للسينما الهندية تجربة خاصة ومنفصلة، بل منعزلة، عن عموم التجربة العالمية، لسطوة بوليوود كمركز صناعي سينمائي مكتف بذاته، مذكّراً بهوليوود في مراحل باكرة وممتدة إلى ما قبل ازدهار السينما الأمريكية المستقلة، في الربع الأخير من القرن الماضي، في نيويورك تحديداً، اللاحقة للثورات الاجتماعية في أوروبا، وتظاهرات مناهضة لحرب فيتنام في الولايات المتحدة سياسياً، والتيارات الأوروبية سينمائياً.
في وقت كانت السينما الأمريكية المستقلة دائماً تحاول الخروج عن هوليوود، منذ أيام تشارلي تشابلن في العشرينيات، حتى اليوم، مع مرور بمراحل امتازت خلالها السبعينيات، مع جون كاسافيتز تحديداً، بقيت السينما الهندية في خطها المستقر لا المستقل، السينما التجارية السائدة المبنية على عناصر ميلودرامية مبالغ فيها، فكلنا يعرف ما يمكن أن يتخيله إن قيل له «فيلم هندي».
استثناء بمستوى عال وعالمي كان أواخر الخمسينيات، مع المخرج الهندي ساتياجيت راي، الأقرب في سينماه إلى مزج بين أفلام الياباني ياسوجيرو أوزو الهادئة، الاجتماعية بمعناها المسالم، وسينما الواقعية الجديدة الإيطالية الاجتماعية بمعناها الطبقي، الكاشف لفروقات طبقية بين شخصياتها، الاجتماعية منها كأفلام فيتوريو دي سيكا وليس السياسية منها كأفلام روبرتو روسيليني. هذا الاستثناء الهندي طغت عليه لاحقاً سطوة بوليوود، وأبطالها الخارقين، كما طغت على عموم الصناعة السينمائية الهندية. خروج نادر عن هذه السطوة كان لفيلم «كل ما نتخيله ضوءاً» (All We Imagine as Light) للهندية بايال كاباديا، الذي نال ثاني أعلى جائزة في مهرجان كان الأخير، «لجنة التحكيم الكبرى».
يحكي الفيلم عن ممرضة تعيش مع زميلتها، زوجها مهاجر في ألمانيا للعمل، وهي تعيش في مومباي، المدينة المكتظة بالعمال والعاطلين عن العمل الباحثين عنه، من جميع أصقاع الهند. في خط مواز، تعيش الممرضة حالة من التردد والقلق بشأن زوجها المختفي من ناحية، وطبيب متقرب إليها من ناحية ثانية. وتعيش زميلتها مغامرة مع عشيق مسلم سترفضه عائلتها الهندوسية. نمر في يوميات المرأتين حتى تركهما المدينة إلى قرية نائية تطل على المحيط.
الفيلم الهادئ، التأملي، المقل في أحداثه، المكترث بحساسية شخصياته وجمالية صورته، قارب بين الوهم والحلم، في القول إن «مومباي مدينة وهمٍ وقد قصَدها الجميع مترقباً حلماً متحققاً فيها». كما هي حال الزوج المختفي للممرضة، والعلاقة المتخفّية لزميلتها، تبقى المدينة وهماً لا تكتمل الأمنيات فيها.
سترافق المرأتان زميلة لهما اضطرت لترك المدينة لفقدانها أوراقاً ثبوتية، وتعود إلى قريتها الساحلية. هناك، سيتحول الوهم في حياة النساء الثلاث إلى حلم يقارب التحقيق حتى اللحظات الأخيرة من الفيلم، حين تقول الممرضة لزميلتها بأن تأتي بحبيبها إلى طاولتهن، وتقول له إن منطقته جميلة، وإن هنا كذلك، القرية وإن دون كهرباء، والمطعم البسيط على الشاطئ، المكان جميل.
من خلال حميمية الشخصيات، وهمومها وهشاشتها، النساء الثلاث تحديداً، تمر في الفيلم إشارات تفصيلية، بدت ثانوية لكنها أساسية في مَفصلة القصة ونقلها من صفحة إلى أخرى، أولها استحالة الاجتماع في مكان منعزل للفتاة الهندوسية والفتى المسلم، ثانيها استحالة الحب لامرأة هجرها زوجها للعمل، ولم تعرف شيئاً عنه من بعدها، وثالثها المرأة التي اضطرت إلى ترك عملها، الناشطة في تجمع حقوقي عمّالي. لا حقوق في الحب في المدينة الصناعية التجارية المكتظة هذه، المعاصرة من الخارج والتقليدية من الداخل، ولا مكان لحقوق لعمّال وفقراء ومهمّشين.
لا يبتعد الفيلم كثيراً عن السابق له وكان وثائقياً، الأول لصاحبته، «ليلة من معرفة لا شيء» حيث الوهم والحلم يتداخلان، وكذلك مع الواقع، أو رغبات امرأةٍ زوجُها بعيد عنها، وأسئلة عن الحب تتخاطر لها. نال الفيلم الأول جائزة «العين الذهبية» عام 2021، وهي الأولى للوثائقيات المشاركة في أي تظاهرة من مهرجان كان السينمائي المسابقة الرسمية، أسبوعا السينمائيين، أسبوع النقد، كلاسيكيات كان، لتعود مخرجته إلى المهرجان هذا العام باستحقاق هو تاريخي هندياً، وهو جدير بالفيلم سينمائياً، عالمياً.
كاتب فلسطيني/ سوري
شكرا لك سيد سليم على قراءتك السلسة لهذا الفيلم الهندي المختلف عما اعتادت بوليوود تقديمه و بما انك اثرت ذكر اسم المخرج الكبير ساتيا جيت راي كمخرج تمرد على أسلوب السينما الهندية اود تذكيرك بمخرج اخر عاصره كان من أوائل من اختلفوا مع طريقة بوليوود الا وهو الراحل guru Dutt صاحب الروائع الخالدات pyassa, و زهرة من ورق و غيرهما هذا الأخير تسبب فشله له في كآبة حادة دفعته للانتحار تحياتي