كيف تكون الحرب «منجاة» للبعض ومهلكة لغيرهم!

لماذا يغامر نتنياهو- ومعه قيادته- إلى هذا الحدّ بإسرائيل والإسرائيليين، ويفرّط بالقوة العظمى الأساسية التي تدعم إسرائيل دون تحفّظ إلا نادراً؛ وكيف يُفسّر ذلك العناد الأحمق واستيلاد الذريعة، وراء الذريعة حتى يستمرّ بالحرب؟ تبدو الأمم المتحدة مباشرة – وبشكل غير مسبوق في العقود الأخيرة – طرفاً في الحرب، ويتّخذ المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية قراراً يطلب من الحكومات اعتقال نتنياهو والسنوار ومعهما آخرون من إسرائيل وحماس، ولا تهتزّ شعرة في رأس نتنياهو؟ وكيف تملأ المظاهرات شوارع تل أبيب والقدس ضدّ نتنياهو وحربه ويبقى مصرّاً على متابعة الحرب حتى «تدمير حماس» وإعادة غزّة إلى عصر سحيق، وإسرائيل بلد يخضع من حيث الشكل على الأقل لمعادلات الدولة الحديثة، التي تتأثّر بالجمهور ورأيه؟
ولماذا يغامر السنوار – ومعه قيادته – إلى هذا الحدّ بالهيكل الفلسطيني الضعيف أساساً، ذاتياً وموضوعياً. كيف يمكن فهم المبادرة إلى «طوفان الأقصى» التي ليست مجرّد اندفاع راديكالي لتحرير الأرض «من البحر إلى النهر» وزلزلة بنية إسرائيل بوجودها ومستقبلها؟ والكلّ يرى – وكان يمكن أن يرى من قبل- كيف استنفر «طوفان الأقصى» الحكومة الإسرائيلية ومعها المعتدلون المعارضون أيضاً، للقيام بدكّ أساسات وجود غزّة وسكانها، والمباشرة بدكّ الضفة وسكانها بعد ذلك، في مجزرة رهيبة تحصد الناس وتدمّر حياتهم؟
يتطرّق هذا المقال بإيجاز إلى موضوع الحرب والسلام الخارجيين، والحرب والسلام الداخليين، بالعلاقة مع ثنائية التطرّف والاعتدال أو الصقور والحمائم؛ وكذلك علاقة المبادرة بالحرب، وتوتير الأجواء مع البقاء في السلطة، بالنسبة للحكومتين في الضفة والقطاع… في أجواء ما يحدث في غزة وشرق المتوسّط عموماً. كثيراً ما يكون المستدون مسؤولين عن بدء الحروب أو الصراعات، من أجل تعزيز سلطتهم ومصالحهم. قد يستخدمون العدوان العسكري للحفاظ على السيطرة على شعبهم، أو قمع المعارضة، أو توسيع أراضيهم، أو لمجرّد تحقيق الانتصارات وترويج الأساطير. القائمة طويلة، تشمل أدولف هتلر، الذي بدأ الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وصدام حسين، الذي غزا الكويت في حرب الخليج. قد تكون الحرب أيضا وسيلة لتحويل الانتباه بعيدا عن المشاكل الداخلية، أو حشد الدعم للنظام. ولا بأس بالقومية والدعاية، أو حتى الدعوة الدينية لتبرير أفعال المستبدين وتشويه سمعة أعدائهم. استخدم المستدون الحرب والتوتّر مع الخارج كذلك، كوسيلة لتأكيد هيبتهم وإبراز قوتهم على الساحة العالمية.

كثيراً ما يكون المستدون مسؤولين عن بدء الحروب والصراعات، لتعزيز سلطتهم ومصالحهم، وقد يستخدمون العدوان العسكري للسيطرة على شعبهم، أو قمع المعارضة، أو توسيع أراضيهم

على مرّ التاريخ، كان هناك العديد من المستبدّين، الذين بدأوا حروبا ذات عواقب مدمرة. وقد يتحمّل بوتين مسؤولية في خراب مستقبل البشرية، إذا تفاقمت حربه على أوكرانيا؛ كما يمكن كذلك لكيم جونج إيل أن يوصل العالم إلى مثل تلك اللحظات، بصفته ديكتاتور كوريا الشمالية الخرافي، الذي تابع وأوغل في سياسة والده وجدّه المتمثلة في المواقف العسكرية العدوانية، والتهديدات ضد كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وقد أدى هذا إلى توترات مستمرة ومناوشات عرضية في المنطقة. وأقرب الأمثلة نظام خامنئي الذي وصل بوظيفة الأيديولوجيا إلى اكتمالها من طريق الدعوة الدينية وبالسياسة والحرب في مزيج متفجّر، إلى حيث لا تتوقف الحروب، ولا الأزمات المستمرّة، الممزوجة مع «الثورة المستمرّة». يهوى المستدون الحرب، وإن كان ذلك محفوفاً بالمخاطر، فلا بأس بالبقاء على حافة الحرب ومتابعة توليد التوتّر. وإن جفّت ينابيع التوتّر خارج الحدود الإقليمية، فلا بأس أيضاً بشنّ الحروب في الداخل.. ذلك يعزّز الخوف والرهبة. يمكن للعالم أن يتعلّم الكثير من تجربة حافظ الأسد وابنه بشار خلال خمسة العقود الماضية، والعقد الأخير منها خصوصاً.
يمثّل نتنياهو وجهاً جديداً للمسألة في حربه على غزّة: الهرب من المحاسبة إلى الأمام. فقد كان عرضة للمحاكمة والملاحقة منذ سنوات في قضايا فساد ثابتة، كما يبدو، ولا يمكن تأجيل ذلك إلا إذا كانت إسرائيل كلّها في حالة حرب وخطر داهم. يساعده على ذلك حلفاء شرسون من أقصى اليمين الديني، وأكثره تطرّفاً وعدوانية كبن غفير وسموتريش، لا يمكن التواصل بينهم وبين حاضنتهم إلا بقصص التوتّر والاستفزاز والعنف تجاه الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. ربْما تصبح حكاية مسلسل المفاوضات من أجل إعادة الرهائن ووقف إطلاق النار موضوع دراسة في الدوائر المختصة، حيث تشكّل المشاريع والتفاصيل والتعديلات وتغييرات المواقف ومتعارضاتها وتعدّد المرجعيات بين الجيش وأجهزة الأمن والحكومة والمستوطنين، بين وزير الدفاع ووزراء الحكومة الأمنية. وكان الوحيد الذي غاب عن الإعلام أكثر من غيره وزير الخارجية، الذي لا يعرف اسمه معظم المتابعين للأخبار. قام نتنياهو بتعديل شروط اتفاق وقف إطلاق النار مراراً، رافعاً مستواها ومغيّراً فيها من يوم إلى يوم ومن أسبوع إلى أسبوع. وزاد أيضاً من القيود على توزيع المساعدات الإنسانية، حتى أوصل الغزّاويين إلى وادي الموت والمجاعة؛ ومنع أية تنازلات في شروط الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، متنقّلاً من مستوى متشدّد إلى أعلى منه، ومن مسألة تحديد الأسماء إلى أعدادهم وأحكامهم وغير ذلك. شيء واحد لم يغيّر موقفه العمليّ منه على الإطلاق: هو مسألة رهائن يوم السابع من أكتوبر، أو طويل العمر الذي بقي منهم حيّاً حتى الآن. أظهر نتنياهو ثباتاً على تجاهل هذه المسألة بشكلٍ أصبح مفضوحاً، على الرغم من أنه يعود بين أسبوع وآخر إلى دائرة البحث عن مخارج، التي أصبحت كحلزون أرخميدس الذي يبتعد منتهاه عن مبتداه دورةً إثر دورة. لذلك ربّما يواجه حربه الأصعب مع تظاهرات معارضيه في الشارع الإسرائيلي، التي يمكن أن تكون الأكبر دوراً والأكثر قدرة على تطويعه شيئاً فشيئاً.
في الجهة المقابلة تبدو مواقف حماس أكثر تماسكاً وانسجاماً، من حيث الشكل والإعلان والإعلام على الأقل. لكنّ تلك الجبهة ليست بعيدة أيضاً عن معادلة الحرب والتوتّر، انطلاقاً من مسألة التشبّث بالسلطة أيضاً، ومن الأيديولوجيا القومية الدينية، وتعدّد المراجع النسبيّ ما بين غزّة والضفة والدوحة وبيروت… وطهران. وكذلك تواجه حماس غربة متزايدة عن أهل غزّة والفلسطينيين أكثر من أي وقت، ولا يبدو أنّها تتعامل معها بشكل جدي على الإطلاق.
بغضّ النظر عن خطأ وصواب عملية «طوفان الأقصى» التي كانت الزَّنْدَ الذي قَدَحت حماس به حرباً رهيبة على غزّة والفلسطينيين، سيكون تعداد نتائجها- مصائبها- من أصعب المهام في ما بعد؛ وربّما الخطأ اللاحق المتمثّل في الاحتفاظ بالرهائن المدنيين، وإضعاف المكاسب التي كانت ستكون عظيمة في الرأي العام الدوليّ لو تمّ الإفراج عنهم وفقاً للقرارات الدولية؛ يبدو أن هنالك أيضاً فوارقَ ما بين قيادة ميدانية تحت الأرض في غزّة، وقيادة تتوزّع العمل الخارجي في المراكز المذكورة أعلاه، إضافة إلى القاهرة.
بالطبع هنالك ميلّ للتشدّد أو تفضيل ضمني لاستمرار الحرب أيضاً في غزّة؛ في البدايات على وجه الخصوص؛ يهدف إلى استثمار صدمة الطوفان لدى الإسرائيليين والعالم، وعلى الأغلب إقليمياً أيضاً. وبالطبع هنالك وراء ذلك مسألة الصراع على مركز السلطة في حماس وفلسطين مع السلطة الفلسطينية، مع تحقيق المصلحة «الأممية» المرتبطة بإيران و»الساحات» المتعدّدة. وربّما كان لذلك التشدّد انعكاس على درجة» الممانعة» وتعزيزاً لحالة التمنّع عن تسهيل وقف إطلاق النار.
هنالك لحظة سوف ينكسر فيها ذلك كلّه بالتأكيد، وعندئذٍ يمكن البدء في تعداد أوجه النكبة الجديدة لدى الفلسطينيين – والإسرائيليين- الذين لم يحاربوا.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية