كيف تم تلفيق مصطلحي الغرب والشرق؟

تتلقى جوزفين كوين أستاذة الكلاسيكيات، في كل شهر تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام طلبات المتقدمين للدراسة في قسمها، الذين يقولون إنهم يريدون دراسة العالم القديم «لأن اليونان وروما هما جذور الحضارة الغربية».
وجدت كوين نفسها تعيش مفارقة كبيرة، فمجالها يقوم فعلا بتدريس «الثقافات الإغريقية والرومانية القديمة» ويتضمن ذلك دراسة اللغات والآداب والتاريخ والفن والآثار والفلسفة، وكيف تمت ترجمة واستقبال كل ذلك عبر العصور، كما يتضمن دراسة حياة البشر العاديين المنحدرين من تلك الثقافات، لكنها بعد عقود من دراستها المعمقة لتاريخ الإغريق والرومان، وجدت أن الأفكار التي يتداولها الغربيون، والعالم، حول نشوء «الغرب» خاطئة.
تبدأ «الحضارة الغربية» حسب هذه السردية، عند الإغريق والرومان، تنطفئ لحقبة طويلة تسمى القرون الوسطى، ثم تعود للانبعاث مجددا في عصر النهضة. تزعم هذه الأطروحة أنها تؤرخ للحضارة الغربية، لكنها في الواقع، تقوم بإبعاد العالم عن الغرب، وتخلق مفهوما جغرافيا ـ ثقافيا ملفقا وملتبسا ستكون له آثار خطيرة. حسب مفهوم الطلاب، فإن تاريخ العالم قبل روما وأثينا «خارج الغرب» قد يكون مثيرا للاهتمام، لكنه «ليس تاريخنا» وأن كل إنجاز تحقق من قبل قد تم تجاوزه من قبل هاتين الحضارتين المسؤولتين عن كل القضايا الأساسية لفهم العالم اليوم من الفلسفة إلى الديمقراطية والمسرح.. والإسمنت.
هذه الرؤية، حسبما اكتشفت كوين، «تفتقر الرؤية للماضي ولفهمنا للعالم» فجذور بدايات تاريخ الإغريق والرومان موجودة في أماكن أخرى وبشر أقدم منهم. لقد اقتبسوا كل مجمل أفكارهم وتقنياتهم من أمكنة أخرى: القوانين والآداب من بلاد النهرين، والنحت من مصر، والأقنية الزراعية من آشور، والأبجدية من شرق المتوسط. «لقد عرفوا هذا واحتفلوا به» كما تقول.

أفكار وبضائع المسلمين بين الصين وإيرلندا

كان الإغريق يعلمون أنهم يتشاركون المتوسط مع آخرين مثل، القرطاجنيين والإيبيريين، وأنهم على مقربة من حضارات أقوى منهم إلى الشرق، وربط الإغريق أبطال أساطيرهم بملوك وملكات وآلهة موجودة ومتخيلة من خارج أراضيهم، واعتبرت روما بناءها مكانا للاجئين، وتخيل شاعرها كاتولوس نفسه مسافرا مع أصدقاء للهند، وجزيرة العرب، وفارس، ومصر وحتى إلى بريطانيا التي اعتبرها تقع في الجهة الأقصى على طرف للعالم. يُضاف إلى ذلك أن عاصمة الإمبراطورية الرومانية، انتقلت منذ منتصف الألفية الأولى إلى القسطنطينية وبقيت هناك قرابة ألف عام، وكان المسلمون، أثناء ذلك، كما تقول المؤلفة، قد جمعوا معارف الإغريق وعلوم فارس والهند وأواسط آسيا، ونشروا تقنياتهم وعلومهم بين افريقيا وجزيرة العرب والمحيط الهندي، فيما انشغل بحارتهم بنقل البضائع والأفكار من الصين حتى إيرلندا (يستشهد الكتاب في مقدمته بقول مؤثر للروائي الإيرلندي جيمس جويس يقول فيه، إن نسيج الحضارة الغربية حُبك من عناصر متعددة، تصالح فيها نهب قبائل الشمال مع القانون الروماني، وتقاليد البورجوازية مع بقايا الديانة السريانية، بشكل يجعل من العبث البحث عن خيوط بقيت نقية، عذراء ولم تتأثر بالآخرين).
ورثت أوروبا الغربية هذا العالم الشاسع في القرن الخامس عشر، مع انتقالتها إلى العالم الجديد المكتشف في القارة الأمريكية، فتم نسيانها بشكل كبير وإغراقها بأفكار نشأت في الحقبة الفيكتورية، التي قامت بتفكيك العالم إلى «حضارات» منفصلة، وغالبا مشغولة يدويا بشكل يضعها في تعارض مع بعضها بعضا.
هناك قصة مختلفة يقدّمها الكتاب، لا تبدأ هذه القصة من البحر المتوسط الإغريقي والروماني، لتعود للظهور في النهضة الإيطالية، وهناك نقد مهم فيه لفكرة الحضارات نفسها، التي يعتبرها طريقة باتت اعتيادية لرؤية العالم اليوم، كما لو كانت هذه الحضارات حقائق طبيعية خالصة، إلا أن أشكال التواصل بين البشر، وليس الحضارات، هي التي كانت دافع التغير في التاريخ.

الاستبداد «شكل شرعي لحكم البرابرة»

ظهر مصطلح «حضارة» عام 1750 في فرنسا، وقام فلاسفة مثل الاسكتلندي جون ستيوارت ميل بتطويره، معتبرين أن عناصر المفهوم تنطبق على أوروبا الغربية الحديثة، وبدرجة كبرى على بريطانيا، وساهم هذا المفهوم المجرد الناشئ في دعم الإمبريالية الأوروبية الغربية، وحسب الفيلسوف نفسه الذي خدم في شركة الهند الشرقية، فإن «الاستبداد هو شكل شرعي للحكم للتعامل مع البرابرة إذا كان الهدف النهائي لذلك هو تطويرهم». مع الدخول في القرن التاسع عشر لم يعد هناك في أوروبا استخدام لمصطلح «حضارات» فقد باتت هناك حضارة واحدة فقط، ليعود الحديث لاحقا عن «حضارات» ذات شخصيات مختلفة، كما في محاضرات المؤرخ الفرنسي والسياسي فرانسوا غيزو Francois Guizot مثل الحكم الديني في مصر القديمة والتجارة في فينيقيا، غير أن غرض هذا التحديد هو تمييز تلك الحضارات باعتبارها «غير أوروبية» ففيما كانت الحضارة الأوروبية تتسم، بكونها متعددة العناصر، معقدة ما يجعلها تنعم بالحريات، فإن الحضارات الأخرى كانت تتسم بعنصر واحد يأخذها نحو الطغيان.

انزياحات المفهوم: روسيا أم العالم الإسلامي؟

تقول كوين إن اكتشاف أن قبيلتك تتمتع بأفضل الصفات ليس أمرا جديدا، لكن بناء نظام تمايز معمم للثقافات البشرية كان شيئا مستحدثا، وهو اختراع أخذ نمطا جديدا بعدها عبر تقسيم البشر إلى أعراق تتخالف طبيعيا في قابلياتها العقلية، بسبب التطور والانتخاب الطبيعي الذي جعل بعضها أرقى وبعضها أحطّ. سيتم بعد ذلك نظم مراتب تلك الأعراق حسب نظام على علاقة بلون الجلد، جعل الأستراليين الأصليين في الأسفل، ليأتي بعدهم الافارقة وشرق الآسيويين ويضع الأوروبيين على القمة. مع اكتشاف الأوروبيين لأمريكا تعرّض مصطلح الحضارة الأوروبية لاهتزاز، ثم استقر على كلمة جديدة مفيدة للمعاني والأهداف المتوخاة: «الغرب» وهو مصطلح مرن يمكن استخدامه مع أوروبا أو بديلا عنها يتضمنها مع مستوطني القارة الجديدة، واخترع في المقابل مصطلح آخر لا يقل فائدة هو «الشرق» الذي كان لا يقل إشكالية في ذلك الوقت، حيث استخدم وزير خارجية بريطانيا فيسكونت بالمرستون عام 1834 لوصف تجمع ضم بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا في مواجهة «الحلف المقدس للشرق» الذي ضم بروسيا، النمسا وروسيا، وقد استخدمه أستاذ تاريخ عام 1896 لوصف الصراع في صقلية بين الآريين (الإغريق القدماء) والساميين (الفينيقيين ثم المسلمين).
المسيرة التاريخية للمصطلح انتهت فكريا إلى اعتباره تشخيصا للديمقراطية والرأسمالية والحرية والتسامح والتقدم والعلم، إضافة إلى كونه مسيحيا مؤسسا على تقاليد العهد القديم، وساهمت الكنيستان اللاتينية واليونانية بعدها في ضم الإغريق والرومان إلى «قلب تلك القصة» لنصل إلى التصوّر العامّ الحالي الذي يدفع طلاب الأكاديمية كوين، ونظراءهم في العالم، إلى اعتبار «أثينا وروما أساسا الحضارة الغربية».
استمرت الحدود المتخيلة للحضارة الغربية في الانزياح أثناء القرن العشرين فمع صعود «الجدار الحديدي» منذ عام 1945، فُتحت جبهة جديدة تستخدم مفهومي الغرب الذي صار الولايات المتحدة الأمريكية مع أوروبا الغربية، والشرق الذي يمثله الاتحاد السوفييتي والبلدان الأوروبية التي تقع تحت سيطرته، ثم تغيّرت الحدود مجددا مع سقوط الاتحاد السوفييتي واندلاع أحداث أيلول/سبتمبر 2001 حيث تم تعريف الشرق باعتباره العالم الإسلامي، ليقوم الهجوم الروسي على أوكرانيا، بعدها، بخلط أوراق المفهومين البائسين مجددا.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابن الوليد. المانيا. (على تويتر ibn_al_walid_1@):

    الطفل.. كي ينمو بطريقة صحيحة يبدأ بالانفصال عن
    أمه شيئا فشيئا… حيث كان جزءا منها.. في بطنها..
    وكأنه عضو منها… أو أحد الأشياء في أحشائها..
    .
    يبدأ الرضيع بتحديد امتداد جسمه في محيطه..
    ثم يعرف حدود هذا الامتداد… وأن هناك كيانات
    أخرى لها امتداد جسمي في محيطه.. يلمسهم..
    ثم ينفصل عنهم… كصدر أمه وحضنها..
    .
    هكذا يبدأ ال “أنا” يتشكل لذيه… وهو أساس وجوده
    لاحقا بين الموجودات الأخرى ..
    .
    ال “أنا” .. أو مع الجماعة ال “نحن” .. تتطلب تحديد
    الامتداد اولا.. وحدوده مع الموجودات الأخرى ..
    .
    وهكذا مع ضهور وبروز الدول أو الحضارات تتم عملية
    ترسيم الحدود مع الآخرين… هي عملية مهمة جدا
    لتقوية الأنا.. وإدارة الصراعات مع الأنا عند الموجودات
    الأخرى… الصراعات التي هي في الأساس حول امتداد
    الأنا لوجوده قويا مع أنا الآخرين… وقد يكون الأمر
    حدود أرض.. حدود ثقافات.. حدود فنون…
    .
    يتبع رجاء 1

  2. يقول ابن الوليد. المانيا. (على تويتر ibn_al_walid_1@):

    فقبل أن يصبح الغرب قوة.. تمت عملية بناء الأنا
    لذيه… والأمر ليس سهلا بسبب التنوع بين مكوناته..
    ما جعله يبتكر طرقا مطاطية تقويه وتحول دون تفككه..
    .
    الغرب نشأ بأنا تريد الامتداد .. لذلك كما جاء في المقال
    أعاد مرارا وتكرارا تحديد مفهوم كينونته..
    وقد يغير من هذا المفهوم حسب المستجدات ..
    .
    المصيبة عند أمة فهمت بطريقة خطأ انها أخرجت للناس..
    وهي للكل كما فهمت.. وهكذا لم تتكون لذيها الأنا بشكل كافي.. وقوي.. فمن يأتيها تبايعه..
    .
    انتهى شكرا 2

  3. يقول حسن أبو عافية:

    كمان فيه صورة الغرب من جهة الشرق , كيف صورنا الغرب بكتابات قطب و البنا مثلا , و حتى اليوم , بمثل هيك كتابات و بالتالي كيف فهمنا “أنفسنا” من خلال هذا الفهم للغرب … الغرب عنصري و استعماري مقابل فتوحاتنا و علاقتنا بأقلياتنا أكراد و أمازيغ و مسيحيين و مسلمين غير سنة و غير شيعة اللي بنشوفها مثالية و تدرس … شو مطلوب من هيك تصور و لشو ممكن يوصلنا , معارك ضد مين و على أي أساس … مع الأخذ بالاعتبار إنو الغرب و أمريكا تحديدا بتشوف الصين عدوها المباشر و ليس الإسلام حتى داعش و أخواتها و إنه أهمية إيران الاستراتيجية من علاقتها الممكنة و المفترضة بالمشروع الصيني

  4. يقول مغربي:

    الغرب كيان محتل مستعمر يلغي الٱخرين ليكون هو و فلسفته الإقصائية العدوانية سبب مٱسي الناس الٱن.

    في عهد سيطرة الغرب كان هناك إزدهار على كل الأصعدة بما في ذالك صناعة الشر و أدوات الحروب المدمرة التي تروم السيطرة و القهر.

    أخطر أدوات العدوانية الغربية إلغاء الٱخرين و إستعبادهم و وصل شرهم أن الغربيين أصبح يأكل بعضهم بعضا فقامت الحربين العالميتين فمات عشرات الملايين و حين أنهك الغرب صدروا الحروب للعالم و النتيجة دمار شامل.

  5. يقول عبد الرحيم المغربي.:

    من جمالية هذا المقال..دقة الربط بين العنوان الإطار والمضمون التحليلي..بشكل يجعل القارىء متنبها إلى أن الطرح لن يكون تحصيليا بالمفهوم التقليدي.. ولكنه سيتجه في منحى مسائلة المفاهيم والاصطلاحات التي رسخت بقوة الاستيلاب والهيمنة السياسة..وليس بصدقية الواقع وميزان المنطق..؛ ومن هذا القبيل ما أصبح بديهيا عند المدرسيين والمفكرين على حد سواء من إرتكاز مرجعية الحضارات التي سادت العالم..على مؤثرات محددة ترتبط في معظمها بالتراث اليوناني..والفكر الروماني..وخاصة في ميادين الفلسفة والقانون وكثير من العلوم الدقيقة..في سياق محاولة نفي التأثير الشرقي عموما الذي يستوعب الخلفيات الآشورية والفرعونية والإسلامية..وهو توجه يقوم على نوع من الأنانية التدليسية التي تحاول خلق إطار من الفصل الدوني بين ماكان أوروبي التواجد مكانيا..وما كان خارج هذا الإطار الجغرافي..؛ ولم يقتصر الأمر على التدليس المفاهيمي في بناء المصطلح.. ولكنه شمل أيضا نزوعا نحو تحريف الأسماء والاحداث كما حصل مع شخصية إبن رشد في الفكر الغربي..والتغريبي.. وأتذكر في هذا السياق مقولة أعتقد أنها للمفكر الراحل حسن حنفي..من أن الجديد في الفكر والحضارة لايكون في الغالب إلا باعطاء أشكال جديدة لمواد قديمة..

اشترك في قائمتنا البريدية