كورونا يقود التغيير

إذا ما اعتبرنا سقوط جدار برلين، أواخر عام 1989 آخر صفحات الحرب الباردة، وإذا ما قلنا استفتاء انفصال اسكتلندا 2014 أدى إلى انكسار في الإمبراطورية البريطانية، وإذا ما اعترفنا أن مؤتمر سان فرانسيسكو بداية تشكيل النظام العالمي الحالي (الأمم المتحدة) ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن فيروس كوفيد-19 «كورونا» بداية تشكيل نظام عالمي جديد. أو العودة لحرب تجارية باردة تسخن بين الحين والآخر بين أمريكا والصين.
إبان الحرب الباردة الأمريكية الروسية كان للأفعال الإجرامية مبرراتها السياسية تحت بند حماية (الأمن القومي) مع الإقرار أنها مؤسفة، أو أنها أتت في لحظات انفعالية.

النظام الاقتصادي وتداعياته

فهل من مبرر لنشر فيروس يضرب العالم في القرن الواحد والعشرين لولا المنافسة على سيادة العالم؟ والعودة للإجرام السياسي تحت ذرائع عدة؟
فالمسرح العالمي لا يحتمل أكثر من بطل على خشبته، وفق المنظور الحالي وما تجسده الأفعال السياسية والاقتصادية التي يقوم بها قادة الدول الصناعية الكبرى، إذ أن زعامة العالم لم تعد في كتب التاريخ فحسب إنما غاية تتوارثها قادة الدول الكبرى منذ عهد الامبراطوريات حتى وصول كورونا كل زاوية من زوايا الكوكب.
وما أراه من منظور المراقب والمتابع لمآلات الأزمة الأخيرة، إعادة هيكلة القوى العالمية ومنظماتها على أن تأخذ شكلا مستقرا لحين تجاوز الخلافات والاختلافات والوصول لبلورة القالب النهائي. وفي هذه الفترة ستشهد نشاطا مضاعفا لدعاة القومية الرافضين للعولمة والثورة الرقمية. علما أن نشاطاتهم حتى تصل مناصريهم لتحقيق مبتغاها تحتاج للعولمة ووسائلها المتطورة.
وفي الإطار ذاته، قد نشهد انفصالا لأقاليم بدعم قوى كبرى قبل أن يتبلور النظام الذي سيقود العالم وبالذات إذا ما شهدنا تفوقا صينيا على حساب القوى الليبرالية. رغم أني لا أرى الصين مؤهلة لقيادة العالم بسبب انحسارها في السابق ضمن أسوار مغلقة، مقتصرا دورها على الصناعات العابرة للحدود وتجاهلها للقوة الناعمة التي تستطيع من خلالها كسب عقول الساسة والنخب خارج حدودها.
وبعد أن أوشكنا على الانتهاء من إرهاب التنظيمات العابرة للحدود، نحن على أعتاب إرهاب جديد ولكنه ليس عابرا للحدود والقارات فحسب بل هو عابر لحنجرة الإنسان ليصيب الرئتين بمقتل كما يشخصها أطباء الأوبئة ومتخصصو الفيروسات، ليكشف عورة الأنظمة السياسية واستهتارها بالأمن الصحي كأحد أعمدة الأمن الدولي.
لا أستطيع أن أتعامل مع كوفيد19 كفيروس بريء بل سلاح ذكي في إطار حروب الجيل الخامس.
كما أن بعض مشخصي فيروس كورونا-كوفيد 19 يرونه نسخة مطورة عن الإنفلونزا الموسمية التي يقدر عدد ضحاياها ما بين الـ 250 ألف شخص ونصف مليون سنويا حسب تقارير الأمم المتحدة، ولكنها لا تأخذ الزخم الإعلامي الذي حظيت به كورونا بنسختها الأخيرة.
عقب الحرب العالمية الثانية وتسيد أمريكا العالم كان لابد من أن تمنح حلفاءها «اليابان-أوروبا» قطعة من كيكة القطبية غير المتناسبة ولابد من تربع دولة واحدة على عرش النظام العالمي.
ولأن تعاقب التاريخ يأتي على شكل حقب متتالية «سلسلة» فلابد من امتلاك القوة تفرضها على الآخرين وهذا ما أدركته أمريكا وعملت على تجسيده في سباقها المحموم مع السوفييت لفرض نموذج اقتصادي على القارة العجوز حينئذ عبر «مشروع مارشال» لتقديم الدعم الاقتصادي وإعادة بناء البلدان الأوروبية المنكوبة جراء الحرب العالمية الثانية، وقطع الطريق على المساعدات السوفييتية من الوصول لقلب أوروبا، حيث كان يصب طموح موسكو في توسيع دائرة الشيوعية، بعد إحراز الحزبين الشيوعي في فرنسا وإيطاليا شعبية كبيرة بين أوساط شعبي البلدين.
وإذا ما أرادت أمريكا مجددا التربع على عرش النظام العالمي الاقتصادي، فهي في حاجة لأن يكون في محورها ألمانيا، اليابان، دول الخليج النفطية.
وفي المقابل المحور الذي تتزعمه الصين غير قادر على إقناع العالم على أن يكون في رأس القائمة بسبب غياب القيم العصرية والقوة الناعمة الداعمة للفئات المهمشة حول العالم، بل على العكس توجد رغبة صينية في تغذية الحكومات المركزية القاسية (إيران- كوريا الشمالية- سوريا- فنزويلا) حيال شعوبها وهذا مرفوض مجتمعيا في ظل الانفتاح والعولمة ووسائل المعرفة الالكترونية.
يجب أن نقر بوجود حلفين أحدهما لا يعير لحقوق الإنسان والديمقراطية أي بال ولن يتأثر ولو مات نصف شعوب العالم جراء فيروس كورونا لأن تفكيرهم يصب في الوصول لتعددية قطبية أو إزاحة الامريكان عن الصدارة، والحلف الآخر ديمقراطيته وقيمه وأنظمته التقدمية لم تنفع الطليان والخمسمائة مليون أوروبي في مواجهة الوباء والحد من ضحاياه.
وليضع حكام الدول الليبرالية الديمقراطية في مواجهة الرأي العام وتعرضهم لهزة غير مسبوقة، بسبب تقاعسهم في إيجاد أبسط المتطلبات للوقاية من الفيروس.
وإذا ما استمر تدهور الاقتصاد على النحو الحالي؛ فهذا ما سيؤدي حتما لإخضاع دولٍ لسياسات دول أو ركوع أحد الحلفين للآخر، حلف من بقايا الشيوعية قراراته مركزية تغيب عنه الشفافية، وحلف رأسمالي يتسم بالديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
وهذا ما يعيدنا بالذاكرة لمقولة الفيلسوف الفرنسي جوليان فروند إن السياسة تشبه «كيس سفر يحتوي ما تنوع من الأشياء؛ فيه ما شئت من الصراع، والحيلة، والقوة، والتفاوض والعنف والإرهاب، والتخريب والحرب والقانون».
ولكن علينا الاعتراف أن كورونا أثبت أنه لا يهتم لأي من القيم والأيديولوجية وهذا ما وضع الحلفين المتناقضين أمام مفترق طرق.
الصراع على سيادة العالم لم ينته منذ عصر الامبراطوريات ولن ينتهي، ولكن الأدوات تتحكم في مدة التربع على عرشه وكذلك نوعية الحكام في الدول الكبرى.
وجود قادة شعوبيين يريدون أن يعيدوا العالم صفحة بيضاء يملؤونها كيفما يشاؤون بالشراكة مع رؤوس الأموال الذين يفرضون بسطوة المال سياساتهم على الحكام والحكومات.
كشف كورونا مدى هشاشة الأمن الصحي العالمي وعدم ربطه بالأمن الدولي.
دول الخليج ومصر يجب أن يكثفوا جهودهم في وضع استراتيجية محتملة في حال عدم ظفر ترامب بولاية ثانية وبالتالي خسارة الحليف الأقوى، بغض النظر عن انعكاسات كورونا على الانتخابات الأمريكية المقبلة.
الفيروس ليس جائحة وباء فقط، إنما اقتصادات تتدهور وتراجع في أسواق المال.
أسعار النفط تهبط لأقل من النصف مقارنة مع الموازنات التي وضعتها الدول النفطية.
وهناك عوامل أخرى قد نشهدها في القريب المتوسط وقد يطول ظهورها.
وبناء على ما سبق، غالب الظن ستقدم خدمة الإنترنت مجانًا مقابل الحصول عبرها على معظم الخدمات الحياتية.
وحتى أن اجتماع مجموعة العشرين في الأسبوع الأخير والذي كان مقررا في المملكة السعودية، تم عبر تقنية الفيديو افتراضيًا، بسبب جائحة كورونا، وهذا ما يحتم علينا أن نضع نصب أعيننا أن العالم مقبل لأن يكون افتراضيًا.

الحرب البيولوجية

من سلبيات الأسلحة الجرثومية « البيولوجية» خروجها عن نطاق السيطرة فتكون ارتداداتها سلبية على الحلفاء وأحيانا على مصدرها بسبب حركة الجو وتقلب الفصول.
وبعد الاكتفاء من التسليح وامتلاك المتطور منها يكفي قادة العالم امتلاك أي منهم قنبلة جرثومية بحجم قبضة اليد لقتل عشرة ملايين شخص في بقعة جغرافية محدودة.
وفي هذا الإطار، التاريخ لا يبخل علينا في تقديم الأمثلة منذ حادثة توزيع البطانيات البريطانية الملوثة بالجدري عام 1763 والتي قتلت الملايين من الهنود الحمر لتقوم على أنقاضها أمريكا الحالية في حرب بيولوجية تم التخطيط لها بمنتهى الدقة.
وكذلك الانفلونزا الاسبانية التي قتلت ما بين عامي 1918-1920 ما يزيد عن الثلاثين مليونا، ليكتشفوا بعد عشرة أعوام أنه سم طوره الجيش الألماني بشكل اصطناعي.
وكما أن التلوث الصناعي في اليابان والذي تكتمت عليه السلطات آنذاك 22 عام، لحين إفصاح الحكومة عنه في 1968 أن مرض إتاي والتي تعني «موجع» يصيب المفاصل والعمود الفقري. وهذا ما يفسر إرهاب الحكومات بحق شعوبها.!
عندما أنتشر انفلونزا الطيور تعاضدت دول العالم في مواجهته، في أزمة جائحة كورونا الجميع ينظر للوباء على أنه فرصة لتحسين موقعه على سلم اقتصادات العالم.
وما يزيد القلق مع استمرار الجائحة أن تصبح أعداد المصابين مجرد أرقام تذكر على وسائل الإعلام دون الاكتراث لتفعيل أدوات مواجهته، والحد من انتشاره.
وأكثر ما يؤلم في فيروس كورونا حصده للمسنين الذين دفعوا طوال حياتهم الضرائب لينعموا في آخر سنين عمرهم بحياة آمنة، وراتب تقاعدي يوفر لهم غذاءٍ جيدا ليكون عندهم مناعة تقاوم الأمراض، وتواجه حكومات بلدانهم التي ساهمت بانتشار الفيروس بسبب استهتارها في التعاطي معه.
وبالمقارنة مع الأمراض الأخرى والمصائب التي تقع دون الإفصاح عنها، تشير الاحصائيات:
– الوفيات بسبب أمراض معدية هذا العام 3.329 مليون.
– وفيات الأطفال في عمر أقل من خمس سنوات هذا العام 1.949مليون.
– الوفيات الناجمة عن أمراض المياه هذا العام 215.930 ألف.
– الوفيات بالملاريا هذا العام 251.524 ألف.
– ضحايا حوادث النقل البري هذا العام 346.151 ألف
– إجمالي وفيات الإيدز هذا العام 431.077 ألف.
إن الهيمنة الأمريكية على العالم تتضاءل بسبب تبعات كورونا-كوفيد19 الاقتصادية وأنها ستقوم باعتماد الدبلوماسية المطلقة مع منافستها الصين، ولكنها ستبقي على سياستها العقابية تجاه إيران وفنزويلا ونظام الأسد في سوريا. وبالتالي يقتصر الدور الروسي على لعب دور الوسيط بين أمريكا والصين في الملفات العالقة مستفيدة من خلق توازن يبقيها محل اهتمام الكبار.
وقد تستفيد الدول الناشئة (تركيا- الهند- البرازيل- إندونيسيا) في تدعيم الشركات المتوسطة معتمدة على المواد الخام الصينية لتكون مصدرة لمحيطها، لحين إيجاد الصين وسيلة إقناع بمنتجاتها من جديد.
وما بعد زوال الوباء أو الحد من تداعياته، ستكون النخب والمراكز البحثية في مراجعة سياسات بلدانهم الصحية والاقتصادية، كما سنشهد حالة غضب من قبل الشعوب الأوروبية على حكوماتهم.
لعل فيروس كورونا فرصة لإعادة تدشين نظام عالمي عادل ينقل البشرية لمرحلة جديدة.

كاتب ومحلل سياسي سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية