«أن تعيش يعني أن تكون في خطر دائم» ليكن هذا المقتبس فاتحة لما سينطوي عليه هذا النص النيتشويّ الناصع، بسبب أن من جماليات هذا الكتاب المعنّون بـ«فريدريك نيتشه: شوبنهاور مربيا» طاقته الفريدة المسفوحة على الأوراق، حين يعرّفنا على إنسان آخر، نيتشه منفلت إلى حد ما من الذي ألِفناه عنه، بينما يسحب العالم الذي كابده وهجاه وتعايش معه إلى كوكبه الصفريّ الشاسع، ومن ثم راح يُغنيه بأفكاره وآرائه الحادة والدقيقة ذات النبرة الصارخة، والأسلوب الضاغط والانفجاري في صياغة الدلالات وإطلاقها مثل سيل جارف. ففي هذا الكتاب نقرأ نيتشه وهو يمتدح الفيلسوف شوبنهاور، قارئا ومتأثرا به من جهة، وفيلسوفا من جهة أخرى، وذلك عندما أسبغ نيتشه على مربّيه شوبنهاور، كما يحلو له توصيفه هنا، روحه الفلسفية وعقائده الفكرية، بينما يخطو أولى خطواته داخل عالم شوبنهاور.
يتحدث نيتشه بوضوح جليّ عن إجلاله وتقديره لهذا الفيلسوف، حتى رأى حينما حصل على كتاب «العالم إرادة وتمثلا» مصادفة في إحدى المكتبات القديمة، أن شوبنهاور كأنما كان يكتب إليه. ويا له من شعور لا يُنسى ولا يخفى على أي قارئ في مسيرته القرائية، فلطالما مررنا بهذه التجربة الظريفة، التي تأخذ بيد القارئ وتنمّي عوده الفكري وتوسّع له وعيّه من خلال تفتّح الأفاق القصيّة لتلك الشطحات، التي لا تزال في طور التبرعم. وهذا التواشج صراحة لا يجيء سوى من أساس فيه شيء ناتئ من نتفِ ذلك الكتاب أو الكاتب وروحيتهما، فيجعلهما على علاقة وطيدة يسودها الانسجام والتفاهم والاختلاف الصحي، بالإضافة إلى أنها ترسم له نقاط انطلاق مبتكرة لعوالم جديدة، مثلما حصل مع نيتشه هنا، ما دام القارئ متقدما على مرحلة الخواء، ولم يُستَقدم من حدود الصفر، حيث تبزغ أهم خطوتين متحققتين في مثل هذه العلاقة المشروطة:
ـ معرفة أساسية أو عامة.
ـ والبصيرة الممنوحة كموهبة وهي سابقة على تلك المعرفة المكتسبة عبر الكتب أو التنشئة.
والحديث هنا هو عن طبيعة تلك العلاقة بين القارئ والكاتب على وجه العموم، ثم بين القارئ والكاتب على وجه الخصوص، في علاقة نيتشه ذي الأساس المتين بمعلّمه. وقد أنهى نيتشه قراءة ذلك الكتاب في نهاية أكتوبر/تشرين الأول عام 1865 وتحدّث عنه في مواضع عديدة، سواء عبر رسائل إلى أصدقائه، أو عبر أحاديث متناثرة.
في هذا الكتاب نرى نيتشه في أعلى سقف من الاعتيادية الإنسانية، التي تجعله مألوفا بالنسبة للقارئ، فهو يشبه أناسا عرفهم القارئ في لحظات الإعجاب والاحترام الكبيرين، على اعتبار اعتياد القارئ، أو بالأحرى تأدلجه على روحية الازدراء النيتشوية النفاثة والمعدية، التي أخذت مكانتها اللامعة في اعتلاء رفوف الفضائل من خلاله. وعلى الرغم من صراحته وفداحة آرائه المعتادة من الخارج وهو القالب الشائع في ما يكتبه نيتشه، إلا أنه من الداخل ظلّ يطرّي هذا النص بإعجابه البالغ وتمجيده، الذي يراه مستحقا لفئة قليلة تحمل دماء العبقرية، وتعاني من العزلة والكآبة، وتنتصر على التعليم الفلسفي الجامعي، الذي على ما يبدو أنه يعيبه على الفيلسوف كَانط وعلى كثيرين غيره من أساتذة الفلسفة، وما شابه ذلك من المؤسسات التي تضم المفكر والفنان وتعرّضه للتذويب داخل عناصرها، وهو بذلك يفقد أحقيته بل وقدرته على رفضها والثورة عليها. وإذا ما توقفنا في هذه المحطة قليلا، سيتضح لنا ما يمكن لمسه في حياتنا اليوم داخل منظومتنا السياسية الخاوية، حيث أن المشاريع الضخمة والجادة بحاجة إلى تمويل ودعم ضخمين على الأصعدة كافة، ولذلك تعرّض العديد من المبدعين من أصحاب المشاريع إلى عملية التذويب، داخل المؤسسات نفسها التي يحمل ضدها المبدع / المفكر / الفنان العديد من المؤاخذات.
