«كلكامش» هي الأقدم التي عرفتها البشرية: عن أدب الملاحم

عبد الواحد لؤلؤة
حجم الخط
0

والمفردة «ملحمة» قد تُضلّل القارئ أو السامع في إدراك المعنى المقصود منها، لأن الكلمة حديثة الاستعمال نسبياً، وهي نادرة الورود، إن لم نقل عديمة الورود في كتب التراث. وقد حاولتُ عن طريق الشبكة «الإنترنت» أن أعرف تاريخ استعمال هذه الكلمة في العربية، فكانت أول النتائج أنها «مَجزَرَة» أو محل بيع اللحوم، مع صُوَر من اللحوم المقطّعة، وإلى جانبها صُور من اللحوم المشويات! ومن الطريف أني وجدتُ في إحدى دول الخليج لوحة إعلان كبيرة على واجهة محل تجاري تقول: «ملحمة الأمّة العربية» وإلى جانبها محل آخر، أحسب أنه يعود لصاحب الملحمة نفسه، فوقه لوحةٌ بنفس ألوان وخط وحجم اللوحة الأولى تقول «شَوّاية الأمّة العربية». مسكينةٌ هذه الأمّة العربية الضائعة بين التقطيع والشوي!
والكلمة المستعملة في الإنكليزية «إيبِك»epic مأخوذةٌ من الجذر الإغريقي الذي يفيد: «قصة طويلة عن إنجازات بطولية يقوم بها شخصٌ ذو قدراتٍ هائلة، وتعود أحداثها إلى أزمنةٍ قديمة من تاريخ بلاد ذلك البطل». وتُمثل كتُب الأدب والتاريخ الغربية لأنواع من الملاحم بدءاً من آداب الإغريق القديمة، مثل أعمال هوميروس في القرن الثامن ق.م. الإلياذه والأوديسّه، وعمل فيرجيل اللاتيني، في القرن الأول ق.م. في الإنياده. وثمة ملحمة «بيوُلف» في اللغة الإنكليزية القديمة «انكلوساكسون» وتأتي بعدها ملحمة مِلتُن «الفردوس المفقود» ومن الأدب الفرنسي لدينا «أنشودة رولان».
دخلت الكلمة الإنكليزية ذات الجذر الإغريقي في الاستعمال عام 1589 ولكن في القرون اللاحقة، وبخاصة عند ظهور ملحمة مِلتُن «الفردوس المفقود» عام 1674 صارت تُدعى «القصيدة البطولية». وقبل مِلتُن ظهرت ملحمة كبرى باللغة الإيطالية (عامّية اللاتينية) عام 1321 بعنوان «الكوميديا الإلهية». وكانت كلمة «كوميديا» باللغة الإيطالية في القرن الرابع عشر تفيد «حكاية ذات موضوع خطير بلغة عامّية» ولا تفيد ما آلت إليه لاحقاً بمعنى الهزل .
أمّا في العربية فأحسب أن أول ظهور لكلمة «ملحمة» كان في عمل اللبناني سليمان البستاني (1856- 1925) وذلك في أول ترجمة إلى العربية لملحمة هوميروس، الإلياذه:

ربّةَ الشِعر عن أخيل بن فيلا / أنشدينا واروي احتداماً نبيلا…
يا خفيفاً خفّت به الحركاتُ/ فاعلاتُن مُستفعِلُن فاعلاتُ.

والملاحم، كما نقرأ في كتب الأدب، تقوم في الأساس على الذاكرة ويتم تأليفها إرتجاليّاً وشفوياً ثم يُصار إلى تدوينها. وهذا ينطبق على الملاحم الإغريقية واللاتينية، وكذلك على ملحمة «بيوُلف» التي تتحدث عن أعمال بطل خارق القوّة يُصارع وحشاً بحريًا هائلاً ويقضي عليه دفاعا عن بلده في المناطق الإسكندنافية.

