كل شيء تغيّر… حتى الاحتلال صار وحشيا

حجم الخط
2

 لم تكن محاكم الاحتلال العسكرية يوما مكانا مريحا للمحامين، الذين يدافعون عن الأسرى الفلسطينيين، ولا للأسرى أنفسهم، وبالطبع ليس لعائلاتهم. فهذه المحاكم التي باشرت عملها منذ اليوم الأول بعد انتهاء حرب يونيو 1967، خطط لها أن تكون الذراع التي ستُحكم قبضة المحتل على رقبات الفلسطينيين، الذين «يتجرأون» على مقاومة الاحتلال ويتحدون نتائجه العسكرية المبهرة بعد ستة أيام من حرب لم تنته فعليا حتى يومنا هذا.
لم ينفرد جهاز المحاكم العسكرية، ومعه المنظومة القضائية العسكرية، بمهمة قمع المواطنين الفلسطينيين والإمعان في معاقبتهم وردعهم، بل قام بهذه الوظائف إلى جانبهم جهاز القضاء الإسرائيلي المدني، وعلى رأسه «المحكمة العليا الإسرائيلية»، التي حرصت على مهمة تبييض ممارسات الاحتلال وتسويغه كحالة «طبيعية وقانونية» وليس جريمة بمقتضى المواثيق الدولية وأعرافها.
تاريخ المحاكم الاسرائيلية، العسكرية والمدنية، أسود؛ والحديث عن دَور قُضاتها في صناعة الظلم عبر سنيّ الاحتلال، يحتاج إلى كتابة مجلدات كبيرة. ما زال الأسير الفلسطيني، ضحية عزلاء في قاعات تلك المحاكم، لا يحظى بأية فرصة حقيقية للدفاع عن قضيته، ولا ينال إجراءات ما يسمى بقواميس عدل الأمم «المحكمة النزيهة». ومثله كنا، نحن المحامين، ندافع في معارك محسومة ضدنا مسبقا، أو كأننا نقف أمام طواحين الهواء، أو نركض في حقول كان القضاة فيها مجرد «فزاعات» تتحرك بدفع الريح، دون قلوب وبلا أرواح. كان معظم القضاة، وقبلهم المدّعون العسكريون، وقبلهم المحققون وقبلهم الجنود الذين اعتقلوا الأسرى، مقتنعين بأنهم يقومون بواجبهم المقدس خدمة لدولتهم، ودفاعا عن شعبهم، فالفلسطيني، هو عدوهم ويصير»ارهابيا» عندما يختار طريق النضال ضد الاحتلال. أما نحن المحامين، فكانت قطاعات واسعة بين الجنود والمدعين والمحققين والقضاة ينظرون إلينا غالبا، كموكلينا: «إرهابيين» يدافعون عن «إرهابيين».