كما يرى نيتشه ما نراه نحن اليوم في تشكلات الفنان الداخلية، وما يستتبع ذلك في الخارج، ما يجب أن ينطوي عليه من صدق وإخلاص في البحث عن الحقيقة، وكيف أن على الفيلسوف أن لا ينصرف عن سيرة الوجع في حياته، ولا يلهو عن مآسيها، بل يتخذ منها شرفة تطل على بوابات الرؤى الفلسفية والروحية العميقة، بمعنى، أن يتطابق قولُ الفيلسوف وفعله، لا أن تستحيل فلسفته محضَ أقوال، ولا إيمانه مجرد إيمان ظاهري كما هو لدى كَانت حسب ما يراه وأشار إليه. ثم كعادته أخذ ينتقد الثقافة الألمانية الثقيلة والجامدة، كما فعل في مناسبات عديدة سابقا، تلك الثقافة التي أخذت تحتفي بالرايخ وعبادة الدولة عندما رجعوا بالإنسان إلى المرحلة الوثنية التي تؤدي في النهاية إلى الغباء الذي يحاربه هو وأمثاله العباقرة. وقبل ذلك قال: «إن تأسيس رايخ ألماني جديد هو ضربة حاسمة ومدمّرة ضد كل فيلسوف متشائم». ومن ثم عرّفنا على: «ثلاث صور للإنسان وضعها عصرنا الحديث حسب الترتيب: إنسان روسو، إنسان غوته، وأخيرا إنسان شوبنهاور». وقال: تمتلك الأولى نارا قوية، وسيكون لها بالتأكيد تأثير واسع. الثانية مقصودة للأقلية فقط، للكائنات المتأملة من النمط الكبير، التي يسيء الحشد فهمها. والثالثة تقتضي تأملا من قبل أكثر الناس فعالية فقط، هؤلاء يمكنهم تحمل رؤيتها، بدون أن يؤذوا أنفسهم، لأنهم يضعفون المتأملين ويروّعون الرعاع. ثم عكف على شيء من تفصيل كل من هذه الصور وترابطها ومصائر تحولاتها، كما في إنسان غوته المهدّد بالتحول إلى ضفة المحافظين.
في هذا الكتاب نرى نيتشه في أعلى سقف من الاعتيادية الإنسانية، التي تجعله مألوفا بالنسبة للقارئ، فهو يشبه أناسا عرفهم القارئ في لحظات الإعجاب والاحترام الكبيرين، على اعتبار اعتياد القارئ، أو بالأحرى تأدلجه على روحية الازدراء النيتشوية النفاثة والمعدية، التي أخذت مكانتها اللامعة في اعتلاء رفوف الفضائل من خلاله.
وقد يتناقض نيتشه مع نفسه حين نقرأ هذا الكتاب والجوهر الذي ابتنى عليه موضوعه، عندما نستذكر في بعض شذراته الفلسفية تلك السخرية من المعلّم، ومحاولاته في إبعاد من يريد أن يتخذ منه معلّما. ولعلّ الأخيرة واحدة من الوقفات التي طالما أعجبتني، فهو يحثّ القارئ على أن يجد طريقه الخاص، بدل أن يظل عالقا في العبودية، وهي عبودية مستشرية في الأوساط الثقافية والإبداعية العربية، إذ من النادر وجود من يحثك على صناعة طريقك الشخصي قبالة الأعداد الغفيرة الطامحة لجعلك بالكامل حلقة صغيرة من حلقات المتأثرين بعوالمهم الشخصية، كي لا يسمحوا لبزوغ تجربة جديدة تكمّل السلسلة الإبداعية، فهم لا يطمحون إلى تمام السلسلة، بقدر ما يسعون إلى إيقافها وقطعها إلى حيث ينتهون هم، ومع ذلك ظل الأمر مستحيلا عليهم، فالمبدعون الموهوبون لا يمكن احتواؤهم داخل جدران ورقية كانت أو كونكريتية. وقد كتبت مرة أن: «الأساتذة الحقيقيين هم من يعلمونكَ كيف تصبح أستاذا، عدا ذلك هي محاولات لصناعة عبد».
ويحسب للمترجم والشاعر قحطان جاسم قدرته على مجاراة لغة نيتشه، المتخصص في عوالم اللغة الذي يمازج بين أفكاره الفلسفية ولغته الشعرية، وكثافة معانيه بطريقة تتطلب من المترجم أن يكون على قدر هائل من التأني في تفكيك الشعري والفلسفي، ومن ثم تقريبهما إلى أقرب صياغة صائبة ممكنة تلائم الكاتب والقارئ معا.
وفي الحقيقة، الكتاب قد لا يدهش القارئ من النواحي المعرفية التي اعتادها في كتب نيتشه الاخرى ذات الصبغة التخصصية، إذ لا يقول الكثير هنا ولا يصدم قارئا اطلع على نيتشه من قبل، لكنّه كما أسلفنا يغري بظهور نيتشوي مرهف ومختلف وهذا هو أُسُّ أهمية هذا الكتاب، كما أن تلك الرهافة التي تمت الإشارة إليها، ليست مجرد رهافة عاطفية محضة، إنما هي رهافة العالِم العارف بعد طول تأملٍ وتمحيص. وبالإمكان القول إن اهتمام نيتشه بفيلسوف سابق تصدى لظواهر عصره، يعني أن الأفكار الحقيقية هي أفكار حية عابرة للأجيال والسنين والأساليب المستخدمة في تفكيك الظواهر وتشريحها يجوز لها الانتقال ومن ثم تجربتها في عصور لاحقة إذا ما وجدت لها مستقرا وحاجة. وهو ما يتبدى في إحدى إشارات نيتشه لنفسه، قوله إنه خُلق لعالم آخر جديد ومستقبليّ غير الذي ولِد فيه.
وينظر نيتشه إلى حياة شوبنهاور وطفولته ومعاناته على أنها كانت عائقا كبيرا يحدُّ من عبقرية فذة تمور في أعماقه، وعندما استطاع الإفلات من قبضة تلك الظروف، صار شوبنهاور الذي نعرفه، ولكنّ الاطلاع اليسير على حياة الفلاسفة وتنشئتهم، سيظهر لنا أن مثل تلك المعاناة والقيود مهما تعاظمت هي التي ستشكل أساسات لرؤى فلسفية لاحقة، وبرهان ذلك هو أن نيتشه نفسه أكّد على صدق شوبنهاور، وأشار إلى تلك الكآبة والعزلة التي غلّفت حياته، ولا أظن أن شوبنهاور سيكون بصورته نفسها التي يمتدحها نيتشه هنا في نصّه هذا، لولا تلك القيود التي حاصرته، في بداية حياته، لكانت الصورة ناقصة، ولربما ما كان ليصبح فيلسوفا من الأساس، ولربما كان سيدرس الفلسفة ويصبح مخلصا للعلم وللأكاديميات، فينتقده نيتشه كما فعل مع كَانت. ومن خلال النظر إلى حيوات «أساتذة اليأس» يمكن الاتفاق على جملة من المثبّطات، تضاف لها حلقات مدوّية من الصراعات والمآسي التي أصبحت سببا في شيوع العدمييّن الفلاسفة، خصوصا بعد الحروب وما تخلّفه وراءها من كوارث بحق الإنسان والحضارات، الأمر الذي يُحيلنا إلى أن حزمة واسعة من الفلسفات هي ليست فلسفات عقلية محضة، بل هي أشبه بناتج مغمور لم يتم الكشف عنه، تعود جذوره إلى مثل هذه الظروف الحياتية، سواء أكانت على سبيل التنشئة، أو بسبب الحروب، أو ما يشابهها من الكوارث، إلا أن التنظير لذلك الناتج وطريقة طرحه وشرحه هي عملية عقلية محضة، ولهذا قد تختفي أو تمحي تلك الجذور أمام العديد من القراء، ولكنّها دائما هناك تختبئ في سيرة حياة الفيلسوف، تلك الشرارة العاطفية التي توقظ روح الفكرة وماكنة التفكير، وتمضي إلى طريق يعبّدها بالعظام ويكسوها باللحم. ولابد من الإشارة إلى أن نيتشه كان سبّاقا في الكشف عن تخوفاته من العلم، وتوجه الأفراد على نحو من التسليم إزاءه، على اعتبار أن العلم لا يُعنى بالألم الإنساني، كما أنه على حد رؤية نيتشه «يؤذي خدمه، لأنه ينقل صفاته إليهم وبالتالي يشل إنسانيتهم». ولعلّها تنبؤات بما سيحدث في عصور لاحقة بسبب العلم والتطور التكنولوجي، حتى وصلنا اليوم إلى حالة من انتظار سميك لعصر من الإنسان السوبرمان وتقنيات البايوتكنولوجي والذكاء الاصطناعي والتخوفات المرافقة لمثل تغييرات ذات طابع جذري وشموليّ غامر للحياة الإنسانية.
صدر الكتاب عام 2016 في لبنان، واشتركت كل من منشورات ضفاف، وأوما، والاختلاف، ودار الأمان في إصداره، يتألف من ثمانية فصول، بواقع 126 صفحة.
كاتب عراقي