يتساءل الأدب دائما عن شهوة السطوة ويحاول فهمها بنوايـا صادقة، إنه يقف في صف الضحية، لكنه معجب بجسارة القاتل. حزين لأجل هابيل لكن حجر قابيل يلفت النظر! (علينا أن نتذكر أن العدالة تحب الضحايا لكن عينها على ذهب القتلة) نظرة الضحية إلى نفسها وإلى الوجود مهمة أيضا، (فصنعها يبدأ منذ الطفولة)؛ وهي تتميز خلافا لما ذهب له بلانشو، حين رفع من قيمة الصمت بالرغبة في جذب الانتباه لمحنتها، بحيث تغرس فيها شهوة الحكي، لتعرض مآسيها كما يفعل الأخطبوط على الشاطئ بقلب أحشائه للخارج.
الرغبة بالحكي وعرض المآسي، وتسليم الذات للغير وانتظار ما لن يأتي (الانتظار فن لا يتقنه سواها) والسير للوراء إحدى هِباتها الفطريـــــة فهي لا تعرف الهرب للأمام، إنها تعلق في مصيدة نكبتها ومحنتها وتروح تجترها في كل مرة بصياغة جديدة.
بعد أن أبادت أمريكا الهنود الحمر، رمت من تبقى منهم في المستنقعات التي تفوح منها روائح الماريجوانا والإدمان والسُباب، ثم أرسلت الصحافيين لتوثيق هذه الهمجية. انظروا هذا مكانهم الطبيعي. إذن هذا ما تنفع به الضحية (تدمير ذاتها). يضع بلانشو يده على الكلمة المهمة في هذا المجال، محو الذات. وعلى الضحية أن تتولى فعل ذلك بنفسها، أحد أشكال المحو حين تموت اللغة -التي هي علامة على نمو الذات – ويسقط الإنسان في الكلام وهذا شبيه بالثرثرة والسقوط عند هيدغر.
بين حين وآخر تصل لبريد أحدنا دعوات الانضمام لدورات تأهيلية لصحافيي العالم، وكي تكون جزءا من فريق الصحافة الحرة والجديدة، هل يبحثون عن كيفن كارتر يحمل كاميرته وينتظر موت طفلة وبموازاته نسر جائع» فالنسر كان يجهز منقاره وكارتر يصوب كاميرته» أتساءل عما إذا كانوا يبحثون عن «نسر جيف آخر». إن صياغة الرسالة، توحي بأن حاسوبا، أو ذكاء صناعيا تولى كتابتها، وأن الأصابع البشرية لم تفعل سوى النقر على لوحة المفاتيح. رسائل خالية من العاطفة، وظيفتها أن تترك لديك شعورا مستمرا بأنك من طراز عتيق وأن ثمة ما يتجاوز فهمك للعالم الجديد (أن تعزز شعورك بالذنب والبلادة). في كل الأحوال فإن العالم يتوق لسماع سرديتك، يوجهون الميكروفون نحو فمك بثقة؛ لأنهم يعرفون أنك تتكلم دون لغة، تهذر دون قيمة (يضعون اليد الأخرى في جيبك) يمكن لك أن تسرد أو تمسك الكاميرا، المهم أنك ستكون جزءا من فريق كامل، مشغول بالحفاظ على بقاء هذه السرديـة في هوية ثابتة. لكن كيف تحول استعراض الآلام إلى استعراض لغرائز الضحية واستمتاع بإخراج مكبوتاتها؟
إن العالم الغربي الذي كان يرغب بالتلصص عبر بوابة ألف ليلة وليلة ونساء هنري ماتيس؛ وفي تهويمات فولتير. سيحافظ على مستوى جديد من الهوية يظهر فيها الشرقي النهم للجنس، والنهم للدم، الذي ينضح بالعار والخزي على نقيض بلاد الثلج. فالصحافة الجديدة حيـة ويَقِظة، وهي إنسانية في استماعها لكل شهقة تصدر عنك لا تعِدك بالعدالة أو الازدهار، إنما لديها وعد وحيد أن تستمع باهتمام لنكباتك وقصصك (بشرط أن تظل منكوبا) بطريقة تصل حد انتهاك خصوصيتك بطريقة احترافية.. إنـــه عالم مصنوع بشكل جيد، فبينما يخوض السياسي الحروب، يوثق الإعلام سرديتك في دوريات ممولة أوروبيا، يفضل مدراء التحرير انصياعــا لتوجهات مؤسساتهم، أن نكتب كضحايا، وهذا يعني أمرين: أنك مقلم الأظافر، هذا أولا، وأن سرديتك عليها أن تثير العطف وتنتزع الإعجاب ممن لا يراك خارج هذا الإطار. فالتعاطف أقل كلفة من الشعور بنديـــــة الآخر، والتفوق أهم من العدالة، لا يحتمل الطرف الآخر سماع نبرتك القوية، فالنبرة الواضحة والعالية سوف تُفقدك نقاط تعاطف الآخر.
إن صياغة الرسالة، توحي بأن حاسوبا، أو ذكاء صناعيا تولى كتابتها، وأن الأصابع البشرية لم تفعل سوى النقر على لوحة المفاتيح. رسائل خالية من العاطفة، وظيفتها أن تترك لديك شعورا مستمرا بأنك من طراز عتيق وأن ثمة ما يتجاوز فهمك للعالم الجديد (أن تعزز شعورك بالذنب والبلادة).