غير أن أقدم ملحمة عرفتها البشرية هي ملحمة كلكامش ملك «أوروك» في العراق القديم، ويعود تاريخها إلى الآلف الثانية قبل الميلاد، بينما أقدم ملحمة إغريقية تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد. وقد كُتبت هذه الملحمة بالخط المسماري من العهد السومري، على ألواح من الطين وُجِدت نسخةٌ منها في مكتبه آشور عام 1853 وقد ترجمها إلى العربية الأستاذ طه باقر. وكلكامش هذا مخلوق عجيب والدُه إله وأمّه من البشر، ثلثاه إله وثلثه بشر. وكان هائل الجسم عظيم القوه، ويطمح إلى الخلود فراح يبحث عن عُشبة الحياة في بحر دالمون، البحرين، فلما وجدها بعد مغامرات كبيرة عاد بها إلى أوروك، لكن الحيّة اختطفت تلك العشبة منه، فعاد إلى مملكته صِفر اليدين. لكن أول ما رآه عند بلوغه أوروك هو سور المدينة العظيم الذي كان هو قد شيّده، فأدرك أن الأعمال هي الخالدة.
باستعراض الملاحم حسب التعريف الأوروبي في أبرز أمثلته: هوميروس في الإلياذه، والكوميديا الإلهية في اعتمادها على قصص التوراة والخليقه والطوفان، ومِلتُن في اعتماده على القصص في الكتاب المقدس. نجد بروز شخصيةٍ واحدة ذات صفاتٍ فائقةٍ جَسَدية أو روحية تدخل في مغامرات مع شخصيةٍ ثانية وتنتصر عليها في ختام الصراع. وهكذا ينتصر البطل الإغريقي الغاضب آخيليس، ويقتل هيكتور ابن برايام ملك اسبارطه ويحقق النصر للإغريق. وأوديسيوس الذي يطوف البحار لعشر سنوات يتغلب على جميع مخاطر البحر ويعود إلى أهله منتصرا. والبطل في ملحمة مِلتُن كان دائما موضع جدل: هل هو الله أم الشيطان؟ لكن الصراع بينهما يشكل اللّبّ من الملحمة. وفي جميع هذه الملاحم توجد أرضية من الخرافات والأساطير.
والسؤال الآن: هل في تراث الشعر العربي ما يمكن أن يُسمّى ملحمة، حسب الأوصاف التي نجدها في الملاحم الإغريقية التراثية؟
والجواب الجاهز المباشر أن افتقار الثقافة العربية التراثية إلى الأساطير بالمعنى الأوروبي لم يساعد على ظهور الملحمة بمعناها الدقيق. فكلمة الأسطوره نفسها دخيلة على اللغة العربية وأحسب أنها تحريف عن»إستوريا» الإغريقية «الرومية» دخلت إلى لغة قريش كما دخلت كلماتٌ غيرها أثناء تعامل قريش في أسواقها التجارية مع أقوامٍ شتى. ولا تتمتع الأسطورة بصيغة الجمع، أساطير، باحترام في لغة القرآن الكريم: «إن هي إلاّ أساطير الأوّلين». وأحسب أن هذا هو السبب الرئيسي في عدم وجود الأساطير في تراث العرب الثقافي، وبالنتيجه لا نجد ملاحم عربية بالمعنى الدقيق.
وجميع الملاحم الأوروبية منذ هوميروس وصلتنا في قالب شعري، موزون في الشعر الإغريقي واللاتيني، وموزون وبعضه مقفّى في أمثله أوروبية لاحقة. والصفة العامة أن جميع الملاحم تتصف بالطول، والكثير من التفصيلات والإعادات والتكرار، في الغالب. لكن الشعر العربي التراثي لا يطيق هذه الصفات، لأنه قائم على أن «البلاغة في الإيجاز» لذلك نجد البيت الشعري التراثي العربي قائم بحد ذاته. وهذا يصدق على المطوّلات، أو القصائد الطويلة التي منها ما يصف بطولات عنتر بن شداد، وسيرة سيف بن ذي يزن، وتغريبة بني هلال في سيرته وبطولات المُهَلهَل ابن ربيعة الذي شارك في حرب البَسوس، وتصوِّر التغريبة أعماله البطولية. وفي هذه جميعاً ما يُذكِّرنا ببطولات الملك آرثر في الملحمة الإنكليزية. ولكن هذا لا يعني أن قصائد البطولة الطويلة في التراث العربي هي صورةٌ أولى للملحمة الأوروبية، وذلك لاختلاف الأرضية في الحالتين. ولكن ما يستدعي النظر أن تغريبة بني هلال مثلاً قد بدأت شفوية مُرتَجَلة على لسان الراوية ثم جرى تدوينها لاحقاً وبقيت تدور على ألسنة الرواة في مجالس السَمَر، في بعض البلاد العربية، حيث يكون «الحكواتي» الشخصية المركزية في بعض المجتمعات العربية.

وأذكر أني في أيام الدراسة العليا في أمريكا اجتمعتُ بطبيبٍ لبناني كبير السِنّ وقد هاجر إلى أمريكا في عشرينات القرن الماضي، واستقرّ في مدينه كمبرج القريبة من مدينة بوستن، حيث يكثر اللبنانيون المهاجرون. كان»الخويجة رزء الله» يحب الشعر العربي الفصيح والعامّي ويروي منه الكثير. مرةً ذكرتُ له أني مُهتَمٌّ بشعر الملاحم وبخاصة ما كان منه باللهجة العامية. فقال لي: هل تعرف تغريبة بني هلال باللهجة العامية اللبنانية؟ فلما اعترفتُ بجَهلي بذلك، محاولاً تشجيعَه ليسمعني ما لديه، باللهجة اللبنانية العريقة، قال إسمع:

لمّن يبرز لمهَلهَل لقبال جسّاس / بيحقّلّو يتهَلهَل قدّام هجروس
زِند اليمامي شَهَّل خيّا عابِس/ تضرب بالتفّاح العال، تضرب وتطِسّ …..

واستمرّ بالإنشاد مع كثير من التلويح باليدين والرأس….. فاضطررتُ لتوديعه خِشية أن يُتعبَه الحماس وهو يقترب من شباب التسعين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية