنت المسلّح يجب أن تقفزه وإلّا عدتَ أدراجك وابتلعتكَ الهاوية، ويحلو لي هنا تشبيه الأمر بما يجري في رياضة الركض في الساحة والميدان الذي تتخلّله الموانع، وعليك أن تصلَ وهناك من يحصي لك الوقت والجهد والنفس ودقّات القلب، وكلّ هذا يجري في ميزان تضبطه لك الثقة بالنفس، إذا اهتزّت شعرةً في مفرقي فإنّني هالك لا محالة. لا ادّعي بالطبع أنّي قطعتُ الدرب مثل قذيفة لا يقف أمامها أشدّ حاجز، فقد هلكتُ وهلكتُ لكني تعلّمتُ في كلّ مرّة درس طائر العنقاء الذي احترق ريشه ولحمه ثم عاد إلى الحياة لأنّ عظامه امتصّت الحريق حتى فرغت من النخاع، وهبّت عليها الرياح واخترقت العظم، وغنّت لحنا حزينا يفطرُ القلبَ، وحصلت المعجزة عند ذاك، وعمل الفنّ عمله، وعاد اللحم والريش بأثر الغناء إلى جثّة الطائر الذي حلّق عاليا، وكلّ الفضل يعود إلى عظمه الصلد الحديد.
في أيام الحرب العراقيّة الإيرانيّة كان الجنود الجرحى يُتركون في ميدان المعركة وبطونهم مبقورة وجراحهم مكشوفة، وتمرّ عليهم الأيّام وهم على هذه الحال، فتعيش بين تلافيف المِعَى في بطونهم أو في صدورهم أو في جراحات الأطراف ديدان بيضاء اللون كبيرة الحجم تشبه الدود الذي يأكل الجثث في المقابر تماما. كان الجنود المساكين يصرخون في الليل والنهار طلبا للنجدة في الحياة أو الموت في سبيل الخلاص من الألم. وتعمل في مثل هذه الظروف آلة الثقة بالنفس، فهي إما أن تنجدكَ وتبقيك حيّا، وإذا كانت نسبتها المئويّة صفرا أو 10 أو حتى 30 في المئة، يكون الشعور بالرعب المضاعف هو سبب الموت وليس النزيف أو التسممّ الجرثوميّ في البدن. هل يتّصل المرء في هذه الأوقات بأسلافه البعيدين خاصّة، ممن لم يسمع باسمهم لأنهم عاشوا قبل مئات وآلاف السنين؟ أعتقد أن الجواب هو نعم خجولة لأن الأمر يحتاج إلى دراسة، وحجّتي هنا أنّ أجدادنا لم يموتوا فينا، بل هم أحياء يُرزقون من رزقنا، وتصير عليهم الشدّة وقسوة الظرف كذلك، ولأنهم أسنّ منّا وعاشوا في زمان كانت الشجاعة فيه هي وجه المرء، وليس العكس مثلما يحصل الآن، فإن بُقيا من ثمالة الجسارة لدى الأقدمين والقدرة على تحمّل الصعاب هي التي تنير قلب الجنديّ في الجبهة، وهو نصف حيّ ونصف قتيل، والديدان تأكل جوفه باستمرار في الليل والنهار.
ثم تنتهي المعركة ويصير اتّفاق بين الجانبين المتحاربَين أن يتمّ إخلاء الجرحى من ميدان القِتال إلى المشافي القريبة، وكان الجنود الجرحى يصلون بواسطة فرق الإنقاذ وبطونهم ملأى بهذا النوع من الدود، ويكون بعضه ملّ وشبع من الأكل وسار يتنزّه على صدر الجريح وعلى وجهه. تخيّلوا أن أياما قد تبلغ أسبوع وأكثر تمرّ عليكم وأنتم في أرض عارية وفوقكم سماء تمطر الماء والثلج، دون طعام وغطاء ودواء، وأنتم تعاشرون هذه الوحوش الدقيقة الحجم والكبيرة الأذى. أيّ لوحة سرياليّة يرسمها الإنسان بأفعاله في أخيه بني آدم؟ هي حرائق بالأحرى يمرّ بها المرء وليست موانع مثلما يحدث في عالم الرياضة، وكلّ حريق يأتي على طائر العنقاء ولا يُبقي منه غير رماد العظام، ومن هذه تسترجع الروح دورتها في الطبيعة، والسرّ في العودة والبعث من جديد أصله واحد، هو الشعور الصحيح والطبيعي بالثقة بالنفس.
جنديّ عراقيّ كانت قصّته قصّة، وهذه ليست من تأليف اليراع لأني شهدتها وكنتُ الطبيب المعالج. كان تجاوز الخمسين، وينتمي إلى ما يُدعى في ذلك الزمان (الجيش الشعبي) وهؤلاء لا تنطبق عليهم الشروط التي يجب توفّرها لدى الجنديّ المقاتل من جهة السِنّ والتأهيل البدنيّ، وفي المعركة التي دُعيتْ (الحصاد الأكبر) وجرت أحداثها شرق مدينة البصرة، أصاب الجنديّ صاروخ معاد يبلغ طوله ذراعا نبتَ في مؤخرته وخرقَ جوفَه البطنيّ واستقرّ في عظمه الفقريّ ولم ينفجر. روى لي الكهل بعد إنقاذه إنه كان يخاف الصياح والتأوّه من شدّة الألم لئلا ينفجر الصاروخ ويحيله إلى أشلاء صغيرة. كان يتجنّب النوم كذلك، فربما غفا وصرخ في أثناء النوم وانفجر الصاروخ. تحمّل الجنديّ الجراح والجوع وخطر انفجار الصاروخ، بالإضافة إلى مكابدة عِشرة جيوش الديدان في جوفه مدّة أسبوعين وكانت الدنيا ربيعا، وعندما تمطر السماء تُسقيه وتغسله من الحشرات، ثم تطلع الشمس قويّة وتعود الديدان إليه من جديد.
ارتدى الرجال المنقذين بعد انتهاء القتال ملابس تشبه الدروع ونقلوه بواسطة عجلة مدرّعة إلى المشفى، وارتدينا جميعا في صالة العمليّات، بما فينا العامل الذي يقوم بخدمة التنظيف، دروعا ونحن نزيل الصاروخ من مكانه، وقد كُتِبَ للجنديّ الشجاع الشفاء في النهاية وغادر المستشفى يسيرُ على قدمين ثابتتين، والتقيتُ به بعد ذلك بسنوات في قاعة للتمارين الجسمانيّة حيث كان يتدرّب ابني، ورأيته موفور الصحّة يجري ويلاكم ويرفع أثقالا يتمنّى أن يقدر عليها الشابّ اليافع.
كاتب عراقي
ليت الحرب مع إيران لم تقع …