بسبب موقف إليوت المضاد للمدينة ورموزها، استعار الشاعر حسام السراي هذا الموقف ليتماهى مع نظرته لمدن بلاده.. يشاهدها وهي تحترق في مدونته الشعرية “لا إليوت آخر لمدينة تفاوض الدخان” الصادرة عن دار درج للنشر عام 2023.
يقدم السرّاي العديد من الرواة والشخصيات عبر مشاهد متغيرة لمدن وأماكن تلخص المفارقة التصويرية.. الإحساس الصادق لدى الشاعر الذي يضعه في اختبار دقيق بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، ولبشاعة الراهن تتشكل المفارقة، كأن الشاعر يفقد توازنه حين ينظر إلى هذا البلد، ليقول إن كل ما يدور في أنحائه غير منطقي. صورة حياة عقيمة، كما هي نهايات لندن، مدن يملؤها الضباب والدخان:
أب/ له الشوارع/ له الأرباب/ له كراهيات تعاضدت عليه للنبش في ظهره
ابنة/ ابنة السوق ابنة الخوف/ ابنة فراق الغائبين
ابن/ابن الأشلاء المتناثرة في دهر فاسد
يمضي بنا السراي في قصيدته “هوية أحوال لعائلة تفاوض الدخان”، مستعرضاً أنماط الموت عبر آلاف السنوات من الدخان لأفراد العائلة الستة، وهم يطمرون ماضيهم البعيد، عائلة تفاوض دخان الآلاف من السنوات. لكن هذا الحزن كله وهذا الانكسار المرير، الذي يعبر عن فاجعة أم أدركت حكم الزمان، ينتهي بالقصيدة يتبدل فيها الصوت الحزين، صوت الأم، تتراجع اللغة النادبة المتأوهة، وتترك مكانها إلى لغة مقدامة وواثقة:
أم/ لا تحب الشعراء/ ولا تنتظر إليوت آخر/ ليكتب عن يبابها/ لا تطمئن للمؤرخين/ تخشى نسيانهم صدور صبيانها الممزقة/ لا تستمع للخطباء الجهوريين/لا تصفق للسلاطين/ تكره نهاياتهم غير السعيدة/ لا تقرأ الكف/ عيشها الحالي نفس صاعد/ أفزعه هباء العالم.
و”الأرض اليباب” قصيدة إليوت التي نشرها للمرة الأولى عام 1922 في مجلة “كان” هو مؤسسها ومحررها، القصيدة ولدت في مقبرة، جاءت معبّرة عن خيبة أمل جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتصوّر عالماً مثقلاً بالمخاوف والذعر، عالماً ينتظر إشارة ما تؤذن بالخلاص. بينما ولدت قصائد السراي في أرض تحفل بالشهداء عندما تنشر الحرب أثوابها، ويصطلي في مجامرها الفقراء، تطحننا العصبيات والطوائف والأحزاب، وتضرم نار القبائل (هناك من يتهيأ لجمع أحجار العشيرة، كي لا يرجم بحجر من ثأر/ قصيدة ثأرعشائري)
صور عن الرعب والوحشة في المدن العراقية التي تواجه موتاً يكتب عنها السراي بمشاعر موسومة بنوع من الألم والسخرية المريرة، والتساؤل عن معنى هذا الموت:
الحكومة متقشفة/ النفط فيها للشيعة/ الكهرباء للسنة/ المال للأكراد/ أسطورة الخراب الجديد/ الحكومة متقشفة/ في عاصمة الحكومة ساحات/ تطير فيها وجوه الشهداء/ قصيدة الحكومة متقشفة. وضد هذا المشهد الذي يرسم صورة البلاد تبرز المواجهة، المواجهة هنا تقاوم القاتل ولكنها تصغي في الوقت نفسه إلى نداء يسمعه الشاعر:
أتهجى اسم الناصرية على مهل/ ألاحق دمعتها الحارّة على البلاد/ ألاحق نبرتها العالية/ ألاحق أقدام نسائها وهنّ يعلنّ: نحن هنا/ وهناك في الساحات.
في نص آخر نقرأ شعراً موسوماً بغنائية مشبعة بحزن تمتزج فيه مشاهد المأتم بالأعراس، مشاهد تصور أبناء الموصل:
(الساكنون في الأيسر والأيمن/ أقفال بيوتهم تتخفى من بنادق الجنود/ وما يتعالى من أنين خلف الجدران/ كلنا أبناء دولة الأخطاء/ في هذا الهلاك تحت قباب الجوامع والكنائس).
المنكبون على ضياء رأس السنة، المتحلقون حوله، يتحسسون أصابعهم، وهم من طال حزنهم حتى صار الغناء:
اشتقنا لمعنى أن نكون أحياء
السراي ينسج شعره بأحلام، فاذا بها تسقط فوق أرض تجتاحها الرايات السود.
وهو يبتعد بلغته عن قاموس القتل، راح يبحث عن جمالية قوامها النسق الملتبس، المتحرر من قيود البلاغة اللغوية، النسق بمواصفاته المقصودة والواعية، نسق هادف، أو مرتبط بفهم للشعر يبتعد فيه عن المباشرة والخطابية والوعظ، شعر يميل إلى ما هو يومي ومعيش، أي الاهتمام بالعنصر، أو ما يسمى بالتفاصيل، شعراء هذا التوجه ينظرون في حركة الأشياء حولهم، يحاورون عالمها. يمكن للقراءة المتأنية أن تلتقط الخيط الداخلي لعالم هذه النصوص، أو أن تصل إلى رؤية ما يوحدها في التفاصيل المحتشدة فيها. الشاعر يلاحق دمعة الناصرية الحارّة على البلاد كما يرقب في الشطرة والرفاعي وسوق الشيوخ كيف تنفخ الأم المفجوعة في روح أبنائها:
أرقب كيف يودع الشبان ثورتهم من سطوح البيوت
هل كان حسام معنياً بموضوع المدينة في كتابه الشعري، المدينة كفكرة ورمز ذات أبعاد اجتماعية وسياسية؟ في الموصل وتلعفر والحسكة كما في ساحة الطيران.. مدن آفلة يحاول أن يمسك بها السراي، لكن عبثاً هي مدن هاربة حتى الأحلام تبدو كمنازل سيفارقها. المدن كانت هاجس الشاعر ووسيلته، لكنها ماثلة أمامه حين يغيب عنها أو يعود إليها بين ذاكرة الصورة وذاكرة الكلمات، لم تأته هذه المدن وهو مستلق على قفاه، هي بالأصح غرزت في رأسه وجوداً شعرياً متدفقاً، بل هي جدل مع الزمن ومع ساكنيها ليكتب عن يبابها.
هي ابنة الأشلاء المتناثرة في دهر فاسد
مدن تطمر ماضيها البعيد
وتركض نحو حاضر أبعد
البيوت عصفت بها القذائف، تتنفس هواءً مشبعاً
بدخان آلاف السنوات
ألبوم الطوابع آخر قصائد مدونة السراي (من طابع 1 إلى طابع 5)، ترى هل يصح أن نرد المعنى إلى الصورة، أم العكس؟ إننا هنا إزاء بعد جديد طالما يشار إليه كجدلية بين الصورة والمعنى. بما تتضمن من حضور تقني وانفعالي وفكري. المقاربة هنا بين طابع الرسالة ومضمونها الذي تحول إلى خطاب للقتل في سنوات الرعب والإرهاب، الضحايا هم أولئك الأطفال الذين توسطوا الطوابع بصور دائرية الشكل تحيلنا إلى فوهة البندقية، في طوابع أخرى صور لجماجم، وجندي احتلال، وصراخ، واستغاثات، وناجون من الموت:
البوم الطوابع/ قبل أن يحفر من ضياعه قبراً/ احتمى بعتاب من يتحضر لميتته.
من التعسف أن نقرأ نصوص الألبومات بمعزل عن النص الكامل، لكن ما يتشكل بين السطور من دلالات، وفق البناء الكولاجي للنص، يأخذ بنا إلى عالم مبعثر، متهاوٍ، كأنه حطام، أو مجموعة صور تمزقت الروابط بينها، هو عالم المدينة التي يحاول النص أن يشير إليها بأقل ما يمكن من الكلام، فيختار عناوينه الأكثر دلالة، ويؤلف بينها في هذا التشكل الممتد بين مكونات الصورة، والمعاني التي يلخصها النص.