في قضية تحرش تصبح الضحية مجرد برواز يعرض أمام الآخرين، إنها مثل حشرة تنقلب على ظهرها تحت المجهر (لن تقف على قدميها أبدا). في رواية «المسخ» لكافكا تنقضي الرواية والحشرة منقلبة على ظهرها، تنتظر عطف الآخرين، حتى أنها لم تتناول الطعام النظيف، بل رفضت الحليب الساخن وانتظرت الخضروات البائتة، وفتات الخبز المتساقط من أفواه الآخرين. (هذا غذاء الضحية بقايا الآخرين وفتاتهم). وتحت شعار تحريرك من الخوف فإن سرديتك سوف تضاعفه في المرايا. تحافظ على مكانك وتتكلس ولا يعود بإمكانك أن تنظر لنفسك خارج هذا الإطار. هذا النوع من المجلات يقدم مثالا لما يجب أن تكون عليه الضحية. ليس عليك سوى أن تبيعنا فضائحك وخزي أبناء قومك ونعطيك مئة دولار، وعنوانا جذابا ومقروئية (تبدو وكأنها جميع بيانات عن هرموناتك، وفهم آلامك آخر ما يعنيها).
يُقدر فانون حرص الشعوب الخاضعة، على تأكيد تراثها الثقافي الأصلي واسترجاع تواريخها المكبوتة، لكن سارتر ينظر في الكتاب ذاته لذلك بعين الريبة. «إذا كان في تأوهاتهم هذه ظل من مطمح، فهو التوق إلى الانضمام، ولا مجال طبعا لمنحهم ذلك، وإلا كنا نهدم النظام الذي يقوم على زيادة الاستغلال لكن يكفي أن ندع هذه الجزرة ماثلة أمام أعينهم حتى يركضوا».
في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» ينتهي مصطفى سعيد بالغرق في النيل، إن كل علمه وفكره يحترق في غرفة صغيرة. هذه الرمزية انتهت بموته لأنه قرر تبديل ثوب الهزيمة، فانتهى عنيفا وقاتلا. بعد سنوات سيأخذ عبد العزيز بركة ساكن في الرجل الخراب مصطفى سعيد، ويعمده باسم حسني درويش صيدلاني ضحل الثقافة، انتمى إلى منظمة متطرفة في شبابه، وهناك سيعمل مخريا للكلاب، سيتخلى عن سرديته ويتبنى سردية الآخر. وحين يقرر التمرد ينتهي ميتا. هذا أقل ما يحرص عليه الآخر، إن الثبات هو الوضع الذي يجب أن يبقى لاصقا في سردية الضحية. يعمل الأدب أحيانا على تبني سردية المستعمر بوعي أو دونه. (عداء الطائرة الورقية لخالد حسيني، كتبت بمقاييس الآخر) إن نصا تحاول فيها الضحية تغيير سرديتها، من سردية الشكوى إلى التحليل والفهم الموضوعي للخلاص من مأزق وجودي وضعت فيه (يهدد هذه المجلات ولا يتفق وتوجهاتها وتعليمات مموليها)؛ وبحجة استقدام ما كان هامشيا كالفن والغريزية الجنسية والجسد والمشاعر تعرض المآسي. إنك ستنبذ تاريخك وهويتك وتهشمها بأقصى ما استطعت. حين تنشأ الحرب في بلد، تنمو معها هذه المجلات الممولة أوروبيا كالفطر السام – وهذا جيد – لكن التفاف هذه الأخيرة على الحقيقة بتقديمها في سرديـة مخاتلة، نتأوه لنثبت لهم، نحن نشبهكم ونتفق مع رؤيتكم لنا، ها قد خرجنا من جلدنا. تريدوننا مهرجين سنرقص، مكبوتين سننتحب، ضحايا سنتمدد ونتمرغ بالتراب. وهذه المجلات لا تقبل بحال من الأحوال نصا تفوح منه رائحة التحليل العقلي، أو قصة نجاح.
نعود لسارتر الذي اختصر ذلك في قوله «لقد كنا إذن نشجع تلك الألوان من الأسى، وفي ذات مرة لم نجد ضيرا في أن نمنح أحد الزنوج جائزة غونكور، وكان ذلك قبل عام 1939. نتساءل عن تلك المجلات التي جاءت مع انهيار عالمنا العربي كتب أحدهم مرة: إن ضحايانا يعرفوننا بواسطة جراحهم وأغلالهم. ويمكننا أن نضيف وإن هؤلاء يعرفوننا من خلال جراحنا وأغلالنا، وإن صوت السلاسل في أقدامنا يطربهم. فلا يمكنهم احتمال خطواتنا الحرة.
تثير فكرة الضحية الكثير من الأسئلة أحدها، تماهيها التام مع صورتها عن نفسها كضحية، لأنك دائما مسلوب الإرادة. وحذار من أن تتجاوز سردية الضحية إلى أفق النجاة، في النجاة نهرب للأمام، الضحية تعلق في المكان ذاته؛ إنها ممتنة لأنهم يستمعون لمأساتها، ممتنة للمكنسة التي وضعوها بين يديها، وفي حال تلقت هذه المجلات سردية لا تشبع التلصص ولا تثير الشفقة وتخاطب الوعي الذكي فإنها تعتذر بلباقة شديدة: هذا «المقال مهم ياعزيزي الضحية لكن مكانه ليس هنا». سيخافون منك لحظة رفع رأسك عن مكنسة الزجاج- مأساتك، وحين تتوقف عن تدمير ذاتك- ستثير قلقهم ولذا سوف يتجاهلونك قَدر الإمكان. كتب آلان مابانكو في «البازار الأسود» إننا في الأصل شعوب تعذبت كثيرا، ولا تريد المزيد من العذاب، إننا لم نعد نحتمل فكرة العمل في فرنسا كناسي شوارع في حين أننا لم نشاهد أبدا في ساحل العاج فرنسيين يكنسون الشوارع وحيث أنهم لا يريدون أن يعترفوا بأننا موجودون، لذلك فهم لا يوظفوننا إلا في كنس الشوارع.
كاتبة سورية