هو الاحتلال يخاف ويجن ويتوحش عاما بعد عام فيبدل عصيّه ووجوهه وأقفاصه معنا وحسب

إنها حكايتي خلال أكثر من أربعين عاما وقفت فيها في مكاني الطبيعي، وعلى ضفة التاريخ الصحيحة، وشاهدت كيف كان يُهزم الاحتلال فيها في كل مرة كان يقف الأسير الفلسطيني امام سجانه، أو أمام قاضي المحكمة ويبتسم شامخا، رغم الوجع، في وجوههم، ساخرا من ذيل عتمتهم الخائبة. أربعون عاما حاول فيها الاحتلال، دون كلل، أن يبتلع نواصي الأمل الفلسطيني، وأن يئد خلايا أفراحهم؛ فكان يجرب ويفشل. كانت فلسطين تدفع مهورها، وكانت تلد بنات وأبناء يعشقون منازلة المستحيل، ويؤمنون بأن غدهم ينام في حدقات أمهاتهم ويفيق ينتظرهم عند نواصي البرق. هكذا كان العمر يمضي، وكان كل شيء حولنا يتغير ويتبدل؛ لقد صار الاحتلال أوحش، وسار جلاوزته على غرائز الطغاة في اشتهاء الدم واللهو عند سماع حشرجات الفرائس؛ وصارت فلسطين أوهن وأعجز، بعد أن خانها «الأخوة» وغدر بها الأشقاء وراحت تفتش عن ميناء لتلقي فيه مرساتها. أما أنا فكبرت في الهمّ وشعرت «بوحدي».. هرمت أحلامي ولم أعد احتمل صلف المحاكم ولا عربدة الجنود، ولا نزق القضاة. لقد قالوا : لكل زمن رجاله؛ ربما هكذا كان ولكن ليس في هذا الزمن، زمن الموت الحافي في فلسطين وزمن «لمّ شمل» جثث أبنائها في حفر الضمائر الغائبة. لم انتظر بروز هذا الجحيم منذ السابع من أكتوبر،؛ فعندما أحسست أن جهاز القضاء الإسرائيلي فسد بالكامل، وبات مجرد هيكل تستوطنه فيالق الاحتلال، بدأت ابتعد عن ساحات المحاكم، ولا أزورها إلا لماما، فكان حتى هذا القليل كثيرا.
قبل أيام قدمت إلى محكمة عوفر العسكرية لأمثل أبا وابنه من سكان مدينة رام الله، كان الجيش قد اعتقلهما بشبهة تقديم خدمات إلى حركة حماس من مكان عملهما.
وصلت باب المحكمة الرئيسي فأدخلني الحارس مستهجنا قدومي بعد طول غياب. فأجبته مؤكدا أنه ليس الشوق لهم، بل عساها رغبتي بمقاومة اليأس والاطمئنان عمّن واكبت تاريخهم منذ أيام صباي. أدخلني معتذرا مني إذ كان عليه أن يفتشني، لأن كل شيء تغير، هكذا قال بخجل ظاهر. دخلت ممرا طويلا على جانبيه شريط عال من الأسلاك الشائكة، فمشيت بينها بهدوء محاولا أن أطرد من رأسي صورة الشياة وهي تدفع في مثل هذه الممرات قبل ذبحها.
وصلت ساحة صغيرة تحدها الأسلاك الشائكة من جميع الجهات، وفيها غرفة انتظار معدّة لاحتواء عائلات الأسرى التي تنجح بالوصول إلى ساحة المحكمة. منها دلفت إلى ساحة أصغر محاطة بالاسلاك الشائكة، وضع فيها «كرڤان»، مكون من غرفتين صغيرتين كان الجنود يستعملونه «فتبرعوا» به للمحامين ليزجوا داخله، وهو المكان الوحيد الذي يسمح للمحامين أن يمكثوا فيه ريثما ينادون للدخول إلى قاعة المحكمة. تعودت بسرعة على المكان بصحبة الزملاء، وبعد أن أفهمت أن أيام كنا نستطيع دخول ساحات المحكمة الداخلية ونجوب بين قاعاتها، أو نزور غرف السكرتارية، أو المدعين العسكريين، قد ولت؛ فكل شي تغير، أفهمني زملائي. حاولت أن أستفسر عن موعد جلسة موكليّ، فضحك المحامون بشفقة ظاهرة، وقالوا يا أستاذنا هذه مهمة مستحيلة. انتظر فسيأتيك جندي مترجم ويدعوك. ولكن لا أحد يستطيع أن يضمن لك متى سيحدث هذا، وقالوا: كان يا ما كان، فكل شيء في هذا المكان تغير يا أستاذنا.
