محمد السرغيني ومحمد بنيس (3.3): كيف دافع الشعراء الرواد عن «يوتوبيا» الذات في سياق الحداثة؟

انتقلت أصداء السجال الفكري التي أثارتها حركة الشعر الحديث، إلى أطراف المحيط، بما في ذلك المغرب. بعد عهد من الجمود الشعري، أخذ مفهوم الشعر والوعي بوظيفته ورسالته يتطور عند شعرائه المحدثين، تحت تأثير التصورات والرؤى المتباينة التي عرفوها منذ بداية القرن العشرين إلى بداية الستينيات منه، متوترا بين هاجس القطيعة وواجب الاستمرارية. كما أن الخطاب النقدي للشعر ظل موزعا بدوره بين «تصور كلاسيكي» وآخر «فرداني متأثر بالثقافة الغربية» على غرار الاتجاهات السائدة التي أعادت إنتاج الخطاب السياسي، قبل أن تعتوره «أسباب الانقطاع والتعثر» كما يذهب إلى ذلك عبد الجليل ناظم في «نقد الشعر في المغرب الحديث».
بيد أنه في الربع الأخير من القرن نفسه، بدأت ملامح وسمات الشعر المغربي المعاصر تتضح شيئا فشيئا؛ إذ اكتسبت القصيدة جِدتها في «الرؤية والإنجاز الشعري» وتمكنت من اختراق الحدود التي حجبها عنها أفق حداثتها، بعد أن أعادت النظر في مسلمات وتوجهات وأشكال كانت تتحكم بها إلى وقت قريب. فقد كان معظم شعراء الحداثة في المغرب، كما يرى محمد لطفي اليوسفي، واعين بتخلف الممارسة الشعرية بالقياس إلى الشعر المشرقي، بحيث غلب عليها التقليد والاجترار، وهو ما وسم هذا الوعي بـ«الوعي الفاجع». وقد ساهم شعراؤه الأساسيون من رواد الحداثة والتجديد، عبر فترات متعاقبة منذ الاستقلال السياسي، في النقاش الدائر حول قضايا الشعر الجديد، وما ترتب عنها من مواقف ومواقف مضادة، ومن القول بـ«خصوصية» القصيدة المغربية؛ كأن يهتم محمد بنيس بما سماه بنية المكان في الجانب البصري للنصوص، وركز ضمن مفهومه للكتابة على الخط المغربي – الكاليغرافي. وربط عبد الله راجع مثل هذه الخصوصية ببحر الخبب، لأنه أقرب من الدارجة المغربية التي هي، في نظره، خببية بطبيعتها، كما هو مثبت في الفصل الثاني من دراسته «القصيدة المغربية، بنية الشهادة والاستشهاد».
وللاقتراب من أسئلة المعترك المغربي وما يبين عنه من أصالة أكثر من كونه صدى لِما يجري في المشرق الذي كان يتلقاه ويحاوره دون امتثالية، نكتفي بالتعرف على تجربتي شاعرَيْنِ مِمنْ كانوا أكثر وعيا بسؤال الشعر وضرورة تحديثه داخل شرطه الكتابي بما يعنيه من تحويل وقلب ومحو، وأكثر انشغالا بقضاياه ومعارفه؛ وهما محمد السرغيني ومحمد بنيس، اللذان ينتميان، عدا فضاء القصيدة، إلى فضاء فاس بوصفه أفقا شعريا ومجالَ تخييلٍ بعيد الأثر.

عَقْلنة الشعر ووَجْدنة الفلسفة

يكشف محمد السرغيني، في كتابه الحواري «هكذا تكلم الشاعر» الذي أعده الناقد حسن الغرفي، عن جوانب من سيرته الشعرية والثقافية التي تعكس فضاء تجربته باعتباره أحد رُواد الشعر الحديث في المغرب. ولد في فاس في بيت عائلة كبير في حومة (رأس الجنان) المشهورة، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وقرأ النحو العربي وعيون الشعر من كتاب «مجاني الأدب» وحصل في القرويين على معرفة تقليدية سرعان ما نفر منها إلى الحديث وحياة العصر. وبدأ، كأغلب المنتمين إلى جيله الشعري من شعراء الستينيات، رومانسيا بسببٍ من ظروف حضارية ونفسية عدا «الجو الرومانسي الذي خلقته بواكير الترجمات عن الغرب، وزكته مدرسة المهجر بموقفها الذاتي المتسائل». ثُم تلت ذلك مرحلة الاختمار، وامتدتْ عبر الدراسة في باريس وفي بغداد، وهي المرحلة التي وطدت وعيه بالذات عن طريق الوعي بالإنسان وضرورته للعالم، فمرحلة ممارسة هذا الوعي عبر الالتصاق بالواقع المعيش. لكن أخطر مسائل الشعر انتبه إليها هذا الشاعر، هي مسألة اللغة التي مرّ في تعامله معها بمراحل ثلاث:
أ ـ مرحلة اللغة المباشرة
ب ـ مرحلة تطويع القوالب القديمة
ج ـ المرحلة السيمانتية حسب تعبيره؛ إذ أن تعامله معها سيغدو تعاملًا دلاليا يكتسب قيمة الرمز حينا، وقيمة الممارسة اليومية اللغوية حينا آخر.
وقد انتهى به المطاف أن يُجرب مرحلة جديدة بعدما استنفدت ما سبقها أغراضها، إذ اعتكف على كتابة الشعر بلغة بدائية تهمل العلائق التركيبية والمورفولوجية، بقوله: «إن حروف العطف وأدوات التوكيد من شأنها أن تعطيني طابعا منطقيا للغة الخطاب، لكنها في الشعر تمسخ أكثر مما تبعث، ولذلك أكثرت من إهمالها إهمالا فتح عينيّ على القيمة (الفلاشية) للصورة الشعرية، فحيث تبطل جدوى الروابط اللغوية، يتاح المجال للصورة الشعرية أن تكون قصيرة معبرة، وألا تكون متداخلة أو مركبة».
وقد أفاد محمد السرغيني من هذا التوجه «البدائي» في استعمال اللغة، لاسيما بعد جنوحه إلى التصوف الذي تعامل معه كمعجم وليس كحضور، إلا أنه يُحذر من أن الاحتماء باللغة الصوفية يمكن أن يسقط في النمذجة، إن جُرد من قيمته الرمزية ودلالة مدلولاته التاريخية. إن مثل هذه اللغة – في نظره- يجب أن يُعاش لحظة الكتابة ويترعرع بعدها، إلى حد أن تتحول اللغة إلى نسيج شفاف الرؤية والرؤيا معاً، وبالتالي تفترض «أن الأنا وهي في أنويتها قادرة على انتشال الأنوات الأخرى من متاهة وجدانيات حسية، أو من وجدانيات روحية متكلفة» فيبطل أن يكون هذا الأنا «كائنا طقوسيا» وإنما هو «كائن فاعل في محيطه يَرى ويُرى، ينفذ إلى الأشياء وتنفذ إليه الأشياء حتى تلامس نسغه». ثُم يرى أن هذه اللغة الصوفية موجودةٌ في الشعر العربي وغير العربي (ابن الفارض، محمد عفيفي مطر، جلال الدين الرومي، رامبو، بروتون). فالشاعر عليه أن يستفيد من قراءته للتصوف مجموعة من الأشياء، منها التكثيف، ومنها الإيمان بقصور اللغة عن الإحاطة بالفكر والتخييل والتعبير عن الخوالج. كما عليه أن يهتم بحيوات المتصوفة، الذين عاشوا لحظات مأساوية كالحلاج، لكن بشرط أن يمزج البعد المأساوي بموضوع القصيدة مزجا دقيقا. فعن ديوانه «ويكون إحراق أسمائه الآتية» الذي وظف فيه سيرة أبي حيان التوحيدي، قال: «ليس التوحيدي قِناعا إنه وجه مضيء لي ولكل الذين يرفضون أن يتزلفوا لقاء كسب عاجل وأيديهم سفلى» ساخرا على لسانه «من كل رأس مغلوب بحرارته».

أفاد محمد السرغيني من هذا التوجه «البدائي» في استعمال اللغة، لاسيما بعد جنوحه إلى التصوف الذي تعامل معه كمعجم وليس كحضور، إلا أنه يُحذر من أن الاحتماء باللغة الصوفية يمكن أن يسقط في النمذجة، إن جُرد من قيمته الرمزية ودلالة مدلولاته التاريخية.

يعترف الشاعر فيما يخص صعوبة تلقي تجربته وفهمها، بأن الذين يقرؤون شعره يجدون عنتا كبيرا في التوغل في مضامينه وفي فهمها؛ من جملة هؤلاء الدارسين – ومعظمهم مغاربة – نذكر حسن الغرفي الذي يقول: «يظل النص الذي يكتبه محمد السرغيني عصيا متمردا لا يسلس القياد للقارئ وللناقد معا، إذا لم يكونا على بينة من مفاتيح مغاليقه» ويؤكد حسن مخافي: «أن النقد لم ينصف شعر السرغيني لأن قصائده تتمنع عن المقولات والمفاهيم المسبقة». ويتحدث رشيد المومني عن «تجربة شاعر عودنا على ممارسة انزياحاته العظمى عن المدونة الشعرية المعاصرة، بموازاة ما يُصدره من دواوين لا مجال لإخضاع هندستها إلى أي قوانين نظرية». مثلما يذهب عبد السلام المساوي بدوره إلى أن الكثير من القراء يشكون من «صعوبة تلقي شعر محمد السرغيني بمن فيهم المتخصصون، معترفين بأن أيا من المناهج لا يصمد أمام نصوصه».
يرجع الأمر إلى اعتبار تكوينه الفلسفي، ثُم إلى احترامه اللغة التي يكتب بها باحترام قوانينها ومعاييرها على نحو يستعصي فهمه من لدن قُراء منجذبين إلى ما يسميه بـ«تيار العجمة» لكنه يقوم على بناء علاقة بين محورين متعارضين، هما: «عَقْلنة الشعر ووَجْدنة الفلسفة». فهو يرى أن الشعر يمكن أن يمتح من العقل، من غير أن يعني ذلك استبعاد الوجدان نهائيا، وإنما يعني تزاوُجا بينهما تكون فيه نسبة العقل أقوى من نسبة الوجدان. التصوف، الفلسفة، ثُم الفن التشكيلي التي تأثر به مُبكرا منذ زيارته لباريس صيف سنة 1953، واستفاد منه شعريا من خلال الاعتماد على استكناه اللاوعي بقدر الاستغناء عن الحسية المبالغ في استغلالها، إلى حد تسطيح ما حقه أن يضرب بعيدا في العمق».
لقد جعل هذا المزيج من كتابة محمد السرغيني تشع بالمعرفة والعرفان من حيث إحالاتها ومرجعياتها المتنوعة (تاريخية، أسطورية، صوفية، فلسفية، كونية ومعاصرة) وتأثيراتها في صعيدي الشكل والمضمون بشَكْلٍ يفتح لغة الكتابة على تلفظاتٍ وأشكالٍ جديدة، ويعطي لذاتيتها مُمْكن تجسيدها سيرذاتيا. ويمكن أن نُمثل عن ذلك بالأعمال الأخيرة للشاعر التي تكشف اشتغالات البناء النصي- العرفاني، داخل تصور العلاقة بين «عَقْلنة الشعر ووَجْدنة الفلسفة»؛ مثل عمله «تحت الأنقاض فوق الأنقاض» (2012). وكان الشاعر واعياً بذلك وذاهباً إليه، وهو يجيب عن سؤالنا: إلى أي كنت تعتقد بأنك كنت تكتب سيرتك الذاتية شعرا؟ بقوله: «إذا لم أستطع أن أكتب ذاتيتي بالنصوص كتابة سيرذاتية، فهل معنى هذا أني عجزتُ عن كتابتها شعرياً، وإلا فلا داعي لكتابتها!».

كتابة المحو

أما محمد بنيس بوصفه هو الآخر شاعرا مغربيا من أطراف المحيط الشعري العربي، فإنه يستحضر، في عمله شبه السيرذاتي «كتابة المحو» (1994) شذراتٍ من «حالة كتابية شخصية لا تتنكر لمآزقها، في زمن دون جدران، تتشظى فيه القصيدة والحداثة» بقدر ما يتبادل والكتابة المصاحبةَ في أفقٍ نظري يقترب عبره منها ويضيء نصوصها الغائبة وعتمات تلازمها، وما يفضي إليه من انشغالٍ بقضايا تأبدت في ثنائيات مثل: المغرب والمشرق، المركز والمحيط، القديم والحديث، الذات والآخر.
لا يمكن أن نفصل هذا العمل للشاعر عن تصوره النظري والمعرفي من جهة، وكذلك عن كتابته السيرذاتية «شطحات لمنتصف النهار، العبور إلى ضفاف زرقاء» التي يستعيد عبرها شذراتٍ من سيرة طفولته الأولى، وموت الأم، ودخول الجامع، ومراهقته في فاس وفضائها المعماري الخاص، وسنوات التعليم في الثانوية أو الجامعة في «ظهر المهراز» قبل أن يتلبس بالشعر بحثا عن حُرية مفتقدة. ولم يكن هذا البحث منذ البداية سالكا من خلال التوتر بين حرية الذات والسلطة التي تحاول أن ترغمها على قيم الواحدية والتنميط بسبب تبعية الثقافي للسياسي، أو بسبب غياب «الحياة الشعرية» في فاس، ثُم بسبب قوانين المركز الشعري التي كانت تُفرض من خارج. إلى جانب ما كان يشعر به في «عبور اللغات» من عربية الدارجة المغربية إلى عربية القرآن، ومن العربية الحديثة إلى الفرنسية، من «حُبْسة» لم يخترها، كأنه منفي فيها. وقد استتبع كل ذلك، سؤالٌ حاد مثل هذا الذي يطرحه: «ما معنى أن تكتب الشعر بالعربية في المغرب؟». حدية السؤال تكمن أساسا في وضعية الشعر المغربي اللامُفكر فيه، ثم في اختيار الذات عزلتها التي بها تبني أساسيات التأمل الشعري بقدر ما تبني مسار كتابتها الخاص. فالشاعر يُعبر الشاعر عن سخطه مما كانت تعيشه القصيدة ليس في المغرب، بل في المغرب العربي بأسره، من وضع تقليدي حتى السبعينيات. وهذا الأمر جعل من استراتيجية الكتابة عنده ذات وجهين أساسيين؛ نقد التصور التقليدي، وتشييد خطاب حديث بعيد المدى.
كان عبوره إلى كلمات الشعر الأولى في خلوة الذات بحثا عن مأواها الرمزي، منذ «ما قبل الكلام» (1969) إلى «ورقة البهاء» (1988). ورغم أن بدايات كتابته الشعرية، كما الأمر بالنسبة إلى معظم مجايليه، كانت واقعةً تحت تأثير ممارسات الشعر المعاصر التي أمضاها بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأدونيس وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور، إلا أنه كان منجذبا بصدد البحث إلى ممارسات أخرى لتجارب كتابية معزولة، تختم إمضاءه الشخصي بما ليس لغيره، وهي تأتي من أوروبا، ومن قديم المشرق العربي ومغربه. فهوى يرى أن الشعر المغربي، المكتوب بالعربية الفصحى، لم يُقدم له جوابا، وأنه يريد الانفكاك من وهم الاستمرارية. كانت استراتيجية البحث والسؤال هو ما كان يُقربه من الشعر ويمنحه رؤية مغايرة للذات والعالم، بقدر ما يحميه من شرك الأيديولوجيا المعممة. يقول محمد بنيس: «من نهاية الستينيات إلى نهاية السبعينيات أخذتْ بداياتي الشعرية في طرح أسئلتها على مفهوم الشعر ووظيفته في المغرب. هذا هو الأسبق. ما كان يثيرني هو استمرار القناعة كشرطٍ شعري».

لم يفتأ محمد بنيس، عبر تاريخ كتابته وتجربتها داخل المحو والفراغ، يُقدم تأملاته النظرية التي يستعيد بها شرط هذه الكتابة، فيما هو يفتحه على زوغان الإبدال واللانهائي، سواء في علاقته بجسد الشاعر، أو بتجربته الشعرية التي وعتْ شَرْطَ سيرورتها وزمنها الانتقالي.

يربط محمد بنيس ممارسته الكتابية بتاريخها وتأريخها للذات الكاتبة وزمنيتها، وينطلق في تصوره للكتابة من فعل المحو الذي يخترقها، وعبرها يخترق الحدود بين الداخل والخارج، بين الأدب والفكر، بين الشعر والنثر، بين السواد والبياض، فيجعل هذه الكتابة شفيع التجربة التي تنتهي لتبدأ، ومحوا لكل ما يمكن أن يفضي إلى نهاية معلومة؛ ومن ثمة «تكون مُمجدة للفراغ، للحلزون، لانفتاح الدائرة، وتكون هناك هذيانا ينكتب بالإيقاع الشخصي».
قد يكون الحذف، حذف سنتين من عمر الشاعر ويُتْمه المبكر، عدا الشعور باغترابه في مجتمع «لا شعري» من علائم كتابته التي تتسمى بالمحو والفراغ والهذيان من البدء، ورحيله الهامس في «التمزقات والصدمات التي انحفر على الجسد ثُم الكتابة». بعبارة أخرى، صارت الكتابة عنده مواجهة مع الموت والغياب، في ما هي تختار حُريتها بلا مهادنات.
عبر هذا التصور الذي ترتد إليه مجمل أعماله الشعرية، وجها لوجه مع خطاب النهايات المنتصر، يعتقد محمد بنيس أن ممارسته في الذهاب – الإياب بين النظرية والنص، منذ «بيان الكتابة» المؤسس، لا توضع ضمن تيار الحداثة السائد، بل تجعل بحثها عن القصيدة المحلوم بها مترابطا مع بحث الذات عن مسكن حُر لها في العالم، ومع حضور الجسدي عبرها؛ وهو بحثٌ يسعى إلى «إقامة نسب شعري يمحي علاماته التاريخية» ولا سلطان فيه للأسلاف، بقدر ما هو يُقيم عبوره على «حدود الخطر» التي يختزلها في حدين رئيسين:
أ- أزمة البيت التي يفسرها من خلال وضعية بناء البيت الجديدة، التي تنسف الحدود بين الشعري وغير الشعري، وتتيح لإيقاع الذات الكاتبة أن تتعرف على مغامرة الدلالية التي تشتغل في الحبسة والهذيان بقدر اشتغالها خارج المرجعية وثبات المعنى، مثلما ينسف بالضرورة ثنائية الشكل والمضمون.
ب – بياض الصفحة، صفحة الشعر اللانهائية التي تضاعف، نتيجة الحبسة والهذيان، من جمالية الانشقاق والنقصان.
هذان الحدان المتساندان هو ما يمنح الكتابة صفة الخطاب حين تنجز «الفعل الشعري» باعتباره فعلا تؤسسه الذات عبر اختراقها للغة، كما يمنح الجسد فاعليتها التي تجعل من «إبدال بناء البيت الشعري» ضرورة وجودية بها يتحقق معنى «الإنصات لحبسة التركيب والنحو» عبر الصفحة المتعددة التي لا تنتهي، من قصيدة إلى قصيدة، بوشمها، وأثرها ودمها الشخصي. تأخذ القصيدة، هنا، صفة الكتابة التي تتوالد داخل الشكل وتكتمل حركاتها، بشكل غير قابل للفصل، في البناء وإعادة البناء مما «يُجَسْدِن» تفضيتها وماديتها في آن.
غير أن الشاعر يبدي، بخصوص تلقي قصيدته، عدمَ رضاه عن النقاد في تعاطيهم مع مثل هذه الكتابة التي تتسمى بالمحو والهذيان والفراغ وتقيم في «المكان الوثني» لأنهم يبحثون عن المعنى، وعن أصل الصورة والقصيدة الممتلئة بالكلام، داخل ما يسميه «تقليدية مُعممة» و«انتصار المعلوم والجاف في الشعر العربي». ذلك ما يقوده إلى توسيع الرؤية: فبعد أن يؤكد على أن شعر الحداثة العربية يتجلى في «صيغة مختبر» يجد أن «القصيدة العربية الحديثة تعيش أزمة نموذجٍ شعري، هو نموذج الحداثة، بتعارضاتها البعيدة» فيقترح الرؤية إلى الشعر العربي ضمن مُحدداته في العالم، ومآل الأنواع الأدبية، ودائرة الثقافة العربية.
وإذن، لم يفتأ محمد بنيس، عبر تاريخ كتابته وتجربتها داخل المحو والفراغ، يُقدم تأملاته النظرية التي يستعيد بها شرط هذه الكتابة، فيما هو يفتحه على زوغان الإبدال واللانهائي، سواء في علاقته بجسد الشاعر، أو بتجربته الشعرية التي وعتْ شَرْطَ سيرورتها وزمنها الانتقالي. يقول: «إن أكتب، كمغربي مخصوص، في العقود الأخيرة من القرن العشرين، يعطي لمشروع البحث والاختيار حالةً لا تشبه غيرها. إن الشعر ليس إضافةً إلى الشهادة، بل هو الشهادة شعريا على تجربة العبور من زمن إلى زمن».

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عزالدين الماعزي:

    مقاربة متميزة…

اشترك في قائمتنا البريدية