اللسانيون الذين أصرف أيامي في تدريس نظرياتهم والكتابة في اختصاصهم يشعرونني أحيانا بالقلق على نفسي، ليس لأنهم مغرقون في تجريد المعاني، وفي استعمال الرموز التي ربما تعذر على ذهن الطالب البسيط أن يفهمها بسهولة؛ بل لأنهم قد يعتقدون في كثير من الأحيان أن الأشياء تمر في اللغة على ما يرام، وأنه متى شئت أن تتحدث تحدثت بما تريد نفسك، وأن هناك مسارا واضحا للكلام يبدأ من التفكر إلى التقطيع، مرورا بإيجاد المداخل المعجمية والتركيبية المناسبة ومسارا آخر للفهم والإدراك، يبدأ من الاستماع ويصل إلى تفكيك الشيفرات اللغوية قبل أن تحوز الدلالة المرادة.
يبدو لي الأمر وأنا أحدث نفسي بهذه الأشياء أنها ليست بهذه البساطة، ولا بهذا التخطيط، فأنا حين أكلم نفسي بمثل هذه المسائل أكون في حرج، فهل أنا أتكلم أم أنا أفهم وأسمع؟ وأنا حين أكلم نفسي هل أستعمل كلاما عاديا وأركب بين الألفاظ وأختار العلاقات الإعرابية المناسبة، ثم حين أسمع لنفسي هل أسمع أصواتا كالتي أسمعها حين يكون الكلام صريحا عاليا؟
حديث اللسانيين عن النفس وهي تخاطب نفسها (اُنظر كيف ارتبك الكلام وأنا أستعمل نفس مرتين) ليس مفيدا، لأنه كلام غير مقطع صريح التقطيع، ثم هو كلام بالمعنى المجازي للعبارة، فليس من دليل عليه أنه كلام إذ هو يدور كما يقول إخوان الصفاء بأصوت نفسية وغير صريحة ولا حديث للسانيين إلا عن اللغة المنطوقة نطقا واعيا وصريحا. يبقى حديث النفس في جزء منه مشغلا ماورائيا يهتم به علماء النفس، أو غيره من العلوم التي تعنيها خلجات النفس، وهي تخلو بالحديث إلى ذاتها.
يكون حديث النفس إلى النفس بالأصوات المنطوقة والمسموعة أحيانا، وكم رأينا من الناس في هذا الشارع، أو في تلك الخلوة يحدث نفسه بصوت مسموع هذا الضرب من الكلام لا يعنينا هنا، لأنه كلام ككل كلام معترف به لسانيا. ما يعنينا ههنا هو حديث النفس إلى النفس بلا صوت مسموع أو مهموس.. بلا صوت أصلا هو حديث لا تسمعه إلا الذات المحاورة لنفسها.. يكون ذلك حين تضمر في نفسك قولا يبدو لك مفهوما، ويبدو لك وكأنك تسمع نفسك تقوله لكن بلا صدى للأصوات. يحتاج المرء أن يكلم نفسه ساخطا ثائرا عليها، لأنها أوقعته في الصراع أو في الخسران المبين والشماتة المدوية، أو أن يكلمها مزهوا مفتخرا بها لأنها رفعته إلى أعلى عليين. يحتاج ذلك فرارا من أن يرمى بالاعتراف بالخطأ الصريح أو بالصلف الكاذب، لكن قد يحدث أن يخاطب المرء نفسه عند الشعور بالغربة في وطنه وبين ذويه، وهذا مثالي الذي سأرتكز أكثر عليه.
أبسط أشكال الغربة وأكثرها تعقيدا أن تختلي الذات بنفسها لتحدثها عن غربتها هي تفعل ذلك اختيارا، أو قسرا، فأكثر أشكال الغربة تعقيدا أن تجدك تختار انزواءك لكنك في اختيارك تكون مجبرا على هذا القرار. دعنا من الجبر ههنا وتعالَ نتحدث عن مسالك الاختيار، من ذلك أنك حر في اختيار لغتك النفسية المفضلة يمكن أن تتحدث بعاميتك لتقول كلاما تونسيا مثلا من نوع «قداهْ (كم) آنَا غْرِيبْ» أو تدندن بلحن أغنية نجاة الصغيرة «يا غربتي..» وإن كان السياق غير السياق. يختلف الأمر بين الطريقتين في حديث النفس. في الأولى تقرير لحقيقة كنتَ تجهلها وأنت الآن تعلم بها نفسك: الحقيقة ليس أنك غريب بل كم أنت غريب. وفي الطريقة الثانية تستعمل أغنية لتقرير حالة الغربة مع نقل لسياقها الأصلي، من غربة فعلية بين حبيبين في المكان، إلى غربة عن محيطك في الرؤية والوجدان.
وربما لبست وأنت تحدث نفسك ثوب الفصاحة العربية، ستكون إزاء تجربة حميمة تعبر عنها بأسلوبك، وفي لغة فصيحة تختارها لأنك ستجدها أقرب إلى نفسك الغريبة.
الطريف في حديث النفس بالعامية أو بالفصحى، أنت لا تقول كلاما يسمع ولا تستعمل في الحقيقة مفردات فعلية، وإنما يتهيأ لك أنك تستعملها وتركبها وتقولها بلا صوت، وتسمعها بلا أذن. ثم أنت لا تحتاج إلى ما يسميه اللسانيون «متلقيا» أو «مستمعا» ستجدك القائل والمستمع، والغريب أنه ما من قول بالمعنى الكلاسيكي حدث. أن تحدث نفسك فلا تحتاج من المقام الاجتماعي إلى علاقات، ومن المقام النفسي إلى أن تراعي «المقامات» و»الانفعالات» لن تحتاج إلا إلى المقام الثقافي لا بمعنى أن تراعي سنن التحدث إلى الناس، بل أن تكسرها وتلغيها وتؤسس لسنن الحديث مع نفسك أن تحدثها كأنك كنت تنساها، أو كنت تخشاها، وزالت الحجب الثقافية. قد تقول لها وأنت تواجهها بأصواتك النفسية التي ستترجم إلى لغتك المألوفة: أنا غريب! أو كم أنا غريب. حين تتكلم مع نفسك ستستعمل ضمير المتكلم فتجمع لحمتك مع نفسك، أو ضمير المخاطب: كما أنت غريب. فتشق الإزار عنك وعن نفسك وقد كان يلفكما.
لا شك في أن هناك في الأصوات النفسية، شيئا من الترجمة الذهنية التي تجعلك تتلقى، أنت الذي أوهمت نفسك بالكلام، لغة فعلية ملفوفة بالكلام المألوف هي ترجمة تجعل النفسي محسوسا. هل هناك أذن باطنة تسمع الكلام الباطن؟
يستعمل ضمير أنتَ عند المجابهة أو عند الشعور بالأمل والدفع نحو الانطلاق والمغامرة، كل ذلك ممكن لكن أن يتحدث المرء إلى نفسه بضمير الخطاب فذلك يعني أنه إزاء شخص يعرفه أو لا يعرفه يريد أن يحاسبه أو يوصيه بشيء.
يمكن أن تحدث نفسك عن غربتك باستعمال الاستعارة فتقول: كم أنت منفيّ! النفيُ استعارة (بالمعنى الحقيقي الذي يفيد الاقتراض) لتجربة ليست فعلية، بل لتجربة قريبة منها. المنفي هو صفة للشخص الذي أبعدوه قسرا عن دياره وعن وطنه. لكن المنفيّ هنا مقيمٌ في دياره قاطن بين أهله بيد أن ملائكة الأنس فارقته وتلبس به شيطان الوحشة. المنفيّ صفة في الأصل فهي اسم مفعول دال على عدم الثبات على هيئة، لكنها حين تنتقل بالاقتراض إلى هذا الاستعمال تصبح صفة مشبهة. الصفة الأصلية لا تكمم فإما أن تكون منفيا، وإما الا تكون ليس هناك تدريج في الصفة، بل هناك تعيين لها من غير تسوير. لكنها وهي تنتقل إلى الصفة المشبهة تصبح مكممة وثابتة ومتلبسة بالمتصف بها. حديثي النحوي هنا هو حديث تقريبي لأنه يتناول ما يمكن أن أترجمه بأصواتي النفسية إلى عبارات فصيحة.
لا شك في أن هناك في الأصوات النفسية، شيئا من الترجمة الذهنية التي تجعلك تتلقى، أنت الذي أوهمت نفسك بالكلام، لغة فعلية ملفوفة بالكلام المألوف هي ترجمة تجعل النفسي محسوسا. هل هناك أذن باطنة تسمع الكلام الباطن؟ ليس لنا إلا أن نسأل رغم وعينا الحدسي، أن مثل هذه الأذن لا يمكن أن تعمل بالشكل الذي تعمل به الأذن العادية، بل إنه لا وجود فسيولوجيا لعضو يمكن تسميته الأذن الباطنة. الحدس يقول لنا إنه يمكن أن نستمع إلى ما نقوله لأنفسنا عن أنفسنا. نحن دخلنا في هذا السياق ضمن ما يعرف بالعلاج العرفاني، الذي يقول شيئا مفيدا، هو أن عدم الدقة في أفكارنا الباطنة يقود إلى مزاج سيئ، مثلما ذكره بروس كامبال Bruce Campbell وبالتالي فإن القدرة على صياغة أفكارنا الباطنة حتى لو كانت بحديث النفس إلى النفس سيكون في ذاته شيئا جيدا. هذا يعني أن عبارة من نوع «كم أنا غريب في وطني» هي شكل واضح من صياغة فكرة واضحة، بل قل هي درجة من الوضوح يمكن أن تقود إلى ضرب من الراحة، التي هي كالعلاج الذاتي لهذا الألم. إلا أن القول «كم أنت منفيّ!» يمثل درجة أخرى من الوضوح لا تجد في المنفى العبارة الأوضح، بل تجد في استعارة عبارة مجاورة لها ما يجعل المعنى أكثر إيغالا في وصف الغربة. حديث كهذا لا يكتفي بأن يصف وصفا واضحا، بل يسبر غور شعور غير نمطي أو يفكر بشكل لا مألوف في تجربة مألوفة.
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية
صراحة (د توفيق قريرة)، مع نفسه، بخصوص نظريات لغة دولة الحداثة، لبرمجة الآلة/العالة/الروبوت، فهم حاجة الإنسان، لتنفيذها بلا (فلسفة) اعتراض أو مشاكل أو حتى تشكيك من الأساس، في عنوان (كَمْ أنْتَ مَنْفِيٌّ!) تختصر مشاكل مناهج التعليم اللغة، بالذات، في دول لغة القرآن وإسلام الشهادتين، والأهم هو لماذا؟!
من وجهة نظري على الأقل، الأسباب:
– اللسان في الكلام شيء، واللغة في التدوين شيء آخر.
– جمع لتدوين القراءات العشر، للغة القرآن وإسلام الشهادتين، في نص لغوي واحد،
أخترع الثنائي أبو الأسود الدوؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي، بعد نقل عاصمة الدولة إلى بلاد وادي الرافدين، بلاد تدوين اللغة الأبجدية (المسمارية/السومرية) وليس بلاد تدوين اللغة الصورية (الهيروغليفية/الفرعونية)، في وادي النيل، أو لغة الأشكال (الماندرين، التقليدية في تايوان، أو المبسطة في الصين) بواسطة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،
كما فعل قبله الاسكندر المقدوني (إمبراطور الروم) في نقل عاصمته إلى بلاد وادي الرافدين، وليس بلادي وادي النيل، وقبله فعلها كورش (إمبراطور الفرس) في نقل عاصمته إلى بلاد وادي الرافدين،
بعد إطلاق سراح اليهود من السبي البابلي، الذي قام به (نبوخذ نصر)، من أجل الاستفادة منهم إقتصاديا، بينما اليهود استفادت في تدوين (التوراة) أو كتاب العهد القديم من كتاب الإنجيل،
تدوين لغة جديدة، بميزة عبقرية، كما تُنطق تُكتب، على مستوى الحرف أو الكلمة أو الجملة، والدليل على ذلك، نحن لا نحتاج إلى سؤال أي إنسان أو أسرة أو شركة، كيف تكتب الأسم، لو قاله لنا كلاماً،
بينما في لغات أهل الروم (الغرب) أو أهل الفرس (الشرق)، عكس ذلك، تحتاج طلب كيف يقوم بالتدوين، ولذلك ليس عجباً أنها استخدمتها في تمثيل أصوات وكلمات وجمل، اللغة العثمانية، أو اللغة الفارسية، والأوردية، والچاوية وغيرها.??
????
الحديث مع النفس تأمن فيه من زلات اللسان، و لا تشعر معه بالخوف أو الريبة و إن ساورك شعور بالخجل من بعض ما تحدثك به نفسك فإنك قادر على أن تخفف من وطأة هذا الشعور. السر الذي تبوح به لغيرك هو جسر تعبر فيه من جزيرتك إلى جزيرة أخرى. الفكر الذي يتحفنا به الأستاذ توفيق هو أيضا جسر يعبر فيه من جزيرته إلى جزرنا. ما أقرب كلمة العبور إلى كلمة التعبير!