لم يحالفني الحظ قبل استراحة الظهر، فانتظرت حتى أنهى الجنود والقضاة غداءهم؛ وجاء المترجم وصاح باسم موكلي سائلا مَن من المحامين يمثله فقفزت ودخلت مسرعا قاعة المحكمة. انتظرت في القاعة بأجواء كلها فوضى وصراخ. كان الجندي يحاول أن يجد مكان اعتقال موكلي، الأب، كي يعرضه على شاشة الفيديو، فالأسرى لا يُحضرون إلى قاعات المحاكم.  بعد نصف ساعة من الفوضى واشتباك أصوات حرس السجون الذين كانوا يفتشون عن امكنة اعتقال الأسرى مع أصوات الجنود المترجمين والجنود الحراس، بدأت الجلسة. طلب المحقق تمديد توقيف الأب وابنه ثمانية أيام اضافية بعد العشرة التي كانا قد قضياها. اعترضت وطلبت إطلاق سراحيهما، إلا أن القاضي قرر تمديد التوقيف بحجة إعطاء فرصة للمحققين لإنهاء التحقيق مشيرا إلى أن المادة التي عاينها لا تحمل خطورة كما كان ادعى المحقق. حاولت أن اصرخ في القاعة لأشرح لموكليّ من خلال شاشة الفيديو ماذا جرى بشأنهما، إلا أن السجان الذي كان يرافقهما من بعيد قرر قطع الاتصال. خرجت مذهولا من المشهد مصدوما. كنت أنظر باتجاه القاضي، رآني من فوق رؤوس الجنود والمترجمين والمحامين فقلب كفي يديه بحركة المهرج، وقال: هي الدنيا سيد بولس، فكل شيء هنا تغير! قال وانتقل ليكمل الفصل التالي في مسرحية العبث.
انتهت مدة التحقيق التي أقرّتها المحكمة فأخبرتني النيابة العسكرية، أنهم قرروا عدم تقديم لائحتي اتهام بحق موكليّ. فرحت وقلت في نفسي: معقول أن يكون فعلا كل شيء تغير؟ اتصلت مع سكرتارية المحكمة لاستوضح كيف ومن أين سيفرج عن موكليّ، فاجابتني المجندة: لن يفرج عنهما؛ إذ أصدرت المخابرات بحقهما أمري اعتقال إداريّين: للابن لمدة ستة شهور وللاب لمدة أربعة شهور. سمعتها وتمتمت: على ما يبدو لا شيء تغير. هو الاحتلال يخاف ويحن ويتوحش عاما بعد عام فيبدل عصيّه ووجوهه واقفاصه معنا وحسب. انتظرت عشرة أيام حتى عينت لهما سكرتارية المحكمة في عوفر جلستين للنظر في صحة الأمرين. وصلت في الموعد المحدد إلى باب المحكمة فسألني الحارس بدعابة «يبدو انك قد عدت إلى عشيقتك، فانت محام مشهور، ولا تستطيع أن تتركها/ مهنتك»، قالها بلهجة محترمة وجدية، فأجبته: «لكل زمن رجاله، وهذا زمن الندم والهباء الذي لم يعد زمني؛ أما معشوقتي فسأبقى أنا خادمها ما دام يطلع فوق سمائها القمر»؛ قلت ولم أتحقق إذا فهم مرادي. مشيت مرة اخرى في تلك المسارب وبين الأسلاك الشائكة حتى وصلت قفص المحامين؛ وأخبرتهم بما حصل معي فلم يستغربوا. ثم فهمت أنه حصل معهم مثلما حصل معي، وإلا كيف وصل عدد المعتقلين الإداريين في أيامنا إلى 3400 معتقل إداري؟
ثم أضاف احدهم وكان من محامي الجيل الجديد: على ما يبدو يا أستاذنا، أن كل شيء تغير عن زمانكم. قالها واستمر وزملاؤه في مزاولة شعائر يومهم، وأنا معهم في ذلك القفص الصغير.
كالتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    كل احتلال على مر الزمان والمكان وحش دموي مجرم الاحتلال الصهيوني الأمريكي البريطاني الألماني الغربي اللعين بحق الفلسطينيين منذ 1948 هو أشدهم توحشا على الإطلاق يا رفاق ✌️🇵🇸☹️☝️🐒🐒🐒🚀

  2. يقول محمد الحسنات:

    الله يعينكم محامينا الكريم، والمعذبين من بني قومنا الفلسطينيين الأحرار،
    من عسف الإحتلال وتجبره وتعجرفه بعد السابع من أكتوبر الماضي،
    حيث تغير وتكشف كل شيء، ولن يكون ما بعدها مثل ما كان قبلها،
    وعلى المحتل تدور الدوائر حيث سقطت الأقنعة والأحزمة الحامية
    للإحتلال والإستيطان والعنصرية والمظالم التاريخية .

اشترك في قائمتنا البريدية