كم كنت غريباً: ملاطفة الغربة بالقصيدة

حجم الخط
6

1-
ديوان الشاعر العراقي المقيم في لندن هاشم شفيق «كم كنت غريباً» – الهيئة العامة للكتاب – القاهرة 2017 ، مناسبة طيبة لتأمل هذا الموضوع الشعري الذي لا يزال يستحوذ على اهتمامات الشعراء، وينعكس في مضامين نصوصهم، رغم ما فعلت وسائل التواصل الحديثة من تخفيف ثقله بزوال كثير من أسبابه؛ كإمكان التواصل مع الأوطان ومتابعة أحداثها، ومعايشة يومياتها عبر المتاح من وسائط جديدة، لم تتوفر للأجيال الأولى من المهاجرين والمغتربين والمنفيين.
وتلتبس أحياناً ثيمة الغربة المكانية والشعورية، بالاغتراب الذي يمكن أن نرصده في تجارب شعرية تكتب داخل الأوطان أحياناً، وكثيراً ما تمتزج الغربة بالاغتراب والشعور بالوحدة بين الآخرين في شعر المهجر العربي الجديد، ونصوصه المكتوبة في العقود الأخيرة. وهذا ما تشخّصه القراءة النقدية في إصدار الشاعر السبعيني هاشم شفيق، الذي ضم أربع مجموعات شعرية داخله. بدأ هاشم تجربته الشعرية بديوانه «قصائد أليفة» عام 1978، وانشغل بالهموم الأيديولوجية المهيمنة حينها على الخطاب الشعري المجدد، وهو ما ستتخلص منه نصوصه في فترات لاحقة، لاسيما بعد خروجه من العراق. الملاطفة المقترحة لموضوع الغربة تحثنا لتبنيه مفتاح قراءة لما تحمله دلالة العنوان من مغزى. حين يراجع الشاعر نفسه بعد أربعة عقود سيصرخ متعجباً: كم كنت غريباً! فاتحاً أفق الدلالة لاحتمالاتِ قراءاتٍ كثيرة، فهي سؤال للنفس وتعجب ومراجعة للذات في تجربتها مع هذا الشعور الأبدي الذي يصارح الشاعر قراءه بأنه لازمَهُ منذ طفولته:
مذ كنتُ صغيراً
وأنا منفي ٌّ بقصيدة
سوف يصحب قصيدته التي أقام فيها منفياً حتى (اكتهلت) آماله فاتخذها (مأوى) أبدياً. وشيئاً فشيئاً يركن لهذا المأوى الذي يتسع ليصبح مدناً يفتقد فيه الأصحاب:
الأصحاب الكثر
بهذي المدن الباردة
أمسوا ثلجاً
وهذا ما شجعنا على اقتراح القصيدة مرتكزاً لموضوع الغربة وانعكاساتها فيها. لكن أشد أنواع الغربة التي يعرضها الديوان هي الغربة في الوطن، وكأنها تجسيد لمقولة التوحيدي عن الغربة في الوطن كأشد أنواع الغربة الغريبة ألماً. وهذا ما تقوله قصيدة أخذ الديوان عنوانها وهي (كم كنت غريباً) حيث يعود الشاعر إلى وطنه بعد عقود غربة واغتراب؛ ليجد نفسه غريباً فيه، بين زيف الآخرين وسطوتهم وعدائهم:
كم كنتُ غريباً بينهمو
لكأني كنتُ بأرضِ عدوٍ
أبلاديَ هذي؟
ها أنذا أخطو
خطواتي المغتربة
في أرضِ عدوٍ
فلكمْ كنتُ غريبا ً بينهمو؟
أراد الشاعر أن تكون خاتمة القصيدة استفهاماً، وكأنه انتهى من تقرير غربته في البلاد.وبذا نقل المضمون من الغربة إلى الاغتراب الذي تحدثنا عنه في مطلع القراءة. لكنه في نصوص أخرى يجسد وطأة المغتَرَب حين يكون منفى لا يهب أمناً أو سلاماً:
غريباً
أجوب المنافي
أقلّبها بلدةً
بلدةً
قريةً
قريةً
أقلبها ساحلاً
ساحلاً
باحثاً عن مصيري
هنا في المحار..
علّي ألاقي السلام
علّي ألاقي النوالَ
وأهدأ
لقد نجح الشاعر- وهو يبعثر أبيات القصيدة في كلمات – أن يجسد حالة التشظي التي تعيشها الذات في مغتربها ومنفاها، ويوصل للقارئ عناءها في العثور على السلام، والنوال الذي لا يتعدى هدأة الروح.
2-
لقد كان هاشم شفيق واحداً من قلة من شعراء السبعينيات الذين حافظوا على الوزنية والإيقاع الموسيقي المعتاد في شعر التفعيلة ( الحر)، ولكن باستخدام التفعيلات الخفيفة الإيقاع؛ لتناسب الفكرة التي يتضمنها النص. وهي غالباً تتسلل برفق ارتبط في ذاكرتنا النقدية بقصائده الأليفة التي تصوّر شخصَه أيضاً لمن لا يعرفه. هدوء القصيدة حتى في عنف رفضها لا تفقده بالإيقاع الصاخب. القوافي مهمَلة كجرس موسيقي خارجي، وذلك يخفف من ثقل التفعيلة. وثمة إجراءات أخرى يتّبعها هاشم شفيق للتخفيف من حدّة الإيقاع، وكي لا تضيع الفكرة والصور في حمّى زعيق الموسيقى الخارجية، وتتمثل في تشظية الأبيات الشعرية التي تغدو جُمَلاً شعرية لها بناؤها الخاص، وتنشأ من كلمات مفردة أو مجتمعة، لكنها تتنضد بحسب إيقاعها متناثرةً بدون حساب لبِنية البيت التقليدي. وهذا صنيع فني يلجأ له من يحافظ على التفعيلة من شعراء الحداثة؛ للتخفيف من سطوة التشطير البيتي والنهايات المتوافقة نغمياً في رتابة مملّة. هكذ ا تتآزر في بناء قصيدة هاشم شفيق عوامل فنية عدّة، لها ملامحها الجمالية التي تكتشفها القراءة. فمن مزايا الديوان الفنية حرية المخيلة التي لا تمتثل للأبعاد التقليدية للصور المجازية في القصيدة. فنقرأ عن وردة تتزوج نافذة الشاعر، وريح تغرد ببابه، ونهر ينام تحت سريره، ورعد يترك صوته قرب وسادته… عن عزلة تفيض في الصالة، وشراع مبلل بأغاني الصيادين، وتبلغ تلك الخيالات ذروتها حين لا يكتفي الشاعر بما منح أشياءها من ألفة وحياة جديدة في القصيدة وعلاقات تركيبية تدعو للتأمل، بل يجعلها جزءاً من حياته حين يريد التعبير عنها بمعادل صوري:
لم أزل
محتفظاً بدموع أمي
في جرّة البيت

لم أزل محتفظاً في كتبي
بأنهارٍ بعيدة
بين كتابٍ وكتاب
أجد غديراً
بين صفحةٍ وأخرى
أجد شلّالاً
وأحياناً
أعثر بين كلمةٍ وكلمة
على جبل
ترينا هذه النماذج المجتزأة من كثير مما في الديوان طريقةَ الشاعر في تغريب الصورة بانزياحها الدلالي الذي لا يتوقف عند أنسنة الطبيعة، لاسيما مخلوقاتها وظواهرها، وهي تقنية شعرية تقليدية، وإنما يتجاوز ذلك ليمنح القارئ مشاركة جمالية في تصور تلك الأشياء، وقد اتخذت سمتاً يومياً مألوفاً، تبقى فيه على صفاتها لكنها تندمج في يوميات الحياة.
3 ـ
يقدم لنا عمل الشاعر هاشم شفيق مثالاً على حرية اختيار الأشكال والتحرر من الأحكام القطعية التي تتنافى والذائقة الجمالية القائمة على اختيار الشكل المناسب للتجرية إيقاعياً. وهذا يتضح في كتابته للقصيدة الحرة الموزونة ولقصيدة النثر المنفتحة دلالياً والمتصلة باهتماماته ذاتها، ولكنْ من زوايا نظر تتطلب الانتقال إلى الحرية الموسيقية والبنائية التي تتيحها تشكلات النصوص الممتثلة لقواعد كتابة قصيدة النثر البارزة؛ وأهمها الاستغناء عن عنصرَيْ الموسيقى التقليدية – التفعيلة والقافية – والاكتفاء بالإيقاعات الداخلية التي تتيحها بنية قصيدة النثر. وفي الديوان مجموعة كبيرة من قصائد النثر المتنوعة الكيفيات: قصراً وطولاً، وأساليبَ معالجةٍ ورؤىً وتخيّلات. وقد ذكرنا نموذجا ً لقصائد النثر من ديوانه، ويمكننا معاينة أسلوبه في استثمار الحرية البنائية، والترسل واستضافة السرد بشكل كثيف في تلك القصائد.
ويعزز الميل للسرد في قصائد الشاعر هاشم شفيق ما نراه من اهتمام استثنائي بالأمكنة التي تترك أثرها البصري في ذاكرته، ويسترجع تفاصيلها ملتفتاً لما لا يراه المبصِر العابر. فحين يستذكر سوق السرّاجين في الشام القديمة، يقفز إلى مخيلته ما كان لأشياء السوق من ماضٍ ممكن: (كل سرجٍ يذكّرني بالحقول والاسطبلات والمطر. وكل ركابٍ يذكّرني بالريح والمدى والشتاءات البعيدة، كل مهماز يعيدني إلى العربات القديمة، والصهيل العابر للحدود والجبال المسنَّة). وهناك تجارب في القصيدة القصيرة جداً، أو الهايكو العربي، كما شاع في المعجم النقدي المعاصر، تفريقاً لها عن الجذر الياباني للهايكو المحدد موضوعياً بالطبيعة، مع اتفاقه مع الاستخدام العربي في الكثافة النصية والتركيز والاختزال واعتماد الضربة أو اللازمة الختامية، التي تفسّر أو تغيّر الدلالة. وقد اقترح هاشم شفيق مصطلح (تمتمات) لهذه المجموعة من قصار القصائد، بل بالغة القصر، فهي لا تتعدى البيت أو البيتين، وفي بعض الأحوال تتكون من ثلاثة أبيات. وهي متنوعة الموضوع، ولا تبتعد كثيراً عن انشغالات الشاعر في قصائده النثرية الأخرى:
– أنا مصاب بداءِ الأمل
– السفن
هي أطفال البحر التائهون
– أناي
تتجزأ إلى مجموع
حتى سئمتُ أشباهي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رائد:

    قبل فترة قصيرة نشر المكتوب عنه هنا عن الكاتب عنه، فجاء هذا لردّ الجميل… أصحاب اصول فعلاً..

    1. يقول سهى الأمير:

      الشاعر المبدع هاشم شفيق المكتوب عنه بنبل وتقدير،من الكاتب عنه الناقد د٠ حاتم الصكر ..تحية اعتزاز وامتنان لهما لمنجزاتهما الإبداعية القيمة.

  2. يقول nizar:

    “لقد نجح الشاعر- وهو يبعثر أبيات القصيدة في كلمات – أن يجسد حالة التشظي? التي تعيشها الذات في مغتربها ومنفاها، ويوصل للقارئ عناءها? في العثور على السلام، والنوال الذي لا يتعدى هدأة الروح”???
    نجح الشاعر? نجح شاعر?

  3. يقول رياض:

    اثني على ماقاله الأخ رائد، فهذه بعض من حقائق الواقع الادبي المرير ، ومن ينكرها اما ان يكون من المستفيدين او من الذين لايبالون بالقيم المتعارف عليها. ولن ينفع هنا الاسم المستعار للمستفيدين، لتكذيب ذلك.

    1. يقول حميد:

      ما الهدف من دس السم بالعسل؟ لاسيما ان الحديث هنا عن مبدعين هما كما هو معروف في الوسط الادبي ابعد الناس عن الاجواء الثقافية المرضية التي يحاول بعض المعلقين زجهما فيها عنوة لغاية في نفس يعقوب.

  4. يقول عبد الله:

    من الطبيعي ان يثير الحضور الأدبي اللافت لبعض المبدعين المميزين غيرة وحسدا لدى البعض، لذا نراهم يحاولون المس بالقامات الرفيعة.

اشترك في قائمتنا البريدية