يبقى للموت جلاله ومهابته واحترامه إذ يختار من الناس واحدًا ويأتي غدًا ليختار آخرين، فيظل كأسًا كل البشر منه ذائقون، لكن هذا لا يمنع رغم الأسى والأسف النظر في أحوال المتوفين والأمل في إصلاح أحوال الأحياء قبل مغادرة جديدة من أحد لرموز الوطن مبعدين عن حضن الوطن ورفقة الأصدقاء فضلًا عن كامل الأهل.
خيرة الأبناء
صرنا نودع بأسى عارم المغادرين واحدًا تلو الآخر غير قادرين على مجرد تذكر كلماتهم المستبشرة فور وقوع انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013م، ففور تأكد عدد من أفضل وخيرة أبناء مصر من وقوع المحظور، ثم جريان طوفان الدماء في “رابعة” و”النهضة” و”رمسيس” وغيرها قرروا المغادرة، كان سقف التوقعات وقتها بالغ الارتفاع، فبدأ صحافيون وإعلاميون وأطباء وأصحاب مهن أخرى الاستفاضة في شرح الدلائل والقرائن والمؤشرات التي يرونها واضحة قطعية الدلالة بانتهاء أحداث 3 تموز/يوليو وتأثيراتها وعودة الشرعية بقيادة الرئيس محمد مرسي للحكم رغم أنف المنقلبين وأعوانهم، وبناء عليه صارت الحقائق تأخذ منحنيات دقيقة متأثرة بالفكرة التي أجمع المسافرون عليها، وكان إجماعهم على التوجه نفسه وتكراره باعثًا ومحفزًا للآمال لدى الملايين، انطلاقًا من قاعدة: ليس من الممكن أن كون هؤلاء جميعًا منطلقين من فهم خاطئ، وصعب عليهم الرجوع فأبقتهم أحد أشهر الفضائيات ليتكرر ظهورهم على شاشتها وفق نهج سياسي خاص وقتها، فازدهت المقولات وزادت؛ بل إن كاتبًا بريطانيًا صار يقول بالرأي الخاص به هو الآخر على أنه معلومة موثقة لا يعرفها سواه، وأنشأت القناة فرعًا مصريًا لها لمتابعة الأنشطة الثورية، فازدادت قوات الأمن لهيبًا واستعارًا ومضت لا تترك متظاهرًا أو متظاهرة إلا ونالت منهما.
وصار التنديد بما ترتكبه القوات طقسًا وديدنًا يقوي الممارسات القمعية، وقصر بقية الثوار الخارجين لخدمة الملفات: السياسية، والحقوقية، والفكرية، والتنسيقية بين جميع الملفات، البرلمانية، والدولية وغيرها، فصارت سفينة استعادة الوطن للمسار الديمقراطي يقودها إعلاميون أو حتى منتمون لجميع المسارات لكنهم متخلون عن دورهم وملتزمون بالنهج الإعلامي.
مواقع التواصل الاجتماعي
وزادت الأمر لهيبًا صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وترديد كلمات رتيبة محفزة من مثل: “أبشروا، الانقلاب يترنح” وأخرى عبارة عن مسلمات تقتضي عملًا بها أولا قبل انتظار الثمرة والنتيجة من مثل: “لم يكن الله ليخذل جنده، إنا لننصر رسلنا، يبلغ أهل الباطل ساعة حرجة يظنون فيها أنهم منتصرون، من ظن أن الباطل يغلب الحق فقد أساء الظن”، أحاديث شريفة وآيات حكيمة ومقولات تم استخدامها جميعًا مجتزأة من سياقها للتدليل على أن نتيجة ثورية مقبلة دون فعل مساند أو ممهد أو مناسب لها.
واستمر الحال على هذا النحو لسنوات حتى بعد تبريد المسار الثوري ومظاهره من عدم قدرة مزيد من المظاهرات على مجرد الخروج في شوارع فرعية في مصر أساسًا ـ حتى إن كان لنا رأي خاص أبديناه وقتها في هذا السياق ـ، وكان استمرار تلك المظاهرات مبنيًا على سياق إعلامي غير سياسي يحفز الناس على الخروج والموت لأنهم “ميتون على كل حال”!
وازدهرت القنوات المصرية المعارضة، وتعددت المقولات وقرب الأمنيات، بات قليلون معنيين أنه لا نصر يتحقق في ظل وجود وعي مضمحل، ويكاد يكون غير متحقق، وفي ظل خيانة عدد من النخب حتى أن الأموال التي كانت توزع إعلاميًا في الخارج وعلى التنظيم الهرمي لإحدى أبرز الجماعات المنظمة الإصلاحية في مصر والمعروفة بالجهد التوعوي وعدم وجود أدبيات ثورية لديها، حتى أن هذه الأموال ربما كانت تكفي حاجة المصابين وأهالي المعتقلين والشهداء وتم التمييز بين البعض لحساب السمع والطاعة بلا تيقن من وجود مسيرة أو مسير مناسبين، ولما انكشفت الحقائق صارت الجماعة تنقسم في مواسم لتتبرأ من المسؤولية، وبات عدد الذين يعانون يفوق بمراحل الذين يحصدون المغانم والمكاسب وتجار الحروب في الغربة.
ولجأ البعض لغلق قنوات أو ترك بعضها كنوع من أنواع إنفاق أموال يسر العدو ولا يرضي الصديق، وتراخت اللغة الثورية ونزح البعض لعواصم غربية، وأزال البعض آلاف التدوينات التي لم تواكب الحقيقة بل افتتحوا صفحات جديدة في مواقع التواصل مزيلين القديمة وكأنه لا ضمير جمعي للأمة يدرك ويحاسب.
محمد الجوادي
جاءت وفاة طبيب أمراض القلب، عضو مجمع اللغة العربية محمد الجوادي الجمعة 6 من يونيو/حزيران الجاري عن عمر يناهز 64 عامًا فاجعة مريرة في الغربة، فلكم تمنى الرجل تغيير المعادلة بالكامل، ودافع ونافح عن آرائه حتى أنه سقط صريع الأمراض المتعاقبة ومنها القديم مع قسوة الواقع، فلعل أمنياته تشفع له لدى ربه؛ وتعين ماضين على الطريق في استشراف أفضل للغد وسعي مناسب للواقع لتضميد الجراح!
كاتب